“يكسرُ العالَمٌ الجميع، وبعدئذٍ يعود كثيرُ منهم أقوياء في أماكن كسورِهم تلك”
أرنست همنجواي – رواية وداعًا للسلاح
عندما تقع مزهرية أو قطعة خزفية أو حتى كوب؛ فإننا نعتقد أنه كُسِر ولا أمل في إعادة ترميمه، وبالتالي يتم رميه، بغض النظر عن قيمته المعنويَّة أو الجماليَّة؛ ولكن هناك نوع من أنواع الفنون اليابانيَّة له رأي آخر في هذا الشأن، حيث يعطي قيمة فنية لهذه القطع المكسورة عن طريق إعادة ترميمها وتجميعها معًا مرة أخرى، وهو فن “الكينتسوجي”.
فن (الكينتسوجي-Kintsugi)
الكينتسوجي هو فن ياباني ظهر في أواخر القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر، وبحلول القرن السابع عشر أصبح الكينتسوجي حرفةً منتشرة في كل أنحاء اليابان، والمصطلح معناه الحرفي يعني “الإصلاح بالذهب”، والقصة وراء ظهور هذه الحرفة في اليابان بدأت في فترة (موروماتشي) وأثناء حفلة تقديم الشاي -وهي من التقاليد اليابانية القديمة- كسر أمير الحرب الياباني (أشيكاغا يوشيماسا) آنيةً خزفيَّة مفضَّلة له، فذهب بها إلى الصين لإصلاحها؛ ولكنه لم يكن مسرورًا من النتيجة، حيث عادت إليه مُرمَّمة باستخدام مسامير معدنية، وهو ما أفقدها قيمتها الجمالية، وبالتالي لجأ إلى الحرفيين اليابانيين لإعادة إصلاحها، ومن هنا ظهرت فكرة الكينتسوجي.(1)
وبالتالي أصبح الكينتسوجي فن قائم على إصلاح القطع الفخارية التي كسرت حيث يعتمد على إعادة تجميع الأجزاء المكسورة مرة أخرى ولصقها بواسطة معجون من الذهب والفضة والبلاتينيوم، فيعيد القطعة مرةً أخرى كقطعة واحدة؛ ولكن ما يميِّزه أنه لا يخفي الشقوق أو الشروخ الموجودة الناتجة عن الكسر؛ بل يظهرها باستخدام اللون الذهبيِّ، وهو ما يجعلها تظهر بصورة أوضح وأكثر جمالًا! (2)
ما وراء فلسفة الكينتسوجي
يعتبر هذا الفن فنًا يابانيًّا خالصًا، ارتبطت فلسفته بالعديد من الفلسفات اليابانية الأخرى والتي أضافت إلى قيمته المعنوية والفلسفية بعدًا آخر، من أهم هذه الفلسفات التي انبثق منها هذا الفن
- فلسفة ( الوابي سابي-Wabi Sabi ): والتي تدعو للبحث عن الجمال في كل ما هو غير مكتمل أو ناقص.
- فلسفة (مُتناي-Mottainai): والتي تعبر عن الندم عندما يتم إهدار شيء ما، وهو ما يعبر عنه فن الكينتسوجي لأنه قائم على عدم إهدار أو رمي أي قطعة خزفية عند كسرها! (3)
تعتمد فلسفة هذا الفن على فكرة تقبل العيوب وإعادة إحياء ما قد كسر في صورةٍ جديدة كليًّا؛ حيث ينتج من مجرد شظايا، قطعةً فنيَّةً أكثر قوةً وجمالًا من ذي قبل؛ بل حتى أكثر جمالًا من القطعة الأصليَّة التي كُسرت.
فهذا الفن صاحب الأكثر من ال400 عامًٍ يقوم على مبدأ تقبُّل العيوب وإظهارها في أفضل صورة ممكنة؛ بل وتسليط الضوء عليها أيضًا، فكلُّ كسرٍ في القطعة يعد جزءًا من تصميم قطعة فنية جديدة، متفردة بذاتها، والتي تم إعادة إحيائها من مجرد قطع متناثرة، ومن المميز في هذا الفن أن كل قطعة خزفية هي قطعة فنية مميزة بخطوط خاصة بها ولا يوجد مثلها أيّ قطعة أخرى، فكلُّ واحدة تتكون من تجميع خطوط بشكل مختلف عن الآخر وهو ما يُضفي عليها أصالة وقيمة في حد ذاتها ويجعلها فريدة من نوعها.
قيمة الكينتسوجي الفلسفية أكثر عمقًا من قيمته الجمالية، فالفنانون عند اختيارهم لإظهار الشروخ باللون الذهبي كأنهم يريدون قول أن الكسور يمكن أن تكون مصدر جمالٍ وقوةٍ ولا يجب إخفاؤها؛ بل يجب إظهارها وقبولها أيضًا، وبالتالي فهو يتعامل مع الكسر على أنه جزءٌ من تاريخ القطعة، وبهذا تصبح قيمتها أكبر وأعمق.
تأثير الكينتسوجي على الفن المعاصر
لم يقتصر وجود هذا الفن في اليابان فقط؛ بل انتشر منها إلى جميع أنحاء العالم، وأيضًا كان له تأثيرٌ كبير على العديد من الفنانين المعاصرين، ولم يعد معتمدًا على ترميم القطع المكسورة فقط؛ بل ذهب بعض الفنانين إلى عمل مُجسَّمات نحتية ثم كسرها وإعادة تجميعها بنفس تقنية الكينتسوجي، ومن أشهر من اعتمدت تلك التقنية، الفنانية الإنجليزية Billi) Bond) والتي ركزت في أعمالها الفنية المرتبطة بمبدأ الكينتسوجي على تسليط الضوء على الكسور التي يتعرض إليها الانسان وجعلها مصدر جمالٍ له.(4)
وهناك أيضًا من تأثروا بهذا الفن مثل الفنانة الكوريَّة (Yeesookyung) التي تعتمد على تجميع الأطباق أو الأواني الخزفية المكسورة والتي تكون مهملة أو مُلقاة، ثم تقوم بلصقها واستخدامها في عمل مجسمات نحتية تتخذ طابعًا معاصرًا. (5)
و أيضًا الفنان البريطاني (Paul Scott) الذي يقوم بعمل قطع فنية من خلال دمج تقنية الكينتسوجي بفن الكولاج من أجل الحصول على أعمالٍ ذات طابعٍ فريدٍ وتدمج ما بين أصالة الماضي وحداثة المعاصر. (6)
أما بالنسبة للفنان الفرنسيّ ( jean-Michel Bihorel )، فقد اعتمد في عمله الفنيّ الذي يتمثل في بورتريه، استلهمه من فن الكينتسوجي، على جعل الشقوق جزء من زخرفة العمل الفني نفسه؛ حيث كانت هذه هي الفكرة الأساسيَّة للبورتريه . (7)
وقد أقيمت العديد من المعارض الفنية التي تقوم بعرض أعمالٍ مختلفة مستمدَّة من تقنية الكينتسوجي، من أشهر هذه المعارض: (8)
- golden seams: the japaese art of mending ceramics
- the transnational exhibition Flickwerk in 2008
وللحفاظِ على هذا الفن والحرفة العريقة وضمان استمراريتها، فقد أقامت أشهر جامعات العالم ورش فنية لتعليم هذه الحرفة، ومن أهمها : جامعة أوكسفورد بلندن، وجامعات مختلفة بنيويورك وسان فرانسيسكو، كما كان هذا الفن مُلهمًا للعديد من الفنانين بأستراليا والمملكة المتحدة ونيوزيلاندا.
والآن توجد هذه القطع الفنية في المتاحف، والمعارض الفنية في مجموعات خاصة لهواة الفن والتراث، تقديرًا للقيمة التاريخية والفنية والفلسفية لهذا الفن الأصيل.
الكينتسوجي والإنسان
“الفنُ أداةُ الإنسانيَّة لتأمُل ملامحِها ومعرفة نفسِها”
توفيق الحكيم
https://centerforinterculturaldialogue.files.wordpress.com/2018/10/kc92-kintsugi.pdf
3- Keulemans, G. (2016). The geo-cultural conditions of kintsugi. The Journal of Modern Craft, 9(1), 15-34. available from: https://www.academia.edu/27193068/The_geo-cultural_conditions_of_kintsugi
4- http://www.billiebondart.com/kintsugi.html
5- https://www.artsy.net/artist/yeesookyung
6- https://www.artsy.net/artist/paul-scott
7- https://www.artstation.com/artwork/1Xbx2
8- https://asia.si.edu/exhibition/golden-seams-the-japanese-art-of-mending-ceramics-2/