الفيروس: الميت اللاميت!

Virus

||||

الميت اللاميت هو العنوان الأصليّ لرواية برام ستوكر الشهيرة «دراكولا – Dracula»، قبل تغييره إليه بعد مطالعته لإحدى كتب «ويليام ويلكينسون – William Wilkinson» الكاتب الأمريكي(1). وفيها البطل مصاص دماء يتأرجح بين الحياة والموت، فهو يعيش خاويًا بلا روح طالما بَعُدَ عن البشر، لكن فور الاحتكاك بهم، يجدون أنيابه الضارية ترتشف إكسير حياتهم بشغف. وفي النهاية يبتسم وسائل الحياة يقطر من بين شفتيه معطيًا إياه نشوة أن تكون حيًّا(2). هكذا الحال في «الفيروس – The Virus»، فالفيروس عبارة عن جزيء من الحمض النووي «Nucleic acid particle»، مُغلّف بغشاء بروتيني «Protein coat/Capsid»، وهذان يُعرفان كوحدة فيروسية واحدة بـ«القًفَيصَة النووية – Nucleocapsid» وهي مصطلح دمجيّ لكليهما(3). في حالة عدم اتصاله مع عائل يظل خامدًا في صورة كريستالية لا حياة بها، لكن فور اتصاله بواحد نجده ينبض بالحياة ويشرع في التعايش معه، أوتدميره، بشكل مباشر أو غير مباشر. لذلك احتار العلماء في تحديد صورته الحيوية، لكن الذي ليس عليه خلاف، كونه مثيرًا للدهشة لدى معشر البيولوجيين باختلاف تخصصاتهم.

يعتقد بعض العلماء أن الفيروسات تنحدر من «وحيدات الخلية – Prokaryotes»، لأن بها أساسيات الحياة الدقيقة. لكن لكونها لا تنبض بالحياة في نصفها الأول من الوجود، لذلك لا يصح وضعها في مملكة الـ«وحدانات – Monera». وهذا لم يقلل من شأنها على الإطلاق، فلها أثر عظيم على أشكال الحياة المختلفة. خصوصًا النباتات، وهنا كانت البداية!

الفيروس، بداية غيّرت علم الآفات:

في عام 1892 تم اكتشاف أول فيروس من قبل عالم النبات، وأحد مؤسسي علم الفيروسات «ديميتري لفانوفيسكي – Dmitri Ivanovsky». فأوضح أن هناك آفة دقيقة غير بكتيرية تصيب نبات التبغ، مما تساعد على تبرقشه تغير لونه، فأسماه بـ«فيروس تبرقش التبغ – Tobacco mosaic virus» وكان شائعًا وقتذاك(4). وفي 1935 قام عالم الكيمياء الحيوية «ويندل ستانلي – Wendell Stanley» بتنقية الخلاصة السائلة لـ900 كيلو غرام من أوراق التبغ، وعمل على تصليب مُرشّحها فيما يعرف كيميائيًّا بعملية الــ«تبلور – Crystallization» أو ما يُعرفها الكيميائيون بشكل شائع: الكرستلة(5). فنتجت له كريستالة كالإبرة، وثَبُتَ لاحقًا أن الشكل الأصلي للفيروس هو قضيب عبارة عن غلاف بروتيني بداخله جزيء من «الحمض النووي الريبوزي – RNA»، مع العديد من المكونات الأخرى(4).

فيروس، الفيروس، فيروسات، تربقش، ميكروسكوب، TMV
«شكل لبلورة فيروس التبرقش تحت الميكروسكوب»

الفيروسات: تشعّب لا ينتهي!

الفيروسات مُصنّفة حاليًّا إلى 21 عائلة، كل منها تحتوي على فصائل متعددة. يتم تصنيف الفيروسات حسب الحجم، الشكل، التركيب الكيميائي، التركيب الجيني، وطريقة تضاعف الحمض النووي. وهناك عامل إضافي لكنه غير منتشر بكثرة، ألا وهو وجود الـ«حافظة الفيروسية – Viral envelope» من عدمه، مثل «فيروس الإيدز – HIV». وهي غشاء مكون من دهون الجدار الخلوي للخلية العائل، بجانب بعض البروتينات الدهنية الخاصة بالفيروس، يحيط بالقًفَيصَة النووية حاميًا إياها من الجهاز المناعي للخلية(6). الحديث التفصيلي فيهم تُكتب فيه مجلدات، لذا الآن دعونا نستعرض أثنين منهم مباشرة: الشكل، والتركيب الجيني.

1 – الشكل الفيروسي:

تختلف الأشكال بين المعقدة والبسيطة، المُغطاة بحافظة، والمتروكة بدونها. المكعبي، والمثلثي، والحلزوني، والمستدق، إلخ..

لكن عند تصنيف الفيروسات حسب الشكل، فيجب أن نتحدث عن أسهل طريقة للتشريح الظاهري: التناظر عند الفصل. بمعنى إذا وجهنا محورًا طوليًّا أو أفقيًّا يقسم جسم الفيروس إلى أنصاف متساوية، سنحدد إذا كانت متماثلة أم لا. وبناء عليه نُطالع الشذوذ البسيط أو الحاد عن التماثل المطلوب، فبذلك نُصنّف الفيروس حسب التناظر. وللتناظر نوعان: حلزوني، ومتعدد الأوجه.

* التناظر الحلزوني – Helical Symmetry:

تتحول بعض الوحدات البنائية البروتينية الخاصة بالفيروس «Protomers» إلى تتابع حلزوني مهول يحيط بالحمض النووي. فعدد الـ«Protomers» في كل لفة حلزونية عامل تصنيفي هام. وتختلف مدى صلابة السطح الخارجي له حسب نوع الفيروس. فتتدرج من الصلد، مثل «فيروس تبرقش التبغ – TMV»، إلى المرن الخيطي، مثل «فيروس سينداي – Sendai virus». بالإضافة لكون الشكل الحلزوني يُعطي الفيروس خصائص ثلاثية الأبعاد مثل الطول والعرض والارتفاع. وبالطبع يجب الأخذ في الحسبان باحتمالية وجود حافظة أم لا(6). لذلك فالتصنيفات الفرعية متعددة ومع اكتشاف أنواع جديدة كل يوم تزيد القائمة طولًا.

فيروس، الفيروس، فيروسات، TMV، تبرقش
«التشريح الظاهري للـ TMV»

* التناظر متعدد الأوجه – Icosahedral Symmetry:

هذا النوع يتميز بالتناظر الهندسي البحت. فهو عبارة عن جسم ذو 20 وجهًا مثلثيًّا متساو الأضلاع، تتمركز في مفاصله 12 زاوية. فيعتبر تعديلًا أشد تعقيدًا من متعدد الأسطح المتعارف عليه بعلم الهندسة.  يعتمد العلماء في تصنيفه على زاوية النظر، فباختلافها تختلف الرؤية الداخلية للمجسم ثلاثي الأبعاد. فبثلاثة زاويات للنظر، سنجد ثلاثة أنواع مختلفة من الطيّ الداخلي –أي تركيب الأسطح على بعضها كي تُعطي شكلًا فرعيًّا بداخل الشكل الكلي كما هو موضح بالصورة-. سنجد الخماسي، الثلاثي، والثنائي(7). مما يبرهن أن بعض الفيروسات لديها آليات حماية صلدة وقوية ومعقدة لأقصى حد. وهذا النوع تحديدًا يتمثل بوضوح في مجموعة «الفيروسات الغدانية – Adenoviruses» المسببة لإلتهابات اللوزتين.

فيروس، الفيروس، فيروسات، طيّ، شكل
«شكل توضيحي لآلية الطيّ»

2 – التركيب الجيني الفيروسي:

الفيروسات –كأي كائن حي- لها حمض نووي، والأحماض النووية تختلف في أنواعها من كائن لآخر. منها الذي يحتوي على شريط حمض نووي ريبوزي منزوع الأكسجين مزدوج «dsDNA»، أو آخر منفرد «ssDNA». ونفس الشيء بالنسبة للحمض النووي الريبوزي. وكذلك يمكن أن يكون الحمض النووي شريطًا قابلًا للترجمة لبروتين مباشرة، أو يكون معكوسًا فيحتاج لتصنيع شريط آخر مقابل له. أو يتم تصنيع DNA  من RNA ثم يتم فصله مرة أخرى لتتم ترجمته. لذلك تعددت الأنواع. وبناء عليه في عام 1970 قام العالم «دايفد بالتيمور – David Baltimore» بتصميم جدول تصنيفي للفيروسات حسب نوع الحمض النووي وطريقة نسخه أو تضاعفه بداخل الخلية العائل، وأسماه بـ«تصنيف بالتيمور – Baltimore Classification» وقسمه إلى 7 تصنيفات رئيسية، كل تصنيف به عدة عائلات كلها تتبع نفس المنوال في عملياتها الحيوية بداخل الخلية العائل(8).

الفيروسات والتكاثر: العيش، اِلتهامٌ للآخرين!

يسعى الفيروس ليكون حيًّا، فبمجرد دخوله الخلية يستخدم عدة آليات تضمن تحقيق ذلك. وبما إن البيكتيريا هي الأشهر لإيضاح تلك الآليات، فسنتحدث عن الــ«فيروسات البيكتيرية – Bacteriophage». بعضها يتطفل على العائل ويعيش معه جنبًا إلى جنب، مستوليًا على عضّياته لخدمة كليهما. والبعض عدائيّ بشدة، فيستولي على العائل مُدمرًا حمضه النووي، واضعًا خاصته محله، ثم يشرع في صناعة المزيد من أقرانه، وفي النهاية يفجر الخلية ليخرج، قاتلًا إياها. فدورة الحياة الأولى تسمى «المستذيبة – Lysogenic »، أو التعايشية. أما الثانية فتُدعى «التحللية – Lytic »، أو التدميرية(9)، والثانية تستلم عمل الأولى في بعض الحالات، كيف ذلك؟ هيا نتناولهم بشيء من التفصيل.

* الدورة المستذيبة الفيروسية – Lysogenic viral cycle:

وهي آلية تعمد إلى التعايش مع العائل، فما يفعله هو دمج حمضه النووي بالحمض النووي الخاص بالخلية العائل. مما ينتج عنه حمض نووي جديد مزدوج تم الحفاظ فيه على الخصائص الوراثية للخلية البيكتيرية، بالإضافة إلى خصائص أخرى دخيلة من الفيروس. وبهذا يتم تناقل الصفات الوراثية الجديدة عبر الأجيال مع كل انقسام خلوي جديد يحدث. وبعد عدة أجيال يحدث استيلاء تام من قبل الفيروس على الخلية وينتج العديد من أقرانه ويهجر الخلية قاتلًا إياها(9). ودورة الحياة هذه على وجه الخصوص تزيد من نسب توالد الفيروس بشكل خطير على المستوى البعيد. ومثال على هذا النوع لدينا فيروسيّ « HSV1/HSV2».

* الدورة التحللية الفيروسية – Lytic viral cycle:

وهي الأشهر، ففيها الفيروس لا يكترث بحياة العائل نهائيًّا ولا يهتم حتى بأن يدمج نفسه معها بشكل أو بآخر. فبمجرد أن يلج الحمض النووي الفيروسي الخلية، مُحملًا ببعض من بروتيناته الخاصة، تاركًا الكبسولة البروتينية فارغة بالخارج، يستولي على الريبسومات العائمة بالخلية –وهي المصانع التي تعمل على تخليق البروتين-. ثم باستخدام حمضه النووي، يقوم بتخليق المزيد من بروتيناته الخاصة. وأخيرًا يقوم بمضاعفة حمضه الخاص، خالقًا المادة التي ستتلحف بالبروتينات المسبقة الصنع. مما ينتج عنه في النهاية أفراد فيروسية جديدة مطابقة للأصل. وبعدما ينتهي الدخيل من عمله، يخترق جدار الخلية باحثًا عن الخلاص، وتُصرع الخلية جرّاء ذلك(9). أشهر مثال على هذا النوع فيروس «T4 phage».

*ملاحظة: قد تكون كل دورة منفصلة، أو يكون عملهم تكامليًّا. فعندما تنتهي الدورة المستذيبة من عملها، تشرع الدورة التحللية بالعمل من منتصفها. أو قد تستولي التحللية على الخلية منذ البداية.

فيروس، الفيروس، فيروسات، دورة، حياة، عدائي، متعايش، طور، مستذيبة، تحللية
«رسم توضيحي يُبين تعاقب دورتيّ الحياة: المستذيبة والتحللية»

كيف تتخصص الفيروسات؟

الفيروسات متخصصة كالإنزيمات، فالإنزيمات تتفاعل مع مكونات عضوية محددة بناء على الشكل أو المستقبلات المتواجدة بها. وكذا الحال في الفيروسات، فمنها ما يهاجم الجهاز التنفسي تحديدًا كفيروس البرد. ومنها ما يختص بالدماغ، القلب، أو الخلايا المناعية. وتعتمد درجة تخصصها على مدى ملائمة الغشاء البروتيني للفيروس، مع المستقبلات المتواجدة على سطح الخلية المراد غزوها. فكل خلية تحمل على سطحها الكثير من تلك المستقبلات التي تعمل على تنظيم العديد من العمليات بالنسبة لباقي أفراد طاقم عمل جسمك. لكن الفيروسات طورت آليات تتعرف عليها، ثم تندمج معها، وهنا يبدأ الغزو. يمكن أن تتكاثر مباشرة كما أسفلنا، أو تدفع الخلية لفرز إنزيمات مذيبة بداخلها لتقتلها حرفيًّا من الداخل للخارج، أو تجبرها على انقسام خلوي مفاجئ مما يجعلها خارجة عن السيطرة، مُسببة ورمًا سرطانيًّا، أو خلايا سرطانية متحركة(10)(3).

 الفيروسات المُسرطِنة:

السرطان  معروف بكونه انقسام مستطرد للخلية دون رادع، وأسبابه تعددت بين الكيماويات، الأشعة، والفيروسات. وهذا محور الحديث هنا.

كل خلية تحتوي بداخل كروموسوماتها على الشريط الوراثي الذي يحمل بين طياته الجينات المسئولة عن تصنيع كافة شيء، بروتينات، دهون، إنزيمات مساعدة، والكثير بالمنتصف. لكن هناك بعض الجينات ذات الاحتمالية العالية في تسبيب السرطان فيما بعد، وتلك تُسمى بـ«عوامل مُسرطنة أوليّة– Proto-Oncogenes». فتحت وطأة أدنى انتقال كروموسومي أو طفرة فجائية، تسبب السرطان. هذا إذا كانت وحدها، لكن ماذا إذا هاجم فيروس طبيعي تلك الخلية وهي في هذا الوضع الحرج؟

في هذه الأثناء الخلية تكون في وضع نسخ فائق قبل الشروع في انقسام متتالي، فببساطة عندما يلج الفيروس الخلية واضعًا حمضه النووي بالداخل، يدمج حمضه النووي مع حمض الخلية النووي خارج النواة. فينتج عنه حمض نووي مزدوج يحمل الجينات الفيروسية، بجانب العوامل المُسرطنة الخاصة بالخلية. ثم يدخل هذا الأخير بالنواة ليتم نسخه ويتم حمل النسخ الجديدة في خلايا جديدة دائمة الانقسام لا حد لها. فنجد ورمًا سرطانيًّا في تلك المنطقة، أو خلية سرطانية متحركة في تلك(11)(12)(3).

محاربة الفيروسات: الجزاء من جنس العمل!

بالرغم من ضراوة الفيروسات ومدى كونها –ظاهريًّا- شديدة التعقيد والعدائية، إلا إن تفاعلاتها الحيوية لمفتاح لحل لغزها. فطوّر العلماء آليات عديدة لمحاربتها تعتمد بشكل أساسي على نتائج دراسات متخصصة في نمط حياتها بكل أطواره. سنتحدث عن ثلاثة آليات تتخذ مبدأ: «العين بالعين، والسن بالسن» في محاربة الفيروسات.

1 – العبث مع الإنزيمات الفيروسية:

الإنزيمات هي ما تعمل على فك وربط وترجمة الشريط الوراثي إلى بروتينات تساعد الفيروس في عمله. فصنع العلماء تركيبة معينة ترتبط مع إنزيم الــ«بلمرة – Polymerase» الذي يعمل على وضع الوحدات البدائية للشريط الوراثي جنبًا إلى جنب، مما ينتج عنه في النهاية عملية بناء مذهلة لنسخة مطابقة من الشريط الوراثي الفيروسي. فعندما ترتبط التركيبة معه، تمنعه من العمل نهائيًّا، فبالتالي يتوقف الفيروس عن النسخ. وهذا العلاج يؤت مفعوله على الخلايا المصابة فقط، ويترك السليمة دون مساس(3).

2 – تقييد الجينات الفيروسية:

كل فيروس له تتابع جيني مُحدد. وكما أسلفنا، هذا التتابع هو الذي يُدمج مع حمض العائل ويساعد على سيطره الفيروس عليه. فقام العلماء بصناعة شريط RNA أو DNA مُكوّن من القواعد النيتروجينية –وهي التي تبني الجين الذي يُعطي الصفة الوراثية بداخل الشريط النووي- المقابلة لتلك التي يحملها الفيروس. وعندما يتم زرعه بالخلية المصابة، يقوم بالارتباط مع الشريط النووي الفيروسي، لكن الخدعة هنا في تكوين تتابعات قاعدية معينة توقف عمليات النسخ والترجمة تمامًا بالنسبة للشريط الجديد. ففي النهاية يَبطُل عمل الفيروس ويتم الحد من تفشيه إلى سائر خلايا المنطقة المصابة(3).

 3 – الهجوم بالأجسام المضادة ضد الفيروس:

عرفنا مسبقًأ أن الحمض النووي للفيروس تتم حمايته بغشاء أو كبسولة بروتينية «Capsid»، ويتم التعرف على الخلية المراد غزوها عبر المستقبلات المتواجدة على سطحها الخارجي، لكن الجديد أن عملية الارتباط تتم عبر تلاحم جزء غائر من الكبسولة البروتينية –تحديدًا رابطة ببتيدية محددة في الجزء السفلي من الكبسولة- بالمستقبل القائم على سطح الخلية. فطوّر العلماء –بمساعدة الهندسة الوراثية- أجسام مضادة معملية متخصصة في التعرف على تلك الرابطة الببتيدية الوحيدة، فبالتالي تلتحم معها وتقوم بعدة عمليات تهدف في النهاية إلى تحلل الفيروس والقضاء على حمضه النووي قبل ولوجه الخلية(3).

البرمجة الجينية للفيروس، سيطرة وتقويض:

العالَم البيولوجي لم يتوقف فقط عند الحد من تفشي الفيروسات، بل استخدمها كأسلحة ضد أمراض أخرى عديدة، يتربع على عرشها السرطان بالطبع. نتيجة لتطور علم الهندسة الوراثية أصبح من الممكن التعديل على أي شريط وراثي بشكلٍ يسمح بتحويل خصائصه من أي صورة لأخرى. فبناء عليه قام العلماء بتعديل الصيغة البنائية للعديد من الفيروسات كي تهاجم نوع معيّن من الخلايا مثل الخلايا السرطانية. وسُمي هذا العلم بـ«العلاج الفيروسي – Virotherapy». وينقسم إلى ثلاثة محاور علاجية كالآتي:

1 – علاج فيروسي للسرطان – Oncolytic virotherapy:

وهي فيروسات مُعدلة جينيًّا كي تتعرف على الخلايا السرطانية وحدها وتسعى لتدميرها، دون أدنى مساس بالخلايا السليمة. بدأ العمل بها في خمسينات القرن التاسع عشر، حيث كانت تجارب زراعة الأنسجة وعوامل تآكل الأورام قيد التطوير. ومع الوقت أصبح بمقدور تلك الفيروسات المُعدلة مهاجمة الهدف بشكل مباشر بسبب نهمها للأورام، أو القضاء عليه تدريجيًّا بطريقة غير مباشرة عبر قطع الإمداد الدموي عنه(13). ويُنصح بعد قراءة هذا المقال بمشاهدة الحلقة الـ19 من الموسم الثاني للمسلسل الطبي الشهير House M.D بعنوان «House vs. God». والتي بها شخصية ثانوية تم تقليص حجم ورمها السرطاني بفعل فيروس «القوباء الجلدي – Herpes encephalitis» المنتقل عبر اللمس(14).

2 – علاج جيني فيروسي – Viral gene therapy:

الكثير من الفيروسات بمرور الزمن طورت آليات تُحيل بينها وبين الجهاز المناعي للكائن الحي، ومن تلك الفيروسات هو «القوباء – Herpes». فاستغل العلماء تلك النقطة وشرعوا في تعديله –هو وأقرانه- جينيًّا بشكل يُعطل خاصية النسخ والتكاثر به، فيقتصر عمله فقط على الحفاظ على شريط وراثي محدد بداخله يتم نقله لخلية محددة لعلاج مرض ما، أو الحول دون حدوثه كإجراء وقائي(15). فعلى سبيل المثال قام العلماء بتطوير جين بداخل فيروس، عند التحامه مع خلايا الوعاء الدموي الذي يُغذي الورم السرطاني، يقوم بمنع عملية «تخليق الأوعية الدموية الحديثة من أخرى متواجدة – Angiogenesis». فبالتالي يضيّق الخناق على الورم تدريجيًّا حتى يحد من تفشيه(16).

3 – علاج مناعي فيروسي – Viral immunotherapy:

الجهاز المناعي تتم استمالته للعمل على القضاء على الدخيل عبر كود مُعيّن يُميز هذا الأخير، ويُعرف بالــ«مستضدات – Antigens»، وهي مواد بروتينية تعمل على قمع الدخيل(17). وتلك المستضدات تعمل عمل المستقبلات المتواجدة على سطح الخلية، فهي تجذب الأجسام المضادة كي تلتصق بها وتقوم بعملية القتل البطيء للدخيل. اكتشف العلماء أنه عبر التعديل الجيني للفيروس، يمكن جعله خاملًا، لكن مع الحفاظ على المستضدات المتواجدة على سطحه سليمة. فعندما نُدخل هذا الفيروس المعدل إلى الجسم، يتعرف عليه الجهاز المناعي ويبدأ في البحث عن كل الأجسام الغريبة التي تحمل هذا الكود عبر الجسد كله. فبالتالي هذا الأمر يُعزز من كفاءة الجهاز المناعي ضد فيروس متواجد بالفعل، أو يُعطي مناعة وقائية ضد ذلك الفيروس إذا أتى مستقبلًا(18). على عكس الــ«تطعيمات – Vaccines» التي تستعين بميكروب أو بيكتيريا مقتولة أو مُضعَفَة كي تُحفز الجهاز المناعي، فتلك الطريقة تستخدم فيروسًا بكامل خواصه الظاهرية الواضحة كي تحقق نفس الغاية(19).

 

~

وإلى هنا نكون وصلنا لنهاية موضوع اليوم، نرجو أن يكون أشبع فضولكم عن تلك المخلوقات الدقيقة المثيرة للدهشة. فتناولنا بالمُختصر المفيد كينونة الفيروس، كيف يتعرف على هدفه وكيف يشرع في الاستفادة الكلية أو الجزئية منه. علمنا كيف يعيش، وكيف يتكاثر، وكيف لنا أن نكافحه، وبل ترويضه لصالحنا. بالتأكيد سنتحدث مستقبلًا عن الفيروسات من جديد. لكن حتى ذلك الحين، ستستمر الفيروسات في التحور، وتستمر العقول في التقدم، والأبحاث في التطور إلى ما لا نهاية!

~

إعداد: أحمد سامي سعيد مسعود

#الباحثون_المصريّون

———————————–

* المصادر:

  1. Wilkinson W. An Account of the Principalities of Wallachia and Moldavia. Longman; 1820. 324 p
  2. Dracula.pdf [Internet]. [cited 2017 Jul 31]. Available from: http://www.planetebook.com/ebooks/Dracula.pdf
  3. Hopson JL, Wessells NK. Essentials of Biology. McGraw-Hill; 1990. 984 p. , from p.303 to p.357
  4. ZaitlinDiscoveryCausalAgentTobaccoMosaicVirus.pdf [Internet]. [cited 2017 Jul 31]. Available from:http://www.apsnet.org/publications/apsnetfeatures/Documents/1998/ZaitlinDiscoveryCausalAgentTobaccoMosaicVirus.pdf
  5. Kay LE. W. M. Stanley’s Crystallization of the Tobacco Mosaic Virus, 1930-1940. Isis. 1986 Sep 1;77(3):450–72.
  6. Gelderblom HR. Structure and Classification of Viruses. In: Baron S, editor. Medical Microbiology [Internet]. 4th ed. Galveston (TX): University of Texas Medical Branch at Galveston; 1996 [cited 2017 Jul 31]. Available from: http://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK8174/
  7. Mahy BWJ, Regenmortel MHVV. Desk Encyclopedia of General Virology. Academic Press; 2009. 644 p.
  8. The Baltimore Virus Classification [Internet]. [cited 2017 Jul 31]. Available from: https://www.boundless.com/microbiology/textbooks/boundless-microbiology-textbook/viruses-9/classifying-viruses-119/the-baltimore-virus-classification-616-5794/
  9. Lodish H, Berk A, Zipursky SL, Matsudaira P, Baltimore D, Darnell J. Viruses: Structure, Function, and Uses. 2000 [cited 2017 Jul 31]; Available from: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK21523
  10. Lin L-T, Richardson CD. The Host Cell Receptors for Measles Virus and Their Interaction with the Viral Hemagglutinin (H) Protein. Viruses [Internet]. 2016 Sep 20 [cited 2017 Aug 1];8(9). Available from: http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC5035964/
  11. Morales-Sánchez A, Fuentes-Pananá EM. Human Viruses and Cancer. Viruses. 2014 Oct 23;6(10):4047–79.
  12. McLaughlin-Drubin ME, Munger K. Viruses Associated with Human Cancer. Biochim Biophys Acta. 2008 Mar;1782(3):127–50.
  13. Russell SJ, Peng K-W, Bell JC. ONCOLYTIC VIROTHERAPY. Nat Biotechnol. 2012 Jul 10;30(7):658–70.
  14. House vs. God [Internet]. House Wiki. [cited 2017 Aug 1]. Available from: http://house.wikia.com/wiki/House_vs._God
  15. Progresses towards safe and efficient gene therapy vectors [Internet]. [cited 2017 Aug 1]. Available from: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4741561/
  16. Adair TH, Montani J-P. Overview of Angiogenesis [Internet]. Morgan & Claypool Life Sciences; 2010 [cited 2017 Aug 1]. Available from: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK53238/
  17. pmhdev. Antigens – National Library of Medicine [Internet]. PubMed Health. [cited 2017 Aug 1]. Available from: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmedhealth/PMHT0022034/
  18. Hegde NR, Rao PP, Bayry J, Kaveri SV. Immunotherapy of viral infections. Immunotherapy. 2009 Jul;1(4):691–711.
  19. Clem AS. Fundamentals of Vaccine Immunology. J Glob Infect Dis. 2011;3(1):73–8.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي