يوجد بين صفحات التاريخ فصولٌ كاملةٌ طويلةٌ تروي ذكريات البؤس البشريّ وتفاصيله، معاركٌ ومجازرٌ وحروبٌ تمتد لعقودٍ تأخذ أرواح بعض الآلاف لتليها أوبئةٌ وأمراضٌ تأخذ حياة بعض الملايين. مع الوقت سيدرك أي قارئٍ أو دارسٍ للتاريخ إن صفحات هذا المجلّد الضخم أو ذاك لا يختلف كثيرًا عن أقرانه من المجلدات الضخمة الأخرى ذاتِ الأغلفة الجلدية السميكة والعناوين الطويلة المكتوبة بخطٍ ذهبيّ عريض؛ فجميعها بشكلٍ أو بآخر أقربُ إلى سجلِّ وفياتٍ ضخم، دفتر يعدد كم مات نتيجةَ حملةِ الملك فلان الحربية على بلدٍ لم يعد موجودًا منذ خمسة قرون، أو عدد ضحايا وباءٍ لا يَعرف أحدٌ من أين ظهر قبل أن يمحو نصف سكان قارةٍ غافلةٍ تعيسة الحظ. مع الوقت تبدأ تلك الأرقام المهولة تفقد تأثيرها من التكرار لتصبح مجرد أرقامٍ مجردةٍ لا تعني الكثير لدى القارئ الذي يصاب بقدرٍ من البلادة أثناء تصفّحها، ورغم ذلك فهناك استثناءات، فبين الصفحات العديدة من قصص المعاناة المتشابهة تطلّ بين السطور أحيانًا أمثلةٌ يصعب إغفالها، جرائمٌ تبلغ فداحتها حدًّا لا يمكن معه تجاهلها أو المرور عليها كأيٍّ من أقرانها في صفحات الكتاب، ومجاعة «القفزة الكبرى إلى الأمام» هي إحدى تلك الجرائم التي لا يمكن إغفالها حتى في وسط تاريخِ بلدٍ اعتادت صفحاته تعديد أرقام الضحايا. فما هي القفزة الكبرى إلى الأمام؟ وكيف تَحول هدفٌ بسيط في تحقيق النهضة إلى أكبر جريمةٍ في التاريخ الإنسانيّ؟ هذا ما تروي قصتَه السطور المقبلة.
خلفية تاريخية.. «ماو» وثورته
وقف «ماو تسي تونج» يخطب من أعلى بوابةِ ساحة تيانانمين في 1 أكتوبر 1949 معلنًا تشكيل جمهورية الصين الشعبية، في خطابه بشّر ماو بمستقبلٍ شيوعيٍّ مشرقٍ للشعب الصيني الذي عانى عقودًا طويلةً من الحرب وغلاء الأسعار وسوء الحكم. كانت سياسة ماو تعتمد على الشعبوية، ففي حين كانت الحكومة السابقة تعتمد على دعم النُخب الصينية الغنية، طبّق ماو سياساتٍ جعلته يتمتع بشعبيةٍ بين الجماهير، حيث تضمنت تلك السياسات خفض الإيجارات وإعادة توزيع الأراضي على المزارعين في الريف. غير إن تلك السياسات جاءت تحمل معها طابعَ الديكتاتوريّة، حيث بدأت الحكومة في إعادة تنظيم المجتمع الصيني في ظلّ الحزب الشيوعيّ وبدأت في تصنيف السكان الصينيين إلى مجموعاتٍ منفصلةٍ مثل الفلاحين ومُلاك العقارات والعمال والرأسماليين، تلا ذلك إصدار بطاقاتِ التسجيل التي تُلزم كل شخص بالعمل في مكان معين.
كانت هذه الإجراءات بمثابة آلية لرقابة الدولة على كلّ شيءٍ من حصص الإعاشة إلى الإسكان إلى الزواج، بينما تضْمن في الوقت نفسه قدرة الحزب على توجهه وتعبئة الجماهير سياسيًا في صالحه من البداية، كانت تلك الحملات الجماهيرية تستهدف بعض الرذائل الاجتماعية مثل إدمان الأفيون والدعارة، ولكن سرعان ما استهدفت الحملات أعداء الثورة، وخلال الحرب الكورية (1950-1953) استخدم الحزب هذه الآليات في تجنيد الجماهير و حثّ السكان على حماية حليفها الكوريّ الشماليّ ضدّ التحالف الذي قادته الولايات المتحدة. عززت هذه النجاحات الإيمان بالحزب وأعدت الشعب الصيني لدعمِ البرامج الراديكالية التي وعدت برفع الصين من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الاشتراكية ثم الشيوعية، وفي نهاية المطاف النمو والازدهار المجتمعي والاقتصادي.
بعد الحرب الكورية، بدأت الحكومة الصينية بعزمٍ في تحقيق الاشتراكية من خلال التنمية المحلية من خلال سياستين، التصنيع في المدن والتعاونيات الزراعية في الريف. صاغ الصينيون نهجهم في التحديث على شكل الخطط الخمسية التي كان يستخدمها الاتحاد السوفيتي منذ عام 1928 وهي مفارقة مأساوية نظرًا إلى أن تلك السياسات في ظلّ السوفييت أدت إلى مجاعةٍ أودت بحياة ما بين ستة إلى ثمانية ملايين شخص. ومع ذلك، شهدت الخطة الخمسية الأولى للصين نجاحًا كبيرًا في البداية من خلال الاستثمار في المصانع المملوكة للدولة التي أنتجت أشياءً مثل الجرارات والآلات والأسمدة الكيماوية بمساعدة المخططين السوفييت.
كانت الخطة الصينية في التنمية تهدف إلى تنمية الحضر من خلال استخدام أرباح الزراعة من الريف الصيني حيث يعيش حواليّ 75 في المائة من السكان، ومن ثم بدأت الدولة في إنشاء التعاونيات الزراعية بشكلٍ جماعيّ ومكثف. كان النظام في بداية الثورة قد صادر الأراضي من كبار الملاك وأعاد توزيعها على المزارعين الذين أصبحوا يعيشون ويزرعون سويًّا في ظلّ التعاونيات بهدف تجميع الموارد لتحقيق الكفاءة، حيث كانت الحقول التعاونية الشاسعة أكثر ملاءمةً لتقنيات الزراعة الحديثة كثيفة الإنتاج على عكس النظام السابق حيث كانت توجد ملايين الأراضي الصغيرة العائلية ذاتِ الإنتاجية الضعيفة. كان الهدف النهائي من وراء التعاونيات هو إلغاء الملكية الخاصة بشكلٍ كامل وتحقيق الشيوعية، التي من المفترض أنها ستجلب الازدهار للجميعِ بالتساوي.
بدأت التعاونيات على مراحل، ففي البداية كان من الممكن أن تشترك عشر عائلات طواعيةً معًا في تلك المرحلة المبكرة من الاشتراكية، وافقت كل عائلةٍ على مشاركة عملها وأدواتها وحيوانات الجرّ مع أعضاء العائلات الأخرى الآخرين مع الاحتفاظ بالملكية، وهي علاقة كانت موجودة تاريخيًّا داخل المجتمعات الزراعية ولكن أُضفي الطابع الرسمي عليها الآن بموجب عقد. كان تشكيل «تعاونيات المنتجين الزراعيين منخفضة المستوى» هو الخطوة التالية، حيث تتألف من خمسة وحدات وكل وحدة تتكون من خمسين أسرة حيث ساهمت كل منها بما تملكه من مواردٍ بما في ذلك الأرض في التعاونية، غير إن العائلات احتفظت بملكية قطعة الأرض الخاصة بهم وتم تعويضهم بناءً على مساهماتهم في الأرض والعمل.
نظرًا لأن هذه الخطوات المعتدلة نحو التعاونيات قد أثبتت فعاليتها، انتقل ماو بحلول أواخر عام 1955 إلى المرحلة التالية والأكثر إثارةً للجدل من خلال ضمّ ما يقرب من خمس تعاونياتٍ منخفضةِ المستوى في تعاونياتٍ رفيعةِ المستوى تضم حوالي 250 أسرة لكل منها. ألغيت الملكية الخاصة للأراضي و الحيوانات و الأدوات وأصبحت جميع الموارد ملكًا للتعاونية وأصبح العمل هو المعيارُ الوحيد للتعويض.
أسفرت الخطة الخمسية الأولى عن نتائجٍ مبهرة. توسع الاقتصاد الصيني بنحو 9 في المائة سنويًا، مع ارتفاع الإنتاج الزراعي بنسبة 4 في المائة تقريبًا سنويًا، وانفجار الإنتاج الصناعي إلى 19 في المائة فقط سنويًا. والأهم من ذلك، أن متوسط العمر المتوقع زاد بمعدل عشرين عامًا في عام 1957 مما كان عليه عندما تولى الشيوعيون السلطة في عام 1949، ولكن مع دخول التعاونيات في مرحلةٍ أكثرَ تطرفًا، أصبحت المشاكل واضحة. على الرغم من أن إحصاءات الإنتاج الصناعي كانت مثيرة للإعجاب، إلا إن إنتاج التعاونيات كان يعتمد على الكمية لا الجودة، وغالبًا ما أدت متطلبات الحصص المفروضة على التعاونيات إلى منتجاتٍ نهائية رديئة. وبدأ التذمر يظهر بين المزارعين وظهر نوعٌ من المقاومة والاعتراض من سكان الريف تجاه مصادرة الممتلكات الخاصة. وعلى الرغم من التذمر المتزايد من سكان الصين والعلامات التي حذرت من كارثةٍ مماثلةٍ لكارثة المجاعة السوفييتية فإن الأحداث المحلية والدولية قوّت عزم ماو على المضي قُدمًا في الخطة الخمسية الثانية، تلك الخطة التي أطلق عليها ماو اسم «القفزة الكبرى إلى الأمام».
الطريق إلى الهاوية
في أوائل عام 1956، عندما وصلت الخطة الخمسية الأولى إلى ذروتها، دعا الحزب الشيوعي الفخور بما حققه من نجاحاتٍ مئاتَ المثقفين الصينيين ومن عامة الشعب إلى إلقاء كلمةٍ بخصوص الخطة الخمسية الأولى أمام الحزب، في حملةٍ عرفت وقتها باسم «حملة المائةِ زهرة». وعندما جاء وقت الحدث كان التردد والقلق باديًا على الحضور دون أن يُقدم أحد على الحديث، ولكن شيئًا فشيئًا بدأ التردد يزول وبدأ المثقفون والطلاب وعامة الناس في التعبير عن انتقاداتهم لسياسات الحزب. على عكس المتوقع، لم يتم التسامح مع هذا فحسب، بل تم تشجيعه، وظن الكثيرون إن هذا سيشكل بداية عهدٍ جديدٍ من حرية التعبير في الصين غير إن حدثان دوليان حدثا في هذا التوقيت أدّيا إلى أن يغير ماو سياسته الانفتاحية الجديدة؛ الأول كان إدانةُ نيكيتا خروتشيف -زعيم الاتحاد السوفييتي الجديد- الصادمة لسلفه ستالين الذي توفي حديثًا وقد كان يعتبره ماو حليفه الأقرب، كان الهجوم على سياسات ستالين في إنشاء التعاونيات وما تلاها من نزع الـ«ستالينية» من الاتحاد السوفيتي بمثابة إشارةِ تحذيرٍ لماو الذي وجد نفسه محاصرًا بشكل متزايد داخل الحزب الشيوعي الصيني بمعارضة متزايدة. الحدث الثاني كان ثورة المجر ضد الاتحاد السوفيتي في أكتوبر 1956، التي قمعتها موسكو بوحشية، جعل ذلك ماو يرى في المعارضة الناشئة في الصين شرارةَ التمرد، كل ذلك جعله يتخلى مبكرًا عن سياساته الانفتاحية ويعود إلى النهج السوفييتي القديم.
وفي 8 يونيو عام 1957، أعلن الحزب عن وجود مؤامرةٍ مُناهضة للشيوعية على مستوى البلاد وحذر من أن ما يقرب من 5 في المائة من السكان لا يزالون يتألفون من ما أسماه «اليمين» أي المحافظون السياسيون الذين يسعون لتخريب وإفشال الثورة. سادت حالةٌ من الشكّ والخوف بين أوساط رجال الحزب خوفًا من أن يتم اتهامهم بإنهم يمينيّون، ومن ثم شعرت الكوادر الحزبية المحلية بالحاجة لأن يُقصي كلٌ منهم من بين صفوفه 5 في المائة كي تُلقى عليهم مسؤولية تخريب الثورة، سواءً كان ذلك صحيحًا أم لا، نتيجةً لذلك، اتُّهم نصف مليون أو أكثر بأنهم «يمينيّون»، تلك العبارة دمرت حياتهم المهنية وجعلتهم منبوذين اجتماعيًا، وبالنسبة للكثيرين عنت العبارة في ملفهم أن يُنفو إلى معسكرات العمل القسري في أقاصي البلاد أو حتى دفعهم إلى الانتحار. كان من بين نتاج هذه الحملة أيضًا نبذ المتعلمين والمثقفين من المجتمع في سبيل ما أسماه ماو «حماية أفكار الشعب الصيني وإثناءه عن إبداء أي شكوكٍ أو انتقاداتٍ للثورة»، وهكذا تركت تلك الحملة الصينيين عرضةً حتى لأكثرِ السياساتِ لا-عقلانيةً وضلالًا، بما في ذلك الفكرة القائلة بأن التنمية الاقتصادية لا تتطلب سوى الوفاء الأيديولوجي، وليس الخبرة العلمية أو التقنية.
في عام 1958، أطلق ماو الخطة الخمسية الثانية، التي أطلق عليها اسم القفزة العظيمة للأمام. حملت الحركة أفكار ماو القائمة على إيمانه بسكان المناطق الريفية في الصين، تلك الحملة التي لم يعد يعيقها الآن المثقفون المتشككون، وهكذا أصبحت الصين في نظر ماو جاهزةً للتغلب على أي عقباتٍ وتحقيق اليوتوبيا الشيوعية من خلال الوحدة والعمل الجاد وقوة الإرادة المطلقة. مع انطلاق الخطة بدأت المرحلة الأخيرة من نظام التعاونيات، حيث تشكلت «الكوميونات» التي تضم كل منها حوالي 5500 أسرة، أي أكثر من عشرين مرةً أكبر من التعاونيات السابقة.
كانت الخطة تقضي أن تكون الكوميونات مُكتفيةً ذاتيًا في الزراعة والصناعة والحكم المحلي والتعليم والرعاية الصحية، حيث ستضمن كل «كوميونة» لكل فردٍ دخلًا محددًا بغض النظر عن مساهمته في العمل، وهكذا وفي مناخٍ سادته روحٌ عارمةٌ من التفاؤل ألقى معظم الصينيين الريفيين أنفسهم بإخلاص وراء ماو وقفزته العظيمة. عمل المزارعون في الحقول طوال النهار وأحيانًا في الليل بينما كانوا يرددون الأناشيد للحفاظ على حماسهم. في الليل، لم يكلف الكثيرون أنفسهم عناء العودة إلى ديارهم واختاروا الانضمام بدلاً من ذلك إلى أعضاءٍ آخرين من الكوميونة، حيث كانوا ينامون في أكواخٍ مؤقتة في الحقول. كانت المطابخ مصممة لكي تسمح لطاهٍ واحدٍ بإطعام الكوميونة بأكملها عن طريق مجموعة من الأواني الضخمة، التي كانت موجودةً أحيانًا في الحقول لتجنب إضاعة وقت نقلها من وإلى المطابخ. بالنسبة لماو كان هذا النظام مقارنةً بالوجبات العائلية التقليدية أكثر كفاءةً وفاعليةً في توفير الموارد، حيث يحرر هذا النظامُ النساءَ من العمل المنزلي لكي يتمكنوا من العمل جنبًا إلى جنب مع الرجال، وللسبب نفسه وضعت العائلات أطفالها في دور حضانة جماعية بينما قضى كبار السن والمرضى أيامهم في «بيوت السعادة»، وهي دورٌ جماعية للمسنين، كانت كل هذه التحركات محسوبةً بدقة بغرض فرض أكبر قدرٍ من المساواة وتعظيم الإنتاج.
على الرغم من ضرورة توفير إمدادات غذائية كافية، كان المقياس الحقيقي للتنمية في نظر ماو هو الصلب، فصناعة الحديد والصلب كانت بالنسبة له هي المؤشر الرئيسي لنهضة الدول، وهكذا بالإضافة إلى مهامهم السابقة بدأ مئات الملايين من المزارعين في الصين في المساهمة في التنمية الصناعية، كانت واحدةً من أسوأ السياسات التي اتُّبعت في هذه الفترة هي سياسة «الثورة الصناعية في الريف»، حيث بنى المزارعون الملايين من أفران الصهر البدائية في الأفنية الخلفية ثم قسّموا وقتهم بين رعاية المحاصيل وصهر الفولاذ ووصَل ذلك إلى مرحلة أن أدى جمع الوقود لإشعال كل هذه الأفران إلى فقدان ما لا يقل عن 10 في المائة من غابات الصين، وعندما أصبحت الأخشاب نادرة بشكل متزايد، لجأ الفلاحون إلى حرق أبوابهم وأثاثهم وحتى مداهمة مقابر الموتى من أجل خشب التوابيت، وبدلًا من استخراج خام الحديد من المناجم أُجبر المزارعون على جمع كل ما طالته أيديهم من أدواتٍ حديدية، بما في ذلك الأدوات والأواني ومقابض الأبواب والمجارف وإطارات النوافذ وغيرهم من الأشياء اليومية، بينما قام الأطفال بتنقيب الأرض بحثًا عن مساميرٍ حديدية وأي فضلات معدنية أخرى.
بطبيعة الحال لم يكن للمزارعين أي خبرةٍ عمليةٍ في صهر الفولاذ، غير إن الحزب اعتبر مثل هذه المهارات غير ضرورية بل وعدّها مجرد أفكار يمينيّةٍ فاسدة. وبطبيعة الحال كان كل ما أسفرت عنه هذه السياسة الغريبة هو تجريد مئات الملايين من الصينيين من أي معادن يمتلكونها فقط لكي يتم تحويلها إلى كتلٍ رديئة وعديمة الفائدة من الحديد الخام الذي خُزن في ساحات السكك الحديدية دون أن يجد من يشتريه. ولعل أكبر دليلٍ على هزلية الوضع وقتها وانفصاله عن الواقع هو إن ماو نفسه قد خرج في خطاب ليعلن إنه يتوقع أنه بحلول نهاية «القفزة الكبرى إلى الأمام» في عام 1962 ستكون الصين أكبر مصنع للصلب في العالم بـ 100 مليون طن، متخطيةً حتى الولايات المتحدة، مما يعني زيادة في النتاج تقدر ب 2000 في المائة خلال أقل من خمس سنوات وهو أمر مستحيل.
وهكذا وبينما كان المزارعون يصنعون الصلب، كان رجال الحزب في المدن يضعون الخطط الزراعية، حيث اتخذت الكوادر داخل الحزب -التي لم يكن لديها أي خبرة في الزراعة أو استصلاح الأراضي- قراراتٍ مصيريةً للإنتاج الزراعي للأمة بأكملها، وهكذا وضعت الكوادر الحزبية معدومةَ الخبرة حصصًا غير واقعية للإنتاج الزراعي، كما بدأ الحزب أيضًا في توزيع كتيّبات على المزارعين تفرض عليهم زراعة محاصيلٍ متعددةٍ في نفس الأرض كما أوصوا بزيادة البذور وحرث الأرض بعمق والإفراط في التسميد، وعلى الرغم من إن معظم المزارعين حاولوا تجاهل هذه التوجيهات لعلمهم بكارثية النتائج التي ستترتب عليها إلا إنه في أحيانٍ كثيرةٍ كان يتم إجبارهم على اتباعها، فعلى سبيل المثال كان يتم احيانًا إجبار بعض المزارعين على حَفر حُفرٍ عملاقةٍ بحجم حوض السباحة، وصب كل البذور فيها لاعتقاد المسؤولين إن هذا سيضاعف المحصول. صاحبَ هذا الانعدام في الكفاءة تعصبٌ أعمى لرؤية ماو وحِرص شديد على إرضاءه بأية وسيلة، ومن ثم شجع المسؤولون المحليون المنافسة الشديدة بين الكوميونات، فمثلًا إذا كانت الكوميونة تهدف إلى مضاعفة الإنتاج من الحبوب مرتين فإن على الكوميونةِ المجاورة مضاعفة إنتاج الحبوب ثلاثة أضعاف.
وهكذا أصبح كل من ينفذ هذه التوجيهات بشكلٍ أعمى هو الأكثر ولاءً للحزب والثورة، بينما أصبح أي مشككٍ في الوسائل المتبعة محلّ شك فوريّ في كونه يمينيًّا معاديًا للثورة، أدى ذلك إلى إشاعة مناخٍ من الخوف حتى بين أعضاء الحزب نفسه، وخوفًا من تحمل عواقب اتهامِهم بالتقصير إذا لم يوفوا بالحصص المقررة عليهم بدأ المسؤولون المحليون في كثير من الأحيان في تزوير تقاريرهم عن حجم الإنتاج الفعلي، ووصل الخوف إلى حد قيام سكان أحد تلك التعاونيات بزراعة جانبي طريق كامل سار فيه ماو عندما جاء لزيارتهم.
وهكذا صدقت السلطات أرقام الإنتاج المتضخمة دون نقدٍ ونشرتها وبدت القفزة العظيمة للأمام نجاحًا باهرًا. نقلت وكالة أنباء الصين الجديدة قصصًا وصورًا لحقولٍ غزيرةِ الإنتاج وقصص عن فواكهٍ وخَضروات عملاقةٍ تحتاج الواحدة منها إلى عربة بأكملها لكي يتم نقلها، وهكذا أصبح على مئات الملايين من الصينيين الجياع التظاهر بإنهم يعيشون في رغدٍ ووفرة. يروي أحد الناجين من المجاعة لاحقًا أن المطابخ كانت تلقِى بالطعام دون أن يأكله أحد لكي تعطي مظهر وجودِ فائض. وصل الجنون حد قيام الصحف الصينية الرسمية بمناقشة كيفية التصرف في أزمة الفائض من الغذاء، صدقت الدولة تلك الأخبار وفي النهاية قررت الحكومة زيادة صادرات الحبوب للخارج لأن الشعب قد اكتفى بالفعل واستبدالَ بعض المحاصيل الغذائية بمحاصيل نقدية مثل القطن أو الشاي، ورفعت معدل الضرائب المستخرجة من الكوميونات من 20 إلى 28 في المائة. على الرغم من أن الوضع في الحقيقة كان إن إجمالي إنتاج الحبوب الغذائية في الفترة من 1958 إلى 1960 قد انخفض بنسبة 30 بالمائة.
المجاعة الكبرى
كانت كل المؤشرات تدل على قرب حدوث كارثةٍ تفوق في حجمها كارثة المجاعة السوفيتية منذ ثلاثةِ عقود، وهكذا عندما بدأت الكارثة تتكشّف في عام 1959 حاول البعض إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهكذا عندما عقد الحزب قمةً في منتجع «لوشان» الجبلي، تقدم «بينج دي هواي»، وزيرُ الدفاع وأحد أقدم مساعدي ماو وسلم خطابًا مكتوبًا بخط اليد للزعيم، فيه بدأ الوزير يروي كيف حققت الخطة نجاحًا كبيرًا لكنه اعترف أنه في تنفيذ خطةٍ غير مسبوقةٍ مثل القفزة العظيمة للأمام كانت الأخطاء لا مفر منها بسبب قلة الخبرة والحذر من المبالغة والهدر والتعصب الزائد لكنه تجنب بعناية إلقاء اللوم على أي فرد، بل وألمح إلى أنه وآخرين قد فشلوا في اتباع تحذيرات ماو الحكيمة. وخلُص إلى أنه ينبغي عليهم التعلم من أخطائهم من خلال إجراء «تحليل دقيق للخطة». على الرغم من الصياغة المراعية، فسر ماو المذكرة على أنها هجوم شخصيّ وعقد اجتماعًا لقيادة الحزب العليا مما أجبر الحاضرين على الاختيار بينه وبين بينغ. صوت قادة الحزب ومن بينهم زملاء بينج القدامى على اتهام بينج بالخيانة ليقضي بقية حياته تحت الإقامة الجبرية. كانت الرسالة واضحة، ماو لن يتحمل أي انتقادٍ وستستمر القفزة العظيمة.
بدأت المجاعة تظهر بوضوح في موسم حصاد عام 1959. رفعت الحكومة معدل الضريبة إلى 28 بالمائة، ولكن نظرًا لأن المسؤولين المحليين كانوا يزيفون أرقام الإنتاج التي كانت الضرائب تحصل عليها وكلما كانت المبالغة أسوأ زاد مقدار الضرائب التي يتم تحصيلها إلى الحد الذي قامت معه بعض المناطق بإرسال محصولها بالكامل تقريبًا إلى الولاية كضريبة بسبب تزييف كمية الإنتاج دون أن تترك شيئًا يمكن للمزارعين الذين يزرعون الغذاء أن يعيشوا عليه. حتى عندما فشل البعض في الوفاء بالتزاماتهم الضريبية، رفض المسؤولون الذين زوّروا التقارير الاعتراف بالخطأ، وفي بعض الحالات اتهموا المزارعين بإخفاء الحبوب في منازلهم ومن ثم شُنت حملات اعتقالات ضد المزارعين الذين اتُّهموا زورًا فضُربوا وعُذبوا أمام جيرانهم، وبينما ظلت الحبوب التي جُمعت ملقاةً في المخازن وصل الشحّ إلى المدن التي بدأت تعاني هي الأخرى من نقص الغذاء ومعه زادت الأمراض الناجمة عن سوء التغذية. مع تناقص احتياطيات الغذاء في الريف، بدأ الفلاحون يموتون بأعدادٍ كبيرةٍ بحلول صيف عام 1960، انهار المزارعون الجوعى المنهكون في الحقول وعلى جوانب الطرق وحتى في المنازل حيث شاهد أفراد الأسرة جثث أباءهم تتعفن أمامهم دون أن يملكوا حتى دفنهم لأنهم بدورهم لم يكونوا يملكون القوة الكافية لإبعاد الذباب عن وجوههم، كان كل ما بإمكانهم فعله هو الجلوس وانتظار الموت إما من الجوع أو من الفئران التي ستلتهمهم أحياءً بعد أن تَفرغ من تناول جثة رب الأسرة.
يتفاقم الوضع إلى حد قيام بعض العائلات بإخفاء رفات أقاربهم في المنزل حتى يتمكن الأحياء من جمع الحصص الغذائية للمتوفى. دفع الجوعُ الجياعَ إلى البحث عن البذور والأعشاب والأوراق ولحاء الأشجار، وعندما شحت هذه الأشياء قاموا بغلي جلود الأحذية وشربوا حساءها عندما نفذت القطط والكلاب انتقلوا إلى أكل التربة فقط لملء بطونهم الخاوية ليدمّر الحصى جهازهم الهضمي، وتحول البعض لا محالة إلى أكل لحوم البشر، بدأ هذا بدوره بالتغذي على الجثث الميتة إلا أنه في بعض الأحيان يُقتل الأشخاص لكي يتم تناولهم كطعام وكان هؤلاء عادةً الأطفال لأنهم لا يقاومون كثيرًا، وعندما لم يستطع الأهل إجبار انفسهم على تناول أبناءهم بادلوهم مع أبناء الجيران لكي يأكل كل جار ابن جاره دون أن يضطر إلى قتل ابنه بنفسه.
على الرغم من أن أهوال المجاعة كانت قد بدأت تتسرب من الصين، إلا أن العلماء الغربيين لم يكن لديهم إحساس كبير بحجم الكارثة. في دراسته حول التنمية الزراعية في الصين التي تضمنت القفزة العظيمة للأمام، أكد عالم الصينيات في جامعة هارفارد «دوايت بيركنز» أن النظام قد تجنب الكارثة وأن «القليل من الجوع إن وجد»… تتراوح تقديرات الوفيات المرتبطة مباشرة بالمجاعة من 23 مليونًا كحد أدنى ويصل بعضها إلى خمسة وخمسين مليونًا، على الرغم من أن الرقم الذي يتم الاستشهاد به في أغلب الأحيان هو ثلاثون مليونًا. في النهاية لامت الحكومة الجفاف وأصبح الطقس كبشَ فداءٍ مناسبًا، وإلى اليوم لا يُعرف حجم الموتى الحقيقي للمجاعة ومازالت الكتب الدراسية في الصين تبرئ ماو من أي ذنب.