هو (أبو عليّ الحُسين ابن عبدُ الله ابن الحسن بن علي ابن سينا)؛ وُلد في قرية (أفشنة) الفارسية في صفر من سنة 370 هـ/ 980م، بالقُرب من بخارى في إيران –حاليًا أوزبكستان- ثم انتقل به أهله إلى بخارى، وفيها تعمّق في العلوم المتنوعة من فقه وفلسفة وطب، وبقي في تلك المدينة حتى بلوغه العشرين. ثم انتقل إلى خوارزم، حيث مكث نحو عشر سنوات (392-402 هـ)، ومنها إلى جرجان، فإلى الرّي. وبعد ذلك رحل إلى مدينة همدان وبقي فيها تسع سنوات، ومن ثم دخل في خدمة علاء الدولة بأصفهان. وهكذا أمضى حياته متنقلًا حتى وفاته في همدان، في شهر شعبان سنة 428هـ/1037م.
هو الطبيب المُسلم الذي يُعد أشهر وأكثر العلماء والفلاسفة تأثيرًا من العالم الإسلامي في العصور الوسطى. اشتهر بشكل خاص بـ إسهاماته في مجال الفلسفة الأرسطية إلى جانب الطب، قام بتأليف «كتاب الشفاء»؛ والذي يُعد موسوعة طبية وفلسفية؛ كما قام بوضع كتاب «القانون في الطب» والذي يُعد من أشهر المؤلفات في تاريخ علم الطب.
لم يلمع نجم ابن سينا في فترة خواءٍ عقلي للمسلمين. حيث قدم (ابن المُقفع) المنطق الأرسطوطاليسي للعالم الإسلامي قبل عصر ابن سينا بحوالي مائتي عام. كما سبق ابن سينا علماء قد استقى من مؤلفاتهم الميتافيزيقيا الأرسطية مثل الفيلسوف الأرسطي الإسلامي الأول (عقوب بن إسحاق الكندي) والعالم التركستاني (أبو نصر الفارابي)؛ وعلى الرغم من ذلك يظل ابن سينا الأعظم بين هؤلاء الجهابذة.
حياة وتعليم ابن سينا
من خلال سرد ابن سينا الشخصي لحياته؛ الذي تم تناقله عبر تلميذه النجيب (ابو عبيد جوزجانی)؛ قرأ بن سينا القرآن وأتمَّ حفظه كاملًا دون العاشرة من عمره. درَسَ ابن سينا مبادئ علم المنطق على يد (أبو عبد الله النائلي) وسرعان ما تفوق على استاذه ثم شرع في دراسة المؤلفات الهلنستية بمفرده. وببلوغه عمر السادسة عشر تحول إلى علم الطب؛ العلم الذي سرعان ما بَرَع فيه. عندما مَرَض سلطان بخارى بشكل أعجز وأربك أطباء القصر، تم استدعاء ابن سينا الذي نجح في مداواة السلطان؛ وعرفانًا له قام السلطان بفتح أبواب المكتبة الملكية له مما أتاح لـ ابن سينا آفاقًا سرمدية من العلوم والفلسفة.
بزغ نجم ابن سينا في وضع المؤلفات العلمية المتنوعة وهو في الحادية والعشرين من عمره. 240 مؤلفًا كان هو عدد المؤلفات التي تحمل اسمه في ذلك الوقت؛ والتي شملت مجالاتٍ معرفية وعلمية عديدة؛ أهمها الرياضيات؛ الهندسة؛ الفلك؛ الفيزياء؛ فقه اللغة؛ الموسيقى؛ والشعر.
وقد كان اضطرار ابن سينا للسفر المستمر -لتجنبه بعض التورطات في الصراع الديني والسياسي- أحد معوقات مسيرة ابن سينا العلمية؛ وفي مدينة أصفهان وجد ملاذه من الأمن والاستقرار. إذا كان بإمكاننا القول أن ابن سينا قد مرَّ بـ فترةٍ مفعمةٍ بالازدهار والسلام فـ هي بلا شك فترة تواجده في مدينة أصفهان؛ حيث كان في عزلة عن جميع أنواع المكائد السياسية؛ وحيث كان يقيم مجالسه العلمية في نهاية كل أسبوع؛ حيث يتم طرح جميع الموضوعات في جميع المجالات المعرفية بحرية تامة. وفي هذا المناخ العلمي الخصب؛ أتم ابن سينا «كتاب الشفاء»؛ و«كتاب المعرفة»؛ و«كتاب النجاة».
بينما كان ابن سينا بمصاحبة علاء الدولة ذات مرة؛ وقع متأثرًا بـ إصابته بألمٍ معوي. قام بوصف علاجه بنفسه والذي كان يتضمن ثمانية حقن تحتوي على حبوب الكرفس في يومٍ واحد. وبشكل مقصود أو غير مقصود قام أحد الأطباء المساعدين بتعديل الجرعة وزيادة العناصر الفعالة لـ خمسة عناصر بدلًا من الاثنين المُحددين مما تسبب في تقرح الأمعاء لديه. تلاه علاجه باستخدام (ميثريدات – mithridate) وهو علاج اسطوري نُسب إلى الملك الإغريقي (ميثريداتس السادس- Mithradates VI) ملك (بونتس-Pontus) مضاد للتسمم؛ حيث حاول أحد الخدم تسميم ابن سينا خفيةً بوضع جرعة كبيرة من الأفيون له. ثم صحب ابن سينا الواهن ذو العزيمة المقاومة علاء الدولة في مسيرته إلى مدينة همدان؛ وفي طريقهم انَتَكس لحالةٍ مذرية؛ ترنحت مقاومته شيئًا فـ شيئًا حتى توفي في شهر رمضان.
إسهامات ابن سينا في العلم والفلسفة
زعم المستشرق البريطاني (إدوارد براون – Edward G. Browne) أن: «ابن سينا كان فيلسوفًا أفضل من كونه طبيبًا؛ بينما كان الرازي طبيبًا أفضل من كونه فيلسوفًا» تم تداول هذا الادعاء لفترة إلى أن تم طرح التساؤل الذي يفرض نفسه على الساحة: ما هي العوامل المعاصرة التي يُبنى عليها التقييم بالأفضلية؟ هناك العديد من التوضيحات المفقودة لتفسير آراء وتوجهات هؤلاء العلماء العلمية والفلسفية اليوم.
لقد كانت توجهاتهم تلك في منشأ ثقافة الخلافة العباسية (750–1258)؛ لقد تأسس حكم السلالة الحاكمة الأخيرة على مبادئ المجتمع الإسلامي الأول (الأمة) في العالم الإسلامي. وبذلك فإن معتقداتهم الثقافية قد نشأت بعيدًا عن معتقدات الغرب في القرن العشرين وأيضًا بعيدة عن معتقدات سلفهم (الهلنستي)؛ حيث كانت معتقداتهم متمركزة حول فكرة الإله (theocentric) أكثر من كونها مرتكزة حول البشر (anthropocentric)؛ وهو منظور شائع في الثقافة اليونانية الرومانية. حيث الكون عبارة عن مزيج من الطبيعة وما وراء الطبيعة والعوالم الغير مادية الخارقة.
يُعد «كتاب الشفاء» أبرز وأهم أعمال ابن سينا الفلسفية والعلمية؛ وهو عبارة عن موسوعة مقسمة لأربعة أجزاء تتناول أربعة فروع علمية؛ المنطق، العلوم الطبيعية، الرياضيات، والميتافيزيقيا. وحيث أن العلم يتوازى مع الحكمة؛ فإن ابن سينا يُعد واضعًا لمزيجٍ رحب من المعرفة المتكاملة.
على سبيل المثال؛ في قسم العلوم الطبيعية؛ يتم تناول الطبيعة ضمن سياق الثماني علوم الأساسية؛ بما في ذلك علم المبادئ العامة؛ علم الوجود السماوي والأرضي؛ علم العناصر الأولية؛ بالإضافة إلى علم الظواهر الجوية؛ علم المعادن؛ علم النبات؛ علم الحيوان، علم النفس (علم الروح). أما عن العلوم الثانوية –وفقًا لدرجة الأهمية- كما صنفها ابن سينا كانت؛ علم الطب، علم التنجيم، علم الفراسة، علم التطابق بين السمات النفسية والجسدية، علم تفسير الأحلام، علم السيمياء (جسيمات تحمل طاقة ما تساعد على اندماج الطاقات السماوية مع طاقات أجساد أرضية محددة مما يؤدي إلى أحداث خارقة على الأرض)؛ إلى جانب علم الكيمياء؛ مع رفض ابن سينا لمفهوم التحول (transmutationism) المتضمنة تحول المعادن الوضيعة مثل النحاس والرصاص إلى معادن ثمينة مثل الذهب والفضة. كما تم تقسيم علم الرياضيات إلى أربعة أجزاء رئيسية: علم الأرقام والحساب؛ علم الهندسة والجغرافيا؛ علم الفلك، والموسيقى.
كان المنطق بالنسبة لابن سينا مجرد أداة لعلم الفلسفة. وعلى الرغم أنه منتَهِج التقليد الفارابي والكندي بشكل عام؛ إلا أنه نأى بنفسه عن المدرسة البغدادية الأرسطوطاليسية كما قام باستخدام المفاهيم الأفلاطونية والرواقية- نسبة إلى المذهب الرواقي- على نحو أكثر انفتاحًا وبـ عقلٍ أكثر استقلالية. جدير بالذكر أن طبيعة علم اللاهوت من منظور ابن سينا –المعتمد على فكرة السبب الوجودي الأول والأوحد والأزلي (الإله) المشتق منه جميع الموجودات بما فيهم جميع المعارف والقدرات الذهنية- ساعدت على رواج فلسفته وانتقالها إلى الفكر الفلسفي الأوروبي في العصور الوسطى.
إسهامات ابن سينا في علم الطب
على الرغم من الاتجاه العام بتفضيل إسهامات الرازي الطبية؛ العديد من الأطباء يشيدون بـ إسهامات ابن سينا لما يتمتع به من التنظيم والوضوح. في الواقع إن تأثير ابن سينا على المدارس الطبية الأوروبية العريقة كان ممتدًا إلى أوائل العصر الحديث؛ وبذلك فـ إن كتاب ابن سينا «القانون في الطب» قد تفوق كـ مصدر طبي على كتاب الرازي «الحاوي في الطب».
كتاب القانون في الطب
إن وَلَع ابن سينا بالتصنيف واضحًا في تقسيمه لكتاب «القانون في الطب» إلى خمسة مجلدات:
المجلد الأول
يحتوي على أربعة دراسات:
- الدراسة الأولى: تتضمن فحص لأربعة عناصر من الطبيعة (الأرض، والهواء، والنار، والماء) على غرار نظرية (الأخلاط الأربعة) للطبيب اليوناني (جالينوس) (الدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء)؛ كما تشتمل أيضًا على علم التشريح.
- الدراسة الثانية: تتناول علم أسباب وأعراض الأمراض.
- الدراسة الثالثة: تتناول علم الصحة والمرض وحتمية الموت.
- الدراسة الرابعة: تتناول علم تصنيف الأمراض ونظرة عامة على الأنظمة الروتينية العلاجية.
المجلد الثاني
يحتوي على علم الأدوية (materia medica-pharmacology)
المجلد الثالث
يضم أمراض الجسد من الرأس لأخمص القدمين (Head-to-Toe Diseases)
المجلد الرابع
يضم الأمراض الغير قاصرة على أعضاء محددة (الحمى والأمراض الخاصة بالأخلاط وأنظمة الجسم)
المجلد الخامس
يضم الأدوية المركبة. يعد المجلد الثاني والخامس ملخصات وافية لـ 760 علاج دوائي مركب كما أسهب في تفصيل علم الأمراض على مذهب جالينوس الخاص بالأخلاط الأربعة.
دور ابن سينا في تشخيص وعلاج الأمراض
لسوء الحظ أن الإحصاءات السريرية التي سجلها ابن سينا بنفسه كـ ملحقات لكتاب «القانون في الطب» قد فُقدت وتم العثور فقط على النص العربي في نسخة رومانية ترجع لـ عام 1593. طبق ابن سينا علاج الطبيب اليوناني (هيبوقراط) في علاج التشوهات الفقرية باستخدام تكنيك الإنقاص والاختذال وهو التكنيك الذي تم تعديله بواسطة الطبيب اليوناني (بولس الأجانيطي – Paul of Aegina). يتضمن تكنيك الاختزال استخدام الضغط والجذب حتى تعتدل العظام لوضعها الصحيح ومن ثم علاج تشوهات المفاصل والعظام كما هو الحال في حالات انحناء العمود الفقري. لم يُستخدم هذا التكنيك منذ تلك الفترة حتى جاء الطبيب والجرّاح الفرنسي (جين فرانسوا كالو – Jean-François Calot) وأعاد استخدامه في عام 1896. كما شاع تطبيق اقتراح ابن سينا بتضميد الجراح باستخدام النبيذ في أوروبا في العصور الوسطى. قام ابن سينا كذلك بتوصيف عَرَض عُرف بـ «النار الفارسية» (الجمرة الخبيثة – anthrax)، وأيضًا شخص بشكل موفق زيادة نسبة السكر في البول ونسبها إلى مرض السكري، كما قام بتوصيف مرض دودة غينيا (guinea worm).
امتد تأثير اسهامات ابن سينا الطبية للطب الحديث؛ على سبيل المثال الطب القائم على التجربة والأدلة يُعد ظاهرة معاصرة تمامًا قائمة على التجربة السريرية مزدوجة التعمية. ولكن كما أشار المؤرخ الطبي (مايكل ماكفا – Michael McVaugh) أن الأطباء في العصور الوسطى قد بذلوا جهودًا مضنية لإقامة تطبيقاتهم العلمية بناءً على أدلة علمية موثوقة. وهنا لعب ابن سينا دورًا رائدًا كعالم بارز في الثقافة اليونانية العربية والذي ترك بصمته على أطباء القرن الثالث عشر. إن مفهوم التطبيق الطبي لابن سينا –اكتشاف وتحديد العلاج الفعال بناءً على التجربة- قد أتاح عملية اختبار وتقرير العلاجات الدوائية في سياق من الأسس العقلية العلمية. إن ابن سينا -وإلى حدٍ ما الرازي- قد أتاحوا للعديد من المُعالجين في العصور الوسطى هيكل نموذجي لعلم الطب كـ علم تجريبي متسق مع ما أطلق عليه (ماكفا) «التصوّر العقلاني والمنطقي للطبيعة». هذا لا يعني بالضرورة أن أطباء العصور الوسطى قاموا بتأسيس علم تصنيف الأمراض الحديث أو قاموا بتطوير بروتوكولات البحث العلمي المعاصر. إلا أن إنكار إسهامات ابن سينا؛ أو دور الثقافة اليونانية العربية التي كان ابن سينا جزءًا بارزًا منها في بناء أنماط الرعاية الطبية والصحية على أسس علمية، سيكون متنافيًا مع المصداقية التاريخية.[1]
مقتطفات من توجهات ابن سينا الدينية والفلسفية
ينتمي ابن سينا إلى الطائفة الإسماعيلية*؛ ذكر (يحي بن أحمد الكاشي) قول ابن سينا عن نفسه فقال:
وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعدّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي، وكانوا ربّما تذاكروا ذلك وأنا أسمع وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي وابتدءوا يدعونني إليه.[2]
وقد كفّر جمع من أهل العلم ابن سينا، بل حكم عليه بعضهم بالزندقة والإلحاد، ومن هؤلاء: أبو حامد الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، لقوله بعدة عقائد فاسدة منها: قدم العالم، وعدم علم الله تعالى بالجزئيات، وإنكاره البعث الجسماني.[3]
أصل فلسفة ابن سينا
يقول ابن تيمية:
وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنّه استفادها من المسلمين، وإن كان إنّما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية، وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي، الذي كان هو أهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد، أحسن ما يظهرونه دين الرفض، وهم في الباطن يبطون الكفر المحض.[4]
ويقول:
وابن سينا لمّا عرف شيئاً من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقّاه عن الملاحدة، وعمّن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء، وبين ما أخذه من سلفه، فتكلم في الفلسفة بكلام مركّب من كلام سلفه ومما أحدثه، مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات والمنطقيات… فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح،حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض.[5]
ويقول عبد الرحمن بن خلدون:
ثمّ كان بعده -أرسطو- في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أن كتب أولئك المتقدمين.. تصفّحها كثير من أهل الملة (الإسلام) وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم: أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا.[6]
ويعرِّف ابن سينا الرسالة بقوله:
هي ما قُبل من الإفاضة المسماة وحيًا على أي عبارة استصوبت لصلاح عالمي البقاء والفساد علمًا وسياسة.
ويعرِّف الرسول بقوله:
هو المبلغ ما استفاد من الإفاضة المسماة وحيًا على عبارة استصوبت ليحصل بآرائه صلاح العالم الحي بالسياسة، والعالم العقلي بالعلم.[7]
والمراد بالإفاضة في قول ابن سينا: ما فاض على نفس النّبي من المعاني من العقل الفعّال[8] -وهو الملك جبريل- ثمّ فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لذلك.
إنّ الفرق المشهور -عند العلماء- بين النّبي والرسول، أنّ الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنّبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه[9]، ولكن هذا الفرق لا يسلم من إشكال، لأنّ النّبي مرسل ومأمور بالدعوة والتبليغ؛ لذا ذهب بعض العلماء إلى أن الرسول: من أوحى إليه بشرع جديد، والنّبي: هو المبعوث لتقرير شرع من قبله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أنّ الرسول هو من أرسل إلى قوم كفار مكذبين، والنّبي من أرسل إلى قوم مؤمنين بشريعة رسول قبله يعلمهم ويحكم بينهم، كما ذُكر في سورة المائدة:44 [إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبيونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ] فأنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة التي أنزل الله على موسى عليه السلام.[10] وما ذكره ابن سينا مبني على أصوله الفلسفية، التي لا يسلم بها علماء الإسلام.
وأمّا فرضية ابن سينا أن ذلك فيض فاض من العقل على نفس النّبي، فقد تناوله عالم الإسلام ابن تيمية بقوله:
إنّ هذا ليس من مقالات أهل الملل لا سنيهم ولا بدعيهم، لكن من مقالات الصابئة المتفلسفة الذين ليس عندهم في الحقيقة لله كلام، ولا ملائكة تنزل بكلامه، ولا عندهم تمييز بين موسى وهارون ولا بينهما وبين عدو الله فرعون.[11]
وقد ذهب البعض أن ابن سينا بنى هذا الافتراض على أصلٍ فاسد إذ كان لا يرى أنّ الله يسمع كلام عباده، ولا يعلم ما في نفوسهم، ولا يقدر أن يغيّر شيئًا من العالم، ولا له مشيئة يفعل بها من يشاء.[12] ومن قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنّه يكذب على القرآن الذي أخبر بأنّ موسى عليه السلام سمع نداء الله له، وأنّه كلّمه دون واسطة في جبل طور سيناء، كما هو مذكور في سورة مريم:52 [وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً]، وسورة النساء:16 [وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً]، وإخبار الرسول عن أمور الغيب يدلّ على نبوته، وهو يدلّ على أنّ النّبوة إنباء من الله، وليس ذلك مما يقوله ابن سينا من أنّه فيض فاض عليه من العقل الفعّال. وهو لازم لقول من جعل كلام الله معنى مجردًا، وإذا كان اللزوم معلوم الفساد بالاضطرار علم فساد اللازم الذي زعمه.[13] وما ذُكر في سورة الأنعام:114 [وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ]، يفيد أنّ التنزيل من الله، وهو يدلّ على بطلان قول ابن سينا الذي يجعل الرسالة فيض فاض على نفس النّبي من العقل الفعّال[14] وقوله بالفيض يعني عدم إثبات حقيقة الرسالة، والنبوة عنده فيض من جنس المنامات، وهذا الجنس موجود لعموم الناس، ويشترك فيه المسلمون والكفار من المشركين وأهل الكتاب فأي ميزة أو فضل للأنبياء؟
كما يذهب ابن سينا إلى ضرورة وجود النّبي، وأنّ بعثة النّبي واجبة عقلًا، يقول في ذلك:
فواجب إذًا أن يكون نبي، وواجب أن يكون إنسانًا، وواجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس، حتى يستشعر الناس فيه أمرًا لا يوجد لهم، فيتميز به عنهم، فتكون له المعجزات التي أخبر به.[15]
ويقول أيضًا:
إنّ النّبي من عند الله، وبإرسال الله، وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما يسنه فإنّما هو ما وجب من عند الله أن يسنّه، وإنّما يسنّه من عند الله.[16]
ويعـدّ الفارابي أول الفلاسفة الإسلاميين القائلين بنظرية النّبوة وضرورة النّبي، وهو يعدّ النّبوة وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، وأنّ النّبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحيتين السياسية والأخلاقية. وارتأى أن الشروط التي يجب توافرها في النّبي هي نفس الشروط اللازمة لرئيس المدينة الفاضلة، وهي: أن يكون سليم البنية، قوي الأعضاء تامّها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة، وسريع البديهة، حسن العبارة، محبًا للعلم وللاستفادة، وأن يكون صادقًا أمينًا، ناصرًا للعدالة، مجتنبًا للملذات الحسية، غير شَرِه على المأكول والمشروب والمنكوح، مبتعدًا عن اللهو واللعب، وأن تكون أعراض الدنيا هينة عنده. وأن يسمو إلى درجة العقل الفعّال الذي يستمد منه الوحي والإلهام.[17]
وأمّا ابن سينا فيربط بين العناية الإلهية والنبوة، فيقول:
فلابدّ في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بد في المعاملة من سنة وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سانّ ومعدِّل،ولا بد أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة، ولا بد من أن يكون هذا إنسانًا.[18]
فوجود النبوة واجب، وواجب أن يكون إنسانًا، وله من الخصائص ما لغيره من الناس حتّى يستشعر الناس فيه أمرًا لا يوجد لهم، ويجب أن تكون له المعجزات التي أخبرنا بها.[19]
السيرة الذاتية لابن سينا
إن الكثير مما وصلنا عن ابن سينا كان من خلال سيرته الذاتية التي أملاها على تلميذه (أبو عبيدة الجوزجاني). تخلل حياة ابن سينا العديد من الأصدقاء والعديد من الأعداء أيضًا. إلا أنه في أغلب التصريحات من كلا الجانبين رُوي أنه كان محبًا للحياة ومُحبًا للموسيقى؛ والشراب؛ والعلاقات الجسدية. وعلى الرغم أن فطنة ابن سينا وذكاءه المتقد قد ساهم في إكسابه العديد من الأصدقاء إلا أن استهانته بالاتجاهات الدينية التقليدية الملتزمة وتقاليدها أكسبته ما يفوق اصدقاءه أعداء. قد يبدو ابن سينا صَلِفًا بعض الشيء؛ فـ بينما اكتسب الكثير من العالم الفارسي (أبو بكر الرازي) إلا أنه نبذه بتصريحه أنه «كان عليه الاكتفاء بـ فحص وتحليل الفضلات»[1]
على الرغم من ذلك كان ابن سينا شخصية تميل للعزلة كما كانت نزعته الحذرة للنجاة وسط صراعات السياسية للمجتمع تعيق إلى حدٍ ما مجهوداته التقدمية لتطوير نفسه والارتقاء بها. وعلى الرغم من نواقص ابن سينا أو مميزاته؛ كان ذكاؤه منقطع النظير في كلٍ من المجالات النظرية والتطبيقية.
تأثير ابن سينا على الفكر الأوروبي
انتقلت فلسفة ابن سينا إلى الفكر الأوروبي في العصور الوسطى؛ كما عمل على المزج بين الفلسفة الأفلاطونية الحديثة والفكر الأرسطي إلى جانب دمجه لجميع العلوم المعرفية المتاحة آنذاك في مؤلفات مكتوبة مُتاحة للجميع. كل هذه العوامل جعلت من ابن سينا أحد أكثر المفكرين حِنكة وعبقرية منذ عصر أرسطو. يعبر الفيلسوف البريطاني (أنتوني فلو – Antony Flew) عن تقديره لابن سينا قائلًا أن ابن سينا:
أحد أعظم من كتب باللغة العربية من المُفكرين على الإطلاق
وفي مجال الطب؛ كان لابن سينا أثرًا كبيرًا على المدارس الطبية الأوروبية في القرن السابع عشر. وعلى الرغم من ذلك فقد خضع كتاب «القانون في الطب» لنقدٍ متزايد من قبل رواد عصر النهضة، وذلك بسبب التزام ابن سينا بالنظريات والتطبيق العلمي المذكور في النصوص اليونانية الرومانية؛ إلا أن المعلمين الأطباء قاموا بالاستعانة به كـ مقدمة دراسية لأساسيات ومبادئ علم الطب للطلاب والدارسين.
ولقد انتقد الطبيب (آرنولد الـﭬيلانوﭬي – Arnold of Villanova) في العصور الوسطى ابن سينا بوصفه:
الكاتب الأهوج الذي ضلّل أطباء أوروبا من خلال تفسيراته المغلوطة لما جاء عن الطبيب اليوناني جالينوس.
ولكن هذا التصريح يُعد ضربًا من الحُمق؛ لأن في الواقع لولا ابن سينا لفُقدت الكثير من فروع المعرفة؛ كما أن بقاء ما جاء به ابن سينا على مر القرون يضحد ما جاء على لسان الـ(ﭬيلانوﭬي). في عام 1913 بينما يُحاضر الطبيب والأكادييمي الكندي (ويليام أوسلر – William Osler) قام بوصف ابن سينا بـ أنه:«صاحب أهم مؤلَّف طبيّ كُتب على الإطلاق» كما وصفه من الجانب العملي بـ أنه: «نموذج مثالي للطبيب الناجح الذي هو في الوقت نفسه رجل دولة، ومعلم، وفيلسوف، وأديب»
وفي المُجمل؛ يُعد ابن سينا ضمن آخرين من العلماء المسلمين -أمثال؛ ابن رُشد، على ابن عباس، أبو القاسم، ابن زُهر وآخرين- ممن قاموا بـ أدوار عظيمة خلال العصر الذهبي للإسلام في نقل وتفسير المعرفة الهلنستية الغائبة عن أوروبا. إن الحركة التنويرية الثقافية الصادرة من العالم الإسلامي ساهمت في إيقاظ أوروبا الغارقة في غياهب الظُلمة الفكرية آنذاك، ويمكن القول أن ابن سينا كان السفير الأعظم لهذه الحركة.
إن مكانة ابن سينا كـ أحد الأعلام البارزة في التاريخ الإسلامي مستمرة حتى اليوم؛ وهي واضحة حتى في مقبرته في مدينة همدان؛ فـ على الرغم من أنها كانت بحاجة للترميم في مطلع القرن العشرين؛ إلا أنه كما أوضح (أوسلر)
لا يزال لدى الطبيب الإيراني مُريدينه؛ حيثُ تُزار مقبرته من قبل الزوار حتى الذين لم يكن الطب بالنسبة لهم شيئًا استثنائيًا.
وفي الخمسينيات من القرن الثامن عشر تم ترميم المقبرة وتحويلها إلى ضريح عريق مُزخرف بـ بُرج مهيب على الطراز المغولي وتم إلحاق متحف بها ومكتبة تضم 8000 مُجلد. تظل مقبرة ابن سينا محطة وقوف للعديد من السائحين والزوار، واليوم؛ تمامًا كما كان في حياته؛ يجذب الطبيب والفيلسوف العظيم اهتمام الكثير من العلماء والعامة على حدٍ سواء.[1]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الإسماعيلية إحدى فرق الشيعة وثاني أكبرها بعد الاثنى عشرية. يشترك الإسماعيلية مع الاثناعشرية في مفهوم الإمامة، إلا أن الانشقاق وقع بينهم وبين باقي الشيعة بعد موت الإمام السادس جعفر الصادق، إذ رأى فريق من جمهور الشيعة أن الإمامة في ابنه الأكبر الذي أوصى له إسماعيل المبارك، بينما رأى فريق آخر أن الإمام هو أخوه موسى الكاظم لثبوت موت إسماعيل في حياة أبيه وشهادة الناس ذلك. يمثل التيار الإسماعيلي في الفكر الشيعي الجانب العرفاني والصوفي الذي يركز على طبيعة الله والخلق وجهاد النفس، وفيه يجسد إمامُ الزمان الحقيقةَ المطلقة، بينما يركز التيار الاثناعشري الأكثرُ حَرفِيةً على الشريعة وعلى سنن الرسول محمد والأئمة الاثناعشر من آل بيته باعتبارهم منارات إلى سبيل الله. الإسماعيلية يتفقون مع عموم المسلمين في وحدانية الله ونبوة محمد ونزول القرآن المُوحى، وإن كانوا يختلفون معهم في أن القرآن يحمل تأويلًا باطنًا غير تأويله الظاهر، لذلك نعتهم مناوؤوهم من السنة وكذلك بعض من الشيعة الاثناعشرية بالباطنية.
مصادر
1- Flannery, Michael. “Avicenna.” Encyclopædia Britannica, Encyclopædia Britannica, Inc., 15 Nov. 2017, www.britannica.com/biography/Avicenna.
2- في رسالته: نكت في أحوال الشيخ الرئيس ابن سينا، تحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، منشورات المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرة 1952م ص10.
3- انظر ترجمته: عيون الأنباء في طبقات الأطباء: ابن أبي أصيبعة، مكتبة الحياة- بيروت- 1965م ص437-459، تاريخ الحكماء: ابن القفطي، طبعة ليبزج، ألمانيا 1903م ص وما بعدها 413، ظهير الدين البيهقي:تاريخ حكماء الإسلام، تحقيق محمد كرد علي، المجمع العلمي العربي- دمشق- مطبعة الترقي 1946م ص52-72.
4- الرد على المنطقيين: أحمد ابن تيمية،إدارة ترجمان السنة-لاهور، باكستان- 1396ه-1976م، ص141-142 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن محمد بن قاسم، مكتبة النهضة الحديثة- مكة 9/133.
5- الردّ على المنطقيين ص144-145.
6- مقدمة ابن خلدون، دار إحياء التراث العربي_ بيروت- ص515.
7- رسـالة في إثبـات النبوات وتأويل رموزهم – ضمن مجموعة تسع رسائل في الحكمة – لابن سينا – مطبعة هندية- مصر- 1326ه- 1908م، ص124.
8- العقل الفعّال عند الفلاسفة: هو جوهر بسيط مجرد من المادة وعلائقها،المخرج لنفوس الآدميين في العلوم من القوة إلى الفعل،ونسبته إلى المعقولات والقوة العاقلة، نسبة الشمس إلى المبصرات والقوة الباصرة، إذ بها يخرج الإبصار من القوة إلى الفعل. انظر معيار العلم : أبو حامد الغزالي: تحقيق د. سليمان دنيا، دار المعارف بالقاهرة ص289، المعجم الفلسفي: د. جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني – بيروت- الطبعة الأولى 1973م 2/84-85.
9- انظر شرح العقيدة الطحاوية على بن علي بن أبي العز الدمشقي الحنفي، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه الدكتور عبد الله التركي وشعيب الأرناؤط، مؤسسة الرسالة- بيروت- الطبعة الأولى1408 ه-1988م 2 /411-412، لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية: محمد بن أحمد السفاريني، المكتب الإسلامي،بيروت، مكتبة أسامة، الرياض، الطبعة الثانية 1405ه-1985م 1/49
10- انظر النبوات: ابن تيمية،تحقيق محمد عبد الرحمن عوض، الطبعة الأولى 1405ه- 1985م، دار الكتاب العربي- بيروت- ص 181-182.
11- انظر بغية المرتاد 1/384.
12- الصفدية2/288.
13- انظر مجموع الفتاوى6/540.
14- انظر المصدر السباق 12/120، 15/222.
15- النجاة لابن سينا، دار الآفاق الجديدة – بيروت- الطبعة الأولى:1405ه- 1985م– تحقيق د. ماجد فخري ص339
16- المصدر السابق ص343.
17- آراء أهل المدينة الفاضلة: أبو نصر الفارابي،تصحيح عبد الوصيف محمد الكردي، مكتبة الحسين التجارية بمصر، مطبعة حجازي بالقاهرة ص 87، 88.
18- النجاة: ابن سينا – دار الآفاق الجديدة – بيروت – ط1، 1405هـ – 1985م ص339.
19- انظر المصدر السابق ص 339.
إعداد وترجمة: آلاء مرزوق
تحرير: زياد الشامي