«ما أريده شخصيًا أن ينخرط الناس بشكل نشط أثناء مشاهدة الفيلم؛ لذلك أصنع أفلامًا تشعرك بعدم الارتياح قليلًا، ومع ذلك لا تزال تستطيع الاستمتاع بها، والافتتان بها، والتفكير في معاني الأشياء، كما لدي الأمل في نهاية الفيلم أن تملك الرغبة القوية لكي تستمر في التفكير في تلك المعاني».
– يورجوس لانثيموس
عندما ننظر لأعمال لانثميوس نجدها تقدم تنوعًا هائلًا، وتتأرجح رواياته ما بين الملكات المختلات، والأطفال المسجونين، والعلاقات الديستوبية، متحديةً التصنيف التقليدي، فمثلًا إذا شاهدت فيلم «سن الكلب- dogtooth» لظننت أنه مخرج مغاير للمخرج الذي أخرج فيلم «المفضلة- the favorite» نظرًا لاختلاف الجغرافية والنمط السنيمائي بل واختلاف الشأن الموضوعي في كلا الفيلمين.
مع ذلك هناك عدة عناصر توحد أفلام يورجوس، مثل اهتمامه النهم والمستمر بمختلف المجتمعات، وحبه لاستكشاف الأخطاء البشرية، وعشقه للحوارات العميقة الصغيرة البسيطة والنكتة السوداء الصادمة، والتزامه في كل عمل بحتمية واستمرارية التجريب والتحسين كما أنَّ لانثيموس مخرج تحركه الغريزة لا القواعد، لذلك كثيرًا ما يفسد النوعية التي تندرج تحتها الفيلم بل ربما يتجاهل أصولها تمامًا ويستعيض عن ذلك بأفلام جذورها ضاربة في التجارب الإنسانية المبنية على مبادئ إمكانيات وتأثيرات الواقع الديستوبي العنيف.
مقدمة
شهدت السينمات في بداية هذا العام آخر أعمال يورجوس الفنية وهو فيلم «المفضلة – the favourite» بطولة ريتشال ويسز، وأوليفيا كولمان، وإيما ستون، وبالإضافة إلى إشادة النقاد والجمهور التي تلقاها الفيلم عن كل الأداء النسوي من الثلاث بطلات؛ ترشح الفيلم لعشر جوائز أوسكار هذا العام، كما حصل لانثيموس على عدة ترشيحات من الأكاديمية من قبل ( أفضل فيلم أجنبي بلغة غير الإنجليزية عن فيلم «سن الكلب- dogtooth» وأحسن سيناريو أصلي عن فيلم «السلطعون- the lobster»)، ومع ذلك يُعد ترشحه كأفضل مخرج عن فيلم المفضلة هو الأول من نوعه.
ولد يورجوس لانثيموس عام (1973) في أثينا عاصمة اليونان، وقامت أمه على تربيته حتى توفت وهو في السابعة عشر من عمره، تأثر في طفولته بالسلسلة السينمائية «العودة إلى المستقبل- back to the future» وأفلام «بروس لي- Bruce lee» -مما يبدو مفاجأة بعض الشيء نظرًا لنوعية الأفلام التي يقدمها- لكن عندما ألتحق بمدرسة «ستفاروكس الهلينية للسينما والتلفيزيون- Hellenic Cinema and Television School Stavrakos» أصبح متيم بأعمال «أندريا تاركوفسكي- Andrei Tarkovsky» وربوبرت برنسون و جون «كاسافيتس- John Cassavetes»، وقد بدأ لانثيموس مسيرته الإخراجية عام (1995)، بدايةً بالإعلانات المتلفزة، والفيديوهات الموسيقية، والأفلام القصيرة، والإخراج المسرحي، ثم عمل كمخرج مساعد في الفيلم اليوناني صديقي المقرب مع المخرج «لاكيس لازوبولس- Lakis Lazopoulos»، كما كان من الفريق الإبداعي الذي قدم لنا المراسم الافتتاحية والحفل الختامي لدورة الألعاب الأوليمبية بأثينا عام (2004) كل هذا قبل أن يقدم لنا عمله الفني الأول -إخراجًا وكتابةً- المسمى «كينيتا- kinetta».
خصائص أفلام يورجوس لانثيموس
إذا نظرنا لافلام لانثيموس من حيث القضية الأساسية، سنجد دائمًا أنها تقدم لنا قصصَ أفراد يعانون من ضغط السيطرة التي يفرضها نظام أو مؤسسة مزرية وفاسدة أخلاقيًا. وبيد أنَّ أفلام لانثيموس ذات طابع ومقصد خيالي، فإنِّ تركيز لانثيموس السينمائي الفذ كحامل ضوئي ينقل أداء الممثلين من القصة الخيالية لمستوى أعلى، ويرفع تركيب الشخصيات إلى مستوى إنساني عميق. كما نجد أن أفلام لانثيموس تتأرجح بشكل غير مستقر بين الكوميديا العبثية والتراجيديا البشعة، مما يؤدي إلى انغماس الجمهور في مجموعة متنوعة من المشاعر المتضاربة التي تثير فيهم التكهنات الفكرية.
إنَّ ثقة لانثيموس الراسخة بنفسه، وخصائص أسلوبه الجريئة، وتلميحاته الاجتماعية، والسياسية، والنفسية المعاصرة هي ما تجعل لانثيموس أحد أروع المخرجين في القرن الواحد والعشرين؛ فقد دفع بالمدرسة الفكرية والمدرسة الطليعية المعقدة الأوروبية لتصبحا في أعلى السلم التقييمي للأعمال الدارجة المعاصرة، وقد فعل ذلك بسلاسة منقطعة النظير.
قدرت يورجوس لانثيموس الأدبية
تعد موهبة لانثيموس الكتابية هي أعظم مواهبه فإن نصوصه السينمائية مثيرة للذهن وذات رمزية هزلية تستسقي من عبثية الروائي «صامويل بكيت- Samuel Beckett» مما يقدم الجمهور نوعًا فريدًا من الفكاهة متوازية مع أفكار وجودية مهمة تحفز الجمهور لخلق صور مطابقة وشخصية في العالم المضطرب المخيف حولهم، تلك النصوص تقدم من خلال أفلام لانثيموس دلالات واسعة كما تسمح بتفسيرات لا نهاية لها، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ميل لانثيموس إلى النهايات الغامضة.
ودائمًا ما يعزز لانثيموس مشاركة جمهوره عن طريق أبطاله وطريقة تصرفهم في الظروف المختلفة، ففي فيلم السلطعون مثلًا، نرى الشخصية الرئيسية دايفيد وهو يعرض لنا إمكانية التفكير الفردي والقدرة على تحديد المصير، رغم وقوع كليهما فوق طاولة الاختبار، مما يجبر مشاهد هذا الفيلم وكل أفلام لانثيموس على التساؤل إذا ما كان هم أنفسهم خاضعين لنظام قمعي في الحياة الحقيقة، وهل يجب أن نهرب أم نواصل السير في نفس الطريق؟ يساعدنا لانثيموس في رؤية مفترق الطرق الذي لم نكن نراه من قبل.
تصنيف أفلام يورجوس لانثيموس
هذه المقالة لحديثي العهد والمهتمين بعمل ذلك المخرج اليوناني الفريد، بالإضافة إلى المعجبين الذين يرغبون في استكشاف كتالوجه السري، أما بالنسبة لهؤلاء الذين لا يعرفون لانثيموس أو لم يتعرضوا لأعماله من قبل؛ فإن تلك المقالة توفر لكم نقطة بداية لاكتشاف أعمال يورجوس لانثيموس. نقدم لكم الآن أفلامه السبعة مرتبة من الأسوء للأفضل.
7. صديقي المقرب – O kalyteros mou filo
يتابع الفيلم كوتستي، ذلك الرجل الكادح وهو في منتصف العمر الذي تفوته الطائرة فيعود للبيت ليجد زوجته وصديقه المقرب معًا، مما يدفعه للقيام برحلة حول أثينا كمحاولة عشوائية في سبيل التصالح مع الحادثة.
لا يمكن أن نقول على أي من أفلام لانثيموس أنها سيئة ولكن صديقي المقرب يقبع في آخر القائمة، ويرجع ذلك لأن يورجوس لم يكن مخرج الفيلم ولكن عمل به كمخرج مساعد وبالتالي هو الفيلم الأقل دلالة على عمل لانثيموس، مع ذلك نجد أن سير الفيلم وسريانه يظهر بعض العناصر التي ستصبح مرادفة لعمل لانثيموس فيما بعد؛ مثل أداء طاقم التمثيل القوي، والاستخدام التجريبي لكاميرا التصوير، ومع ذلك فإنَّ العنصر الأهم في الفيلم هو الوجود البارز للسريالية على مدار المائة دقيقة التي يعرض فيها الفيلم، ذلك العنصر الذي يعد السمة الرئيسية لكل أفلام يورجوس اللاحقة.
يستحق صديقي المفضل عناء المشاهدة نظرًا للفكاهة السوداء غير المعتادة، وبالتحديد الكآبة الهزلية التي يستحضرها لازوبولس بخبرة في كونستادينوس. ومع ذلك، فإن التصوير السينمائي -مع كونه جريئًا ومثيرًا للدهشة- يجعل من الصعب في كثير من الأحيان التواصل مع الشخصيات بشغف عاطفي، على الرغم من العاطفة الموجودة في نص لازوبولوس.
6. الألب – Alps
الألب هو ثالث أفلام لانثيموس في مسيرته الإخراجية، والتأليفية وهو باليونانية كنظيره السابقين كينيتا وسن الكلب، ويقول روجر أبرت عنه «فيلم غريب أبعد ما يكون عن المفهوم، ومبني على فرضية تستحث فيك الإيمان».
يحكي الفيلم عن مجموعة من المعالجين يطلق عليهم اسم جبال الألب ومثل «فيلم كلاب المستودع- reservoir dogs» كل عضو يحمل شيفرةً أو اسمًا مستعارًا ولكن بدلًا عن الألوان يحمل كل شخص اسم جبل من جبال الألب ويمكن استنتاج رتبة كل معالج من الشيفرة فكلما حصل الشخص على اسم جبل أعلى كانت رتبته أكبر، وتقوم تلك المجموعة بانتحال شخصيات متوفية لمساعدة العملاء ذويهم في المرور من عملية الحزن بأقل الأضرار النفسية، وبطلة الرواية ممرضة تلعب دورها الممثلة «أنجيليكا بوبوليا- Angeliki Papoulia»، والتي تتورط عاطفيًا مع أحد العملاء مما يؤدي بها إلى هوس عاطفي مرضي.
يظهر فيلم الألب تشابهًا كبيرًا بينه وبين فيلم سن الكلب مما استفز النقاد ووجه ظنهم لنقص إبداعي في عمل يورجوس، وزرعَ تكهنًا بأن يورجوس ليس لديه غير صيغة واحدة في السرد، وربما ذلك التكرار حدث بسبب اهتمام لانثيموس ودراسته للسلوك الجنسي المنحرف المتطور تحت قيود الأنظمة القمعية، و بإجراء مقارنة سريعة بين الفيلمين، نجد أن الألب يفتقد النمط الفريد، والشكل المميز الذي نجده في فيلم سن الكلب.
وأثناء مشاهدة الفيلم نجد صعوبة في فهم آلية السرد بسبب القفز المتكرر في المشهد الواحد كما يستمر عدد من المشاهد أطول مما ينبغي يملؤه حوار غير مفهومٍ ومليءٌ بمجموعة كبيرة من الكلمات التي تعد مرجعًا في الثقافة الشعبية، ويبدو أنَّ بعض الشخصيات لا تستحق مكانها في الفيلم، ومع ذلك يركز النصف الثاني من الفيلم بشكل أكبر على الممرضة ويصبح أكثر إرضاءً مع مراعاة التسلسل الزمني للسبب والنتيجة المرتبط بالإدمان الجنسي المتصاعد للممرضة، كل في إطار من الكوميديا والمأساة.
هذا الفيلم قد يرضي عشاق لانثيموس المخلصين، ولكنه سوف يترك البعض في حالة من الارتباك وآخرين غير راضين. في نهاية المطاف، يوضح هذا الفيلم انتقال لانثيموس من التجربة التجريبية في فيلم سن الكلب، إلى التركيبات السردية الأكثر اعتيادًا منه في أعماله الأخيرة. إذا شاهدت الفيلم فيجب أن تعير أداء بابوليا اهتمامًا مميزًا، فعلى الرغم من أن دورها كان ضبابيًا أحيانًا، ألا أنَّ الشرارة المنبعثة من الشخصية هي ما توضح الهدف الدرامي من الفيلم.
5. كينيتا – Kinetta
يقف رجل رفيع لحيته سوداء بجانب سيارة مقلوبة على طريق فارغ. إنه يزيل الشريط المسجل من المشغِل داخل السيارة لتتوقف الموسيقى، ثم تنسحب الكاميرا من وراءه لترينا أقدام جثة ميتة. بعد ذلك نجده في مقبرة يحدق في قبر ويضع سماعات الرأس، نراه بلقطة تتبعه من سيارة تمر بجانب المقبرة وتصنع له طابع ملفت من الغرابة لم نره في أي فيلم آخر. في اللقطة الثالثة ينطلق الرجل في طريق سريع مزدحم فوق جسر وما زال يستمع إلى الموسيقى الصادرة من السماعات على رأسه، هكذا هو المشهد الافتتاحي لفيلم كينيتا.
كينيتا هو اسم أول أعمال لانثيموس الخاصة به إخراجيًا وكتابيًا، وقد تم إعداد هذا العمل بميزانية صغيرة. كما تعاون لانثيموس مع المصور السينمائي «ثيميوس باكاتاكيس- Thimios Bakatakis» – لم يكن التعاون الأخير- والذي استخدم تقنية كاميرا الأيدي المهتزة لتعقب ثلاثة أشخاص غرباء يربطهم اهتمامهم بإنشاء تصور مشاهد لنساء قُتِلنْ على يد قاتل متسلسل محلي، ولكن تتحدر العلاقة بينهم فيما بعد، كل تلك الأحداث تقع في منتجع شاطئي يوناني خلال موسم الركود.
يمكننا أن نرى من الفيلم مزيج لانثيموس الواضح المكون من النزعة الطبيعية والسريالية، حتى في هذه المرحلة المبكرة من حياته المهنية يبدو ذلك جليًا لنا من أداء الشخصيات الصريح الذي يجذب الجمهور لمراقبة وتحليل الحياة غير المعتادة لهذه الشخصيات، وفي تأثر واضح بمنهجية تاركوفسكي، نجد أن لانثيموس يتهرب من مواثيق السرد المعتادة ويستبدل ذلك بدعوة جمهوره إلى الانغماس بشكل تلقائي في الشعر الخفي الذي نجده في سكون مشاهد لانثيموس.
من الواضح أيضًا أن هذا الفيلم هو أكثر الأعمال استنزافًا لجهده، ففي هذا الفيلم يدعونا لانثيموس إلى أعماق روحه ولن نجد تلك الدعوة بتلك القوة في أي من الأعمال الأخرى في تلك القائمة. في هذا الفيلم ينسج لنا لانثيموس ذكرياته، وأوهامه، ومشاعره، في دراسة رائعة أخرى عن السلوك البشري غير العادي. ولكن، مرة أخرى، صنع لانثيموس من المعنى المستسقى من كينيتا وقضيته الغامضة والتصوير السينمائي المتشنج حائطًا صعبٌ تجاوزَهُ قائمٌ بين المشاهد والاستمتاع بالبعد الفني السهل.
4. قتل غزال مقدس – The killing of a sacred deer
ذلك العمل هو ثاني أفلام لانثيموس القائمة باللغة الإنجليزية وثاني تعاون له مع الممثل «كولين فاريل- Colin Farrell»، وهو المعالجة المعاصرة للمأساة اليونانية القديمة إفيجنيا التي كتبها «يوريبيدسIphigenia – Euripides».
يلعب فاريل دور ستيفن مرفي وهو جراح قلب طور صداقة غامضة مع صبي مراهق يدعى مارتن (يقوم بالدور الممثل الصاعد «باري كيوجان- Barry Keoghan») ويشتري ستيفن لمارتن ساعة يد ويدعوه لتناول العشاء ليلتقي بزوجته آنا (التي تلعب دورها «نيكول كيدمان – Nicole Kidman») وطفليه كيم وبوب.
وبعد ذلك، يتصل مارتن بستيفن باستمرار بل ويبدأ في مواعدة ابنته. يوافق ستيفن على القدوم إلى منزل مارتن لتناول العشاء، وهنا، والدة مارتن (لعبت من قبل النجم «أليشيا سيلفرستون – Alicia Silverstone») تتقرب من ستيفن بشكل عاطفي. عندما يفقد أطفال مورفي القدرة على تحريك أرجلهم، يكشف مارتن لنا أن والده توفي في جراحة قام بها ستيفن نفسه كما يخبره مارتن أن على ستيفن قتل أحد أفراد عائلته، لموازنة وفاة والده ويحذره أنه إذا لم يفعل ذلك، فستموت عائلته بعد ثلاث مراحل: الشلل ثم رفض الطعام ثم النزيف من العين.
في الوقت الذي أصبح فيه وجود فاريل في أفلام لانثيموس أمرًا محببًا ومرحبًا به، فإن أداء كوجين كان هو الأبرز، فشخصية مارتن انتقامية ولا يمكن التنبؤ بها ومنكسرة بشكل ما وسيكوباتية وبالتالي نجد أنَّ كثيرًا ما حظيت تلك الشخصية بأكثر الحوارات المهلوسة التي يمكن وصفها بخليط مميز من السذاجة والشيطانية تقشعر له الأبدان، علاوة على ذلك، تتشابه قصة الشخصية الخلفية مع أحداث من قصة حياة الممثل الحقيقية فقد ماتت أمه الحقيقية عندما كان صغيرًا، ربما هذا ما جعل أدائه مصدر التوتر الروائي على مدار الفيلم كله فنجد شخصية مارتن تستنفذ صبر ستيفن ويرهبه، حتى يجبره على الانهيار في نهاية الأمر.
علاوة على ذلك، قدمت نيكول كيدمان دور ربة بيت التقليدية ولكن بجانبٍ أعمقَ وأكثرَ دهاءً حتى من دورها في زوجات ستيفورد، فنجد أن سلوكها الحركي متوحد بشكل رائع مع تصور علم النفس المظلم للشخصية الذي تستحضره من خلال النظرات المحدقة الثاقبة والمثيرة للرعب.
بالإضافة لسيناريو الفيلم المبتكر ذو الخلفية الهيتشكوكية (نسبة للمخرج ألفريد هيتشكوك- Alfred Hitchcock»، يلاحظ أنه أول ممارسة من لانثيموس في تجربة إمكانيات العدسات ذات الزوايا الواسعة وعدسات الكاميرا المعروفة بعين السمكة، وقد وصف المخرج هذا القرار بأنه طريقة كي يستخرج شعور الخوف والتوتر من المشاهد.
هناك المزيد، نجد أن لانثيموس استخدم تقنية الزوم أو التقريب -على الرغم من أنَّ العديد من صانعي الأفلام ورواد السينما في كثير من الأحيان يدينون استخدامه في غير الأفلام الوثائقية- ولكنه استخدم هذه التقنية بطريقة غير معتادة وبطيئة ومرعبة، فمثلًا نجد في هذا الفيلم أنه كثيرًا ما استمر في التقريب حتى انتقل من أحد جوانب الشخصيات ليرتكز على العناصر المحيطة حولهم ذات الدلالات، وهذا بدوره يخلق جوًا من الشعور بالوحدة والجنون مما يعكس الحالات الداخلية للشخصية، وسواء كان تعقب الكاميرا للأحداث خلال المتنزه أو اتباع ستيفن في ممرات المستشفى الطويلة أو غيره من المشاهد، فإن السنيماتوجرافي الفريد بلا شك هو ما زرع إحساسًا بتخوفٍ مخادعٍ خلال (121) دقيقة كلها.
أما بالنسبة للسيناريو والأحداث، فعندما يتبنى مخرج سيريالي مثل لانثيموس عمل سردي كلاسيكي مثل تلك الملحمة اليونانية فلا عجب أن يؤدي هذا إلى فيلم يكثف ظلمات وغرابة أعماله السابقة في مثال انتقامي مروع. ومع ذلك، فإن الفيلم يصعب مشاهدته في بعض الأحيان حتى بالنسبة لأولئك المطلعين على هذا النوع من الإثارة النفسية، ونظرًا لمحتواه المظلم الذي لا يتوقف، المبني من الحوارات القصيرة البسيطة التي يصنعها لانثيموس، وكما هو الحال مع كل كتابات لانثيموس، فهو لا يحاول صنع فيلم ذو تصنيف معين، فهو إما يجدد النوع أو يفسده أو يتجاهله تمامًا كما قلنا من قبل، لعل أكثر ما يميز أفلام لانثيموس هي غريزته التي تصنع أفلام مهولة مثل هذا الفيلم.
3. السلطعون – The Lobster
عندما نرفع ذراعنا اليسرى، يعني ذلك أريد أن أرقص بين ذراعيك، وعندما نصنع القبضة ونضعها خلف ظهورنا، فهذا يعني دعنا نفعلها، ومع مرور الوقت نمت الشيفرة بيننا أكثر وأكثر، وفي خلال بضعة أسابيع أصبحنا نستطيع التحدث عن أي شيء تقريبًا دون حتى فتح أفواهنا
– راشيل وايز في دور المرأة قصيرة النظر، في فيلم السلطعون.
السلطعون هو أول أفلام لانثيموس باللغة الأنجليزية، وفي هذا الفيلم نجد أن المخرج يدمر االمفهوم الذي اعتدنا عليه في أفلام الخيال العملي، فنجد أن لانثيموس يطوعها ويغيرها برؤيته الشاعرية الرومانسية الخاصة.
فاز هذا الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، كما شهد ترشيح لانثيموس الثاني لجائزة الأوسكار عن أفضل سيناريو أصلي. يتصدر بطولة هذا الفيلم كولين فاريل، وهو التعاون الأول بين فاريل ولانثيموس، كما يشهد الفيلم عدة ممثلين مميزين في الشخصيات الرئيسية هم: بن وايتو، جون سي رايلي، أوليفيا كولمان، ليا سيدو، ومايكل سمايلي “Ben Whishaw, John C. Reilly, Olivia Colman, Léa Seydoux and Michael Smiley”.
أما عن قصة الفيلم فهي تدور حول دايفيد الذي تغادره زوجته فيقوم بتسجيل الدخول إلى فندق إلزامي، حيث يجب على كل شخص العثور على شريك حياته خلال (45) يومًا وإلا سيتم تحويله إلى حيوان من اختياره.
وبعد المرور برحلة فاشلة لصيد الوحيدين الهاربين، يقوم ديفيد بالتظاهر أنه يشبه أحدهم لكي لا يتحول لحيوان ولكن في النهاية يهرب ويصبح واحدًا من أولئك الذي كان يتتبعهم، ويتم قبوله ليصبح واحدًا منهم، ويعيش معهم في الغابات ولكنه يكتشف أنهم هم أيضًا لديهم قواعد صارمة، فإذا تم القبض على شخص منهم ينخرط في أي شيء ذي طابع رومانسي مع شخص آخر، يمكن أن يخضع إلى (قبلة حمراء) أو حتى (الجماع الأحمر) المرعب، ومع ذلك، فسرعان ما يطور ديفيد مشاعر حب لفتاة أخرى يلعب دورها «راشيل وايز- Rachel Weisz».
الفيلم متفوق سواءً في فكرته أو في حواره، ريما هذا ما يجعل هذا الفيلم هو الأكثر إمتاعًا في كل أفلام يورجوس وكما هو الحال مع جميع أعمال لانثيموس، نجد أن كل واحد من فريق التمثيل له لون مختلف يتحد مع باقي الممثلين ويعطينا شكل الفيلم النهائي.
إن أداء فاريل يتسم بجمود وغرابة ظريفين كما يثير استيائه الدائم فضول الجمهور وتعاطفه من خلال عالم الفيلم السيريالي. نجد أيضًا أن أداء جون سي رايلي جدير بالملاحظة بشكل خاص، فشخصيته الحلوة والكوميدية مخالفة لقسوة وجمود موضوع الفندق، يظهر ذلك كمثال عندما يضطر إلى وضع يده في محمصة الخبز كعقاب له.
يعد هذا الفيلم نقد لمشكلة عصرية وإثارة فكرية لمجتمعات العالم الحديث، ففي عصر استعيض فيه عن الرومانسية بالتعارف عبر الإنترنت، يقدم لانثيموس قصة عن الحب البريء النقي الذي يقاتل من أجل البقاء في عالم ظالم ملتوي إيديولوجيًا، كل ذلك يحده إطار سينمائي من العنف والسريالية.
2. المفضلة – The favourite
حتى الآن نجد أن لانثيموس كان يستكشف في أفلامه اليونان السريالية، وأيرلندا البائسة، والضواحي الأمريكية، ومع ذلك، فإن أحدث إصدار للمخرج، فيلم المفضلة، يعيد تخيل فترة لم يكن المخرج نفسه ولا القائمين على العمل ولا حتى الجمهور البريطاني على معرفة مسبقة بها وهي فترة حكم «الملكة آن -Queen Anne» والتي حكمت من عام (1702) إلى عام (1707).
يعد هذا الفيلم هو و(صديقي المقرب) الفيلمين الوحيدين حيث لم يعمل لانثيموس ككاتب سيناريو لهم، فهذا السيناريو قيد التطوير منذ أواخر التسعينات من قبل «ديبورا ديفيس- Deborah Davis» التي قدمت ذلك العمل ليورجوس لانثيموس وهو بدوره أعجب بالعمل وقرر إخراجه.
يتتبع الفيلم أبيجيل (التي تلعب دورها «إيما ستون- Emma Stone») المرأة الارستقراطية التي فقدت مكانتها وتصبو للعمل في قصر الملكة آن (التي تلعب دورها «أوليفيا كولمان – Olivia Colman»)، في البداية تبدأ العمل كخادمة لها، ومن ثمَّ تتعرف أبيجيل على الملكة شيئًا فشيئًا لتكتشف عدة أشياء عن الملكة: أنها مصابة بمرض النقرس، وأنها غير قادرة على وضع استراتيجية للحرب مع فرنسا، وفي حالة من الحداد على فقدان أطفالها الذين ولدوا موتى، والتي استبدلتهم بجيش من الأرانب.
سرعان ما ستصبح أبيجيل على علم بعلاقة محرمة بين الملكة وقريبة أبيجيل مستشارة الملكة سارة (التي تؤديها راشيل ويز). مع الوقت تصبح أبيجيل صديقة الملكة هي أيضًا بل وتتورط معها عاطفيًا هي الأخرى لتندلع الحرب بين أبيجيل وسارة.
يقدم لنا هذا الفيلم العيوب القاتلة ونضالات القوى لدى الإناث لا الرجال، فنجد الشخصيات الذكورية في هذا الفيلم عناصر ترف وهامشيين تمامًا. ويرى الناقد «مارك كيرمود- Mark Kermode» أن الفيلم ينفجر بحوار كوميدي بشكل هائل، إلّا أنه مدعوم “بجو مأساوي” مستمر وبشكل رئيسي في ظروف الملكة نفسها.
غالبًا ما تكون الملكة فرحة وحزينة في نفس الوقت، كمثال ذلك المشهد عندما كانت تصرخ في الصبي الواقف: «هل نظرت إليّ؟… انظر إلي! كيف تجرؤ؟ أغلق عينيك!»، كما نجد أن كل من أوليفيا كولمان ورايتشل ويز يقدمان أرقى أداء لكل منهما، فأدائهما يجسد خبث أنثوي يستفز ويثير اشمئزاز الجمهور.
المشاهد مدمجة ومركزة، والأزياء مميزة بشكل استثنائي ومناسب لعصر السرد، كما يشهد الفيلم التوسع التجريبي الذي دومًا ما يقوم به لانثيموس فنجد أن لانثيموس امتدد في تجربته بعد فيلم قتل الغزال المقدس واستخدم عدسة عين السمكة مرة أخرى ولكن بتوسع أكبر.
وقد تلقى هذا القرار انتقادات كثيرة لكن المخرج دافع عن استخدام هذه التقنية من خلال توضيح كيف أنها تصنع شعورًا بالكلاستروفوبيا (الخوف من الأماكن المغلقة)، مما يفضي إلى انحلال الملكة، والفخ الخطير الذي تجده أبيجيل نفسها فيه.
الفيلم رائع وأداء الممثلين يستحق الثناء الذي حصل عليه، كما استحقت أوليفيا جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة بجدارة، إلّا إن النهاية ستترك البعض محبطين نظرًا للنهاية الغامضة وانعدام الدقة التاريخية من أجل خدمة المختوى الفني، ومع ذلك، لم تشهد السينما البريطانية دراما من هذا العصر منذ أيام كين راسل وبيتر غريناواي.
وإذا نظرنا للفيلم على نطاق أوسع نجد أن -سواء عن قصد أو بدون قصد- الفيلم بمثابة مرآة ساخرة مسلطة على فوضى السياسة البريطانية المعاصرة. وفي نهاية المطاف، هذا فيلم من المؤكد أنه سيشعل الضوء في أحلك أركان عقلك، كما يعد بمثابة درس أساتذة في كيفية الفوز بأي حجة، باستخدام أقصى قدر من الحرفية والذكاء.
يمكنكم قراءة المزيد عن الفيلم في هذه المقالة: https://www.egyres.com/favourite-البقاء-للأمكر-ترشيحات-الأوسكار-2019/
1. سن الكلب – Dogtooth
في مقابلة مع مجلة لوس أنجلوس تايمز صرّح المخرج السريالي ديفيد لينش بأن هذا الفيلم هو المفضل له في السنوات الأخيرة بل ووصفه بالكوميديا المذهلة أيضًا، فقد حقق هذا الفيلم انتصارًا ساحقًا للانثيموس، وأمده بالشهرة واهتمام النقاد، بل وجعله يحصل على أول ترشيح له في الأوسكار. هذا الفيلم -أكثر من أي فيلم آخر في القائمة- أذهل الجماهير وذلك بسبب مزيج لانثيموس الحاد من الفكاهة العبثية والرعب الاجتماعي الذي نجده في هذا الفيلم في أفضل حالاته.
القصة مستوحاة من قضية جو فريتزل الشهيرة «Fritzl case». يحكي فيلم سن الكلب قصة صاحب مصنع يلعب دوره الممثل «كريستوس سترجيلجو- Christos Stergioglou»، الذي يقوم بحبس أطفاله الثلاث في مجمع ما حتى بلغوا العشرينات والذي وعدهم بإطلاق سراحهم بمجرد أن يفقدوا (سن الكلب)، ومع عدم معرفة العالم الخارجي، يتم تعليم الأطفال العديد من الحقائق الخاطئة فمثلًا يخبرهم والدهم أن أخطر حيوان في العالم هو القطة والتي قتلت أخاهم غير المرئي.
فيلم سن الكلب أحد أهم أفلام السينما الحديثة، فبدلًا من السرد المعتاد المنقسم بين السبب والنتيجة، فإن السرد يترك لنا انطباع فني وتصور عن شكل المكان والزمن بطريقة مشابهة لفيلم كينيتا ولكن أكثر تفوقًا.
ما يدفعنا إلى الاستمرارية في هذا الفيلم هو الفضول الذي لا نهاية له من بداية الفيلم، وعدم القدرة على التنبؤ بأساليب الأب التي سيستخدمها ليغسل أدمغة عائلته. ما لم يتم ذكره في الفيلم أهم بكثير مما تم عرضه، وبذلك استطاع لانثيموس فتح طرق عديدة لكي تسلكها مخيلة المشاهد.
أما عن التصوير فنجد أن لانثيموس استعان برجله المعتاد ثيموس بكاتيتس. قام بكاتيتس بالاعتماد على لقطات ثلاثية ثابتة ومتعددة لينقل لنا عالم تلك العائلة المزعج والمثير للقللق، لكن لم تكن كاميرا باكتاكيس هي عامل الإثارة الوحيد، بل إن طريقة خلق وربط لانثيموس للأحداث لهو عمل استثنائي بشكل مذهل وكان دائمًا مُرْضيًا ومثيرًا للجماهير. هذا التوافق بين عمل الكاميرا الذي يتميز بالبساطة وظروف العائلة القاسية، ساهم في إبطاء التجربة مما أعطانا رؤية أكثر عمقًا داخل سيكولوجية الضحايا وأبيهم.
الفيلم له نهجه الخاص والفريد ولو أن أداء الممثلات والشكل العام يعيد على أذهاننا قلق المراهقين وحساسيتهم التي زرعتها «صوفيا كوبولا- Sofia Coppola» في فيلم «انتحار العذروات- The Virgin Suicides»، وبالإضافة لذلك، النص الأكثر تركيزًا ورعبًا وفكاهة، لا بد أن نعير اهتمامًا لأداء باسيليز «Christos Passalis» الذي لعب الابن، وتسوني «Mary Tsoni» التي لعبت دور الأخت الأصغر، أدائهم استطاع نقل قلق الشخصيات الحاد وحساسيتهم المفرطة.
ويعد هذا الفيلم هو أفضل مثالٍ على عمله العملي التجريبي أكثر من أي فيلم أخر، وطريقة صنع لانثيموس لهذا الفيلم تجعله يبدو كفيلم وثائقي صنعه علماء الأنثربولوجيا عن قضية فريتزل. هذا الفيلم سيجعلك تفهم البشر بشكل أفضل، كما أنَّ تنفيذ الفيلم المتطور والمحدد يجعل منه فيلم منافس يعتد به صناع السينما أمام الأفلام التجارية هذه الأيام.
ترجمة: زياد جمال
مراجعة علمية: سلمى عياد
مراجعة لغوية: حمزة مطالقة
تحرير: سامح منصور
المصدر:
https://bit.ly/2HSlRHo