التفكير التحليلي لا يضعف دومًا المعتقدات الدينية..
اقترحت أوراق بحثية جديدة أن المعتقدات الدينية والخارقة للطبيعة تقوم على أساسٍ من التفكير الحدسي، وأن إقحام التفكير التحليلي في الأمر قد يضعف هذه المعتقدات، بصورةٍ مؤقتة على الأقل. لهذه الدراسات أثرٌ مذهل في تفسير ظهور هذه المعتقدات، وتقترح كذلك الأمور المُحتمل أن تضعفها. تعتبر هذه الدراسات أن كلًّا من الحدس والتفكير التحليلي نظامان متضادان، وبالرغم من أن هذا عادةً صحيح، إلا أنه قد أظهرت دراساتٍ سابقة أن من الممكن عند بعض الأشخاص، أن يتعاون كلا النظامين بدرجةٍ كبيرة، وكان هذا التعاون مصحوبًا بالإيمان بما فوق الطبيعة.
تعتمد هذه الدراسات على نموذجٍ فكري يدعى المعالجة الثنائية (Dual process)، الذي يقترح وجود نظامين متوازيين لمعالجة المعلومات.
يعتمد النظام الأول، الذي يُعرف عادةً بالنظام التجريبي، على الحدس والعاطفة، ويقوم بتوفير استجابات فورية.
بينما نجد النظام الثاني، والذي يُعرف عادةً بالنظام المنطقي، معتمدًا على التفكير والمنطقية والتأني في تداول الأمور، وبالتالي يستغرق وقتًا أكبر في معالجة المعلومات مقارنةً بالنظام الحدسي.
هناك فروقٌ فردية حول الدرجة التي يفضل بها الناس استخدام أيٍّ من هذين النظامين. أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين يفضلون الاعتماد على التفكير الحدسي، يكونون أكثر ميلًا للإيمان بالإله والحياة الأخرى، وكذلك الظواهر فوق الطبيعية مثل: امتلاك قوى روحية والسحر والتنجيم وغيرها. وقد قام بينيكوك (Pennycook) وغيره بتصنيف قوة الإيمان بالإله إلى درجات، بدايةً بأكثرها تقليدية (الإيمان بوجود إلهٍ له ذات خاصة)، مرورًا بأقلها تقليدية (الإيمان بقوةٍ عليا أو إلهٍ غير نشط)، انتهاءً بعدم الإيمان من الأساس (اللاأدرية والإلحاد). ووُجد أن المعتقدات الإلهية الأكثر تقليدية كانت مصحوبة بدرجةٍ أكبر من الاستجابات الحدسية، بينما صَاحَبَ المعتقدات الأقل تقليدية وعدم الإيمان ظهورٌ واضح للتفكير التحليلي.
ما يثير الاهتمام فوق كل هذا، هو النتائج التي ظهرت من التدخل التجريبي للتلاعب بالتفكير الحدسي في مواجهة نظيره التحليلي، حيث زادت المعتقدات الإلهية قوةً عند استخدام مؤثر كتابي مُصمم لرفع ثقة الفرد في قدرته الحدسية أو لتقليل ثقته في قدرته على التفكير المنطقي. وعلى العكس، ضَعُفَت هذه المعتقدات عند التقليل من ثقته في الحدس ورفع ثقته في المنطق. كذلك أظهرت سلسلة من التجارب أن تعزيز المنطقية عند الفرد تضعف من إيمانه بالإله.
شملت الطرق التي اُستخدمت في هذه التجارب: عرض صورة لتمثال «المفكر» للفنان الفرنسي رودين (Rodin) -الموجودة أعلى الصفحة-، قراءة كلمات متعلقة بالتفكير التحليلي مثل (التفكير، المنطق، التحليل، التأمل، العقلانية)، وكذلك كان لقراءة مجموعةٍ من الأسئلة مكتوبة بخط غير واضح دور ملحوظ في التجربة. فقد توصل البحث السابق إلى أن قراءة المعلومات المُقدمة بخط يصعب على القراءة، يحسّن من أداء المشتركين في الاختبارات التالية المعتمدة على التفكير التحليلي.
الجدير بالذكر أنه لم تتضمن أيٌّ من التدخلات السابقة أيَّ شكلٍ من الجدال ضد معتقدٍ ديني معين، بل ولم يُذكر فيها أي معتقدٍ من الأساس. فقط طُلب من الناس أداء هذه الاختبارات، ثم إجابة بعض الأسئلة عن معتقداتهم.
لهذه النتائج دورٌ مهم في محاولات الإقناع بالمعتقدات الدينية أو العدول عنها، فتشجيع الناس على الالتفات إلى الحدس أو الشعور الغريزي في مسائل غير متعلقة بالإيمان، سيؤدي تباعًا إلى زيادة تقبل الواحد منهم للأفكار الدينية والفوق طبيعية. وعلى الجانب الآخر، فإن تحفيز المناقشات الفكرية أو حتى قراءة موضوع -لا علاقة له بالأديان- مكتوب بخطٍّ صعب القراءة، من الممكن أن يطرح الشكوك حول هذه المواضيع. لم تتمكن الدراسات المذكورة من تحديد إلى أي مدى يمكن أن تصمد هذه التأثيرات، وبالتالى فمن المحتمل أن يكون التأثير مؤقتًا لا غير.
تُقدِّم نتائج هذه الدراسات أدلةً على أن المعتقدات الدينية وفوق الطبيعية تصاحب التفكير الحدسي، بينما التشكك في الأديان يصاحب التفكير التحليلي. لكن مع ذلك سيكون من المبكر للغاية استنتاج أن هذه المعتقدات لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء انشطار التفكير بين نظامين متضادين تمامًا وهما التحليلية والحدسية. نجد هذا الانشطار مُشارٌ إليه ضمنيًا في كتابات بينيكوك كالآتي:
«أثناء حل المشكلات، غالبًا ما يتفوق الحدس المبدئي على أيٍّ تحليلٍ يمكن أن يُجرى فيما بعد». وأيضًا: «يشتمل النمط التفكيري التحليلي على تقديرٍ أوسع لعناصر المشكلة وكذلك اختبار وتقييم الحدس بصورةٍ نقدية».
في الحقيقة، يتضمن الاختبار المُستخدَم لمعرفة أي نمطيّ التفكير يتِّبعه أحدهم، أن نطلب من الناس حل مشكلات، بحيث تكون هناك إجابةٌ غير صحيحة لكن يندفع إليها الحدس بشكلٍ كبير، أي أن الشخص لن يصل إلى الحلِّ الصحيح إلا إذا تجاهل هذا الحدس المبدئي.
إذًا كما نرى، فإن طبيعة الاختبار ذاته تقوم على مبدأ انشطار التفكير حيث يتعارض كلٌ من الحدس والتفكير. ربما هذا هو الحال معظم الوقت، لكن هناك أدلةً مثيرة للاهتمام على أنه أحيانًا ما يسير هذان النظامان معًا بصورةٍ متوازية بدلًا من التضارب، ووُجِد أن لهذا التوافق تأثيره الخاص على المعتقدات فوق الطبيعية.
اقترح نموذج المعالجة الثنائية في بادئ الأمر أن نظامي التفكير مستقلان تمامًا عن بعضهما، وبالرغم من أن بعض الناس يفضلون استخدام أحد النظامين على الآخر، إلا أن بعضهم يفضلون استخدام النظامين معًا، وبعضٌ آخر لا يفضل أيًّا من النظامين!
صنَّفت إحدى الدراسات الناس إلى أربع مجموعات تبعًا لتفضيلهم الشخصي لنظامي التفكير، ودرست أنماط اعتقاداتهم الدينية. تبعًا لهذه الدراسة، فقد سجلت المجموعة التي تفضل استخدام كلا النظامين معًا (المفكرون التكامليون) أعلى الدرجات في الإيمان بالظواهر الخارقة للطبيعة من بين كل المجموعات الأخرى، كما أحرزت أيضًا أعلى المقاييس في التفكير السحري* مقارنةً بالمجموعة التي تفضل التفكير التحليلي عن الحدسي (المفكرون المنطقيون).
اقترح وولفرادت (Wolfradt) وغيره أنّ: «عمل نظام معالجة المعلومات بشكلٍ تزامني مع الحدس، قد يؤدي إلى تنشيط العوامل التي تدعم الأفكار الغير منطقية».
يبدو أن العلاقة التكاملية بين نظامي الفكر الحدسي والتحليلي، تلقي بعض الضوء على المعتقدات الدينية للعلماء. فبما أن العلماء مقيدون مهنيًا بالتجريبية، يكون من الطبيعي توقع غلبة التفكير التحليلي لديهم. بشكل عام، من المتوقع أن يرفض العلماء أي معتقدٍ غير قائمٍ على أدلة. وبالفعل وجدت الإحصاءات أن غالبية العلماء غير متدينين. بالرغم من ذلك، هناك أقليةٌ لا يستهان بها تعتنق الأديان (تبعًا لإحدى الدراسات، يقاربون 40%)، وهذا يطرح سؤالًا مهمًا، لِمَ قد يقبل أحدهم معتقداتٍ قائمة على الإيمان في حياته الشخصية، بالرغم من أنه في ذات الوقت مُلزمٌ مهنيًا بألا يقبل سوى الفرضيات المدعمة بالدليل؟
وجدت دراسات ماكفرسون وكيلي (Macpherson & Kelly) أنه بالرغم من كون العلماء -بشكلٍ عام- أقل تدينًا من «غير العلماء»، إلا أنهم سجَّلوا درجةً أكبر من الإبداع والتفكير السحري. بالإضافة إلى ذلك، فإن من بين هؤلاء العلماء من توافق لديهم الإبداعي والتفكير السحري مع التدين بشكلٍ إيجابي. يطرح هذا حقيقة أن هناك مجموعةٍ من بين العلماء تتميز بالإيمان والإبداع، إلى جانب ميلهم إلى امتلاك نظرةٍ غير تقليدية للواقع.
يرى المؤلفون أنه من الممكن أن يكون للمعتقدات الدينية وفوق الطبيعية علاقة ما بالإبداع، وربما لهذه المعتقدات دورٌ في تشكيل بُعدٍ نفسيٍّ أوسع يُعرف بـ(ما وراء العتبة الشعورية – Transliminality). يتضمن تخطي العتبة الشعورية قدرة المادة النفسية على الولوج إلى أو الخروج من نطاق الوعي. ربما يشعر هؤلاء -ذوو القدرة على تخطي العتبة الشعورية- بأنهم أكثر قابلية للتكيف مع النزاع المستمر بين الأفكار المنطقية وغير المنطقية. يبدو هذا الرأي مشابهًا لما اقترحه وولفرادت؛ أن نمط التفكير التكاملي يعزز الروابط الهشة التي تدعم التفكير السحري المصحوب بالمعتقدات الخارقة للطبيعة.
ربما يتمكن بحثٌ مستقبلي من دراسة الآثار التي تنتج عن التلاعب التجريبي بالتفكير التحليلي على المفكرين التكامليين، كالعلماء المؤمنين على سبيل المثال. من المُحتمل أن لإضعاف المعتقد الديني لمفكرٍ تكاملي، ينبغي ألَّا نعتمد فقط على تعزيز قدرته على التفكير التحليلي، بل أن نعمد كذلك إلى التقليل من اعتماده على الحدس.
على الأرجح سيثير هذا البحث اهتمامَ البعض على نحوٍ خاص، على سبيل المثال هؤلاء الذين يعتريهم القلق حول الانتشار المتزايد للعلاجات الغير قائمة على أدلة، مثل الطب البديل في المؤسسات التعليمية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التفكير السحري: يُقصد به الربط بين الأحداث المتزامنة بروابط سببية غير منطقية على الأغلب، أو بتعبيرٍ آخر هو الإيمان بأن فكرة معينة أو حدث معين هو السبب في وقوع حدثٍ آخر.(*)
ترجمة: أمنية علاء
مراجعة علمية: ماريا عبد المسيح
تدقيق لغوي: Mohamed Sayed Elgohary
المصادر:
_Scott A. McGreal MSc. Reason versus faith? 2012 Sep 5; Available from: https://www.psychologytoday.com/us/blog/unique-everybody-else/201209/reason-versus-faith-the-interplay-intuition-and-rationality-in-sup
(*) Alex Lickerman M.D. Magical thinking. 2009 Nov 12; Available from: https://www.psychologytoday.com/us/blog/happiness-in-world/200911/magical-thinking