هكذا انفصل العلم عن الفلسفة

49756183_478402372564514_4401930166561931264_n

التداخل ما بين  الفلسفة والعلم قديمًا

كانت الفلسفة في العصر القديم متداخلة مع العلم، أو بالأحرى، لم يكن هناك ما يُميّز العلم عن الفلسفة. فالعلم الحديث، بمناهجه الصارمة الهادفة إلى القياس والتحقق، لم يكن قد أبصر النور بعد، في حين أنّ كلمة “الفلسفة” كانت لا تزال تشمل جميع ميادين المعرفة.

وفي هذا السياق يقول أرسطو:

«نعرّف الفيلسوف كإنسان يجنح إلى أن يملك معرفة شاملة كلّما استطاع إلى ذلك سبيلاً».

وفي القرن السابع عشر كانت الفلسفة مرادفة للفيزياء. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أنّ كتاب نيوتن الرئيسي الذي وضع فيه تصوّره الخاص للميكانيكا كان عنوانه: “مبادى رياضية لفلسفة الطبيعة”.
وفي نص ذائع الصيت من كتاب “مقالة في المنهج”؛ يقول ديكارت إنّ «الفلسفة هي بمثابة شجرة: شرايينها الميتافيزيقا، جذعها الفيزياء، وأغصانها الميكانيكا والطب والأخلاق».

والحال أنّ الميتافيزيقا بوصفها فلسفة أولى (مبحث في الله والنفس والمعرفة بشكل عام) ليست وحدها -بالإضافة إلى الأخلاق- بالنسبة لديكارت، كما بالنسبة لنا، مندرجة في إطار المذاهب الفلسفية. بل ثمة علوم بالمعنى الحديث للكلمة، كالفيزياء أو الميكانيكا، أو حتى تقنيات، وعلوم تطبيقية كالطب، تشكّل جميعها جزءً من الفلسفة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الأقسام الأربعة التي تشكّل مبادئ الفلسفة هي على التوالي: مبادئ للمعرفة الإنسانيّة أولًا، مبادئ للأشياء المادية، ثانيًا، مبادئ للعالم المرئي، ثالثًا، ومبادئ للأرض أخيرًا.

تحرُّر المذاهب العلميّة

ولكن طردًا مع تقدُّم الزمن انسلخت مختلف العلوم عن الفلسفة التي كانت لا تزال بمثابة معرفة كونية مثلما تنسلخ الأغصان عن جذعها المشترك. فالرياضيات قد انعتقت من وصاية الفلسفة مع هندسة “اقليدس”، وتلتها الميكانيكا مع “أرخميدس”. ثم جاء علم الفيزياء مع “غاليليو ونيوتن” وقد خُلع عنها ثوب الميتافيزيقا الذي يَلتحف به. وبعد ذلك جاء دور الكيمياء التي وُضعت هذه المرة في مواجهة الخيمياء مع “لافوازييه”. وفي القرن التاسع عشر ستنجز البيولوجيا استقلالها منذ عام ١٨٠٢ مع “لاماريك”، ثم بصورتها الأكثر نضجًا مع “كلود برنارد”.

والحال هل ستحتفظ الفلسفة بمجال محدّد ينتمي إليها وإليها وحدها؟ حاول البعض تحديد هذا المجال بدراسة الإنسان. فسقراط، الذي ترك الكون للآلهة، وجد في تأمل الذات الشغل الشاغل للفلسفة: «إعرف نفسك بنفسك».

ولكن حتى العلوم ما لبثت أن دخلت ميدان دراسة الإنسان. فأوغست كونت انتصب في منتصف القرن التاسع عشر، كمؤسس لسوسيولوجيا علمية. فالسوسيولوجيا والسيكولوجيا تقترحان اليوم تطبيق المنهج الاختباري والقياسي على الأفعال الإنسانيّة. وفي التعليم الثانوي بفرنسا تُدرَّس السيكولوجيا ضمن حصة الفلسفة، ولكن كل الجامعات تدرج قسم السيكولوجيا في عداد أقسام كلية العلوم. وحتى أنّ “قيادة الوعي” نفسها قد تحوّلت مع التحليل النفسي إلى تقنية علميّة!

وهكذا فإنّ مجال الفلسفة قد انحسر أكثر فأكثر حتى كاد يختفي كلياً. ويعتقد أوغست كونت أنّ الوعي العلميّ يمثّل المرحلة الأكثر نضجًا في مسيرة العقل البشري. فمع بدء التاريخ، كان الإنسان مأخوذًا بالتفسيرات التيولوجية (فالعاصفة جرى تفسيرها على أنها تقلُّب في أطوار إله الرياح، إيول). ولاحقاً، استُعيض عن الآلهة بقوى مجرّدة، ذاك كان التفسير الميتافيزيقي (فُسّرت العاصفة على أنها الفضيلة الديناميكية للهواء). وفي النهاية أبصر النور التفسير المعاصر، الوضعيّ أو العلميّ، الذي سيستبدل سؤال؛ لماذا تحدث الأشياء؟ بسؤال؛ كيف تحدث الأشياء؟. إنّ الأمر يتعلق ههنا بربط الظواهر الواحدة مع الأخرى واكتشاف القوانين الحتميّة للطبيعة التي تتمخض عنها هذه الظواهر نفسها. فالرياح هي تحرُّك الهواء من الضغط المرتفع إلى الضغط المنخفض للغلاف الجوي (يمكن اليوم للمراقبين الجويين في مختلف المحطات التي ترصد الأحوال الجوية توقّع هبوب العاصفة).

العقل العلميّ إذن طرد شيئًا فشيئًا التيولوجيا والميتافيزيقا من الرياضيات -التي كانت لا تزال تُعدّ مع فيثاغورس سحرًا وعلمًا باطنيًا للأعداد- والفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والسوسيولوجيا، وأصبحت العلوم، في هذه المرحلة التي لا تخلو من تعقيد متزايد، أكثر وضعيّة وأكثر علميّة إن جاز التعبير.

المصدر:
Denis Huisman st André Verges, Métaphysique,Fernand Nathan, page 20 – 21 – 22

ترجمة: مايكل عطاالله
مراجعة علميّة/لغويّة: مايكل ماهر

تحرير: نسمة محمود

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي