النانو تكنولوجي

bi-platine-schmuckbild

|||||

النانوتكنولوجي .. الانطلاقة والمسيرة!

بالطبع تردد على أسماعنا في السنوات الأخيرة المنصرمة مصطلح (النانوتكنولوجي-Nanotechnology) أو تقنية النانو «الجزيئات متناهية الصغر»، ولكن ماهي هذه التقنية بالتحديد، ولما كانت ولا زالت تنال هذا الاهتمام في شتى المجالات الصحية، والزراعية، والصناعية، والبيئية وكذلك إنتاج الطاقة؟

إلى ماذا يشير مصطلح النانوتكنولوجي تحديدًا؟

يُطلق مصطلح النانوتكنولوجي على كل مايتعلق بالجزيئات متناهية الصغر، والتي -قياسيًا- يتراوح طولها مابين (1- 100 نانومتر)، يشمل هذا العلم دراسة هذه الجزئيات متناهية الصغر علميًا وهندسيًا وأيضًا تطبيقاتها في التكنولوجيا الحديثة. لا يقتصرعلم النانو (Nanoscience) وتطبيقاته على علم الكيمياء فقط بل يمتد إلى فروع العلوم المختلفة مثل الأحياء والفيزياء والهندسة وعلم المواد.

ولكن.. كيف نشأ النانوتكنولوجي أو تقنية النانو؟

العجيب أن هذا العلم تمت الإشارة إليه قبل قرن كامل من اعتماد تسميته كمصطلح علمي ألا وهو النانوتكنولوجي، حيث بدأ ذلك في عام 1959م في محاضرة أُلقيت باجتماع الجمعية الفيزيائية الأميركية في (معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا-California Institute of Technology)، حين وصف العالم الفيزيائي (ريتشارد فينمان-Richard Feynman) عملية يمكن من خلالها التحكم في بنية الذرات والجزيئات عند تكوين المواد المختلفة كوحدات منفردة، بمعني أنه يمكن ترتيب الذرات أو الجزيئات عند تكوين مادة كيميائية بالشكل المرغوب فيه من أجل تحسين خواص المادة النهائية مقارنة بالطرق العادية لتكوين هذه المواد.

خلال القرن التالي، اعتمد (نوريو تانيجوشي-Norio Taniguchi) مصطلح النانوتكنولوجي خلال استكشافه عمل الماكينات فائقة الدقة «ultraprecision machining». ولكن يمكن أن نعتبر البداية الفعلية لعلم النانو في عام 1981م، حيث تم تطوير مجهر المسح النفقي « scanning tunneling microscope»، والذي يبلغ قوة تكبيره حوالي مئة مليون مرة (109)؛ مما يمكننا من الفحص الدقيق لأسطح المواد على المستوى الذري.

هل تستطيع أن تتخيل هذا العالم المتناهي الصغر؟ .. لنحاول!

في البداية، فإن النانومتر«Nanometer» يمثل جزء من بليون جزء من المتر (المتر = 109 نانومتر)، مما يعني أنه لا يمكن رؤية الجزيئات عند هذا المستوى بالعين المجردة. يسهل تخيل هذه المواد النانومترية إذا قمنا بمقارنة طولها بأطوال المواد المختلفة من حولنا. مثلًا، يمثل سمك ورقة من جريدة حوالي 100 ألف نانومتر أما سمك شعرة من جسم الإنسان يترواح من 80 ألف إلى 100 ألف نانومتر،  بينما يصل قُطر ذرة واحدة من الذهب إلى 0.33 نانومتر تقريبًا، وهو أيضًا مقدار ما ينموه ظفر الإنسان في الثانية الواحدة. يوضح (شكل 1) تتابعًا تدريجيًا لسُمك أو أطوال مختلف الأشياء وما تمثله مقارنة بالنانومتر.

شكل (1). التدرج القياسي لأشياء مختلفة مقارنة بالنانومتر.

ولكن كيف يمكننا الإبحار في دراسة الذرات والتحكم فيها؟

قبل أن نستطيع ذلك، يجب أن نرى ذرات المواد المختلفة أولًا؛ هذه الذرات الموجودة يتكون منها كل شيء مثل أطعمتنا، وملابسنا، وبيوتنا، وحتي أجسامنا. بالطبع يعد استخدام المجهر هو حل هذه المشكلة، ولكن قطعًا لا يمكنك ذلك باستخدام المجهر العادي المتواجد في مدرستك أو معمل البيولوجي في الجامعة. تم اختراع مجهر المسح النفقي، ومجهر الطاقة الذرية، والمجهر الإلكتروني منذ حوالي 30 سنة لجعل هذه المهمة ممكنة، وهذا يدل على مدى حداثة هذا العلم. مع توفر هذه التقنيات الحديثة أصبح من السهل دراسة المواد على مستوى الذرات والتحكم بها.

أولًا: مجهر المسح النفقي.

تم اختراعه في عام 1986م على يد العالمان جيرد بينيج و هينريش روثر (Gerd Binig and Heinrich Rohrer) اللذان حصلا على جائزة نوبل في الفيزياء عن هذا الاختراع، ولقد استطاعا بهذا الاختراع تقديم خدمة للعلماء من رؤية الذرات والتحكم بها فيما يخدم علم النانو.

ثانيًا: مجهر الطاقة الذرية.

طوره جيرد بينيج مع كالفن كوات وكريستوفر جيربر (Calvin Quate and Christoph Gerber) في عام 1986م. وظيفة هذا المجهر هو جمع معلومات عن سطح المادة عن طريق تحسسها بمجس ميكانيكي.

ثالثاً: المجهر الإلكتروني.

استطاع العالمان الألمانيان إيرنيست روسكا وماكس نول (Ernst Ruska and Max Knoll ) تقديم المجهر الإلكتروني لأول مرة في عام 1930م. بالطبع يمكننا أن نستشف من اسم المجهر أنه يتسطيع تكبير الأشياء حتى مليون مرة عن طريق إسقاط شعاع إلكتروني على سطح المادة المرادة، مقارنة بتكبير 1500 مرة فقط في المجهر الضوئي العادي.

ولكن لماذا نرغب في التحكم في ذرات المواد المختلفة؟

كما ذكرنا، نحن نرغب بإضافة خواص مميزة للمواد المتواجدة على سطح هذا الكوكب لنجعلها أكثر صلابة، وأخف وزنًا، وأكثر نشاطًا في التفاعلات الكيميائية إلى جانب العديد من الخواص الأخرى التي يسعى العلماء للوصول إليها. لكن قبل الولوج في تفاصيل أكثر يجب معرفة أن المواد النانومترية قد تتواجد في الطبيعة بدون أي تدخل إنساني مثل: الدخان المنبعث من النيران، والغبار البركاني، ورذاذ مياه البحر، إضافة إلى عوادم السيارات والأدخنة المنبعثة عند لحام المعادن أيضًا.

تسمية المواد النانومترية ترتبط بأبعادها!

تتكون المواد النانومترية في أشكال عديدة وبأبعاد مختلفة مثل جسيمات أو أنابيب أو أسلاك أو أغطية رقيقة أو أغشية وهكذا، ويُسمي المنتج النهائي طبقا لذلك. على سبيل المثال، إذا سمعنا عن أنابيب الكربون النانومترية (carbon nanotubes) فهذا يعني أنها مكونة من ذرات الكربون التي لايتعدى قطرها بضعة نانومترات، ولكن قد يمتد طولها إلى ماهو أبعد من ذلك (مئات النانومترات أو أكثر). بالمثل فإن تكونت المادة على هيئة أغشية (Nanofilms) فهذا يعني أن سمك المادة في نطاق المقياس النانومتري ولكن طولها وعرضها قد يكفي لتغطية أسطح شاسعة.

المحاولات الأولية لتكوين مواد نانومترية

كان تصميم لوجو لشركة IBM في عام 1989م من أولى هذه المحاولات، حيث قام الباحثان دون إيجلر (Don Eigler) وفريقه البحثي بالتحكم في ذرات عنصر الزينون (Xe) وتحريكها لتكوين اللوجو على سطح من النحاس كما هو موضح في (شكل 2).

في محاولة مشابهة لكتابة أحرف بشكل متناهي الصغر، استطاع الباحثون بجامعة ستانفورد الأمريكية في عام (1991م) كتابة الحروف (SU) الذي يرمز إلى جامعة ستانفورد (Stanford University). استخدم العلماء مجهر المسح النفقي لترتيب جزيئات أول أكسيد الكربون (carbon monoxide) على سطح من النحاس في لوحة ثنائية الأبعاد ولكتابة الأحرف بشكل دقيق تم تسليط شعاع إلكتروني مباشرة إلى السطح النحاسي لتكوين الأحرف. هذه العملية يمكن تبسيطها إذا تخيلنا سطح النحاس كبركة من المياه ويُلقى بها  بعض الحجارة التي تحول السطح إلى موجات متتابعة مماثل لما تفعله جزيئات أول أكسيد الكربون الملقاة على سطح النحاس (شكل 3). بالطبع إذا ما تكونت الفجوات الناتجة عن هذ الموجات بشكل صحيح على السطح، سيتمكن الشعاع الإلكتروني من استهداف المكان الأمثل لكتابة الأحرف المطلوبة. عُرفت هذه الطريقة لاحقًا ب (Electronic Quantum Holography) وهو نوع من أنواع التصوير المُجسَّم باستخدام الإلكترونات.

شكل (2). لوجو مصمم لشركة IBM  مكتوب بترتيب دقيق لذرات الزينون على سطح من النحاس.

 

شكل (3). الأحرف (SU) مكتوبة على سطح من النحاس بعرض لايتعدى 0.3 نانومتر.

صناعة المواد النانومترية (Nanomanufacturing)

كما ذكرنا سابقًا، فإن الهدف من جعل المواد متناهية الصغر هو تحسين خواصها والذي يرتبط بشكل مباشر بزيادة مساحة سطحها الإجمالي؛ وبالتالي مضاعفة خواصها الأصلية كلما زادت مساحة السطح. تذكر أن الهدف هنا هو صناعة مواد ذات خواص أفضل تدخل في صناعة الأجهزة الإلكترونية والطبية، السطوح المختلفة، والأنظمة المتعددة. حقيقة، نحن نستهدف بتقنية النانو أن نجعل المنتج النهائي أفضل من الأصلي بكل الأشكال الممكنة بأن يتصف بأحد الخواص التالية أو يجمع أكثر من واحد معًا، فمثلًا يكون أخف وزنًا، أكثر صلابة وقوة، أكثر عزلة للمياه، أكثر امتصاصًا للضوء، مقاوم لامتصاص الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، مضاد للضباب، مقاوم للميكروبات بأنواعها، مضاد للكسر أو الخدش، أكثر توصيلًا للكهرباء، ويدوم لفترة طويلة.

هناك اتجاهان لنسلكهما إذا أردنا تصنيع مادة نانومترية، إما أن نتبع طريقة التصميم من أعلى إلي الأسفل وهي الأسهل أو العكس من أسفل إلى أعلى والتي تعتبر أكثر تعقيدًا. ولكن ماذا يعني ذلك؟! في الطريقة الأولى من أعلى إلى أسفل، نبدأ بمواد كبيرة الحجم ونحاول تصغير حجمها في حدود مقياس النانو، ذلك يشبه أن تنحت قطعة كبيرة من الخشب إلى غزال جميل. أما إذا أردنا اتباع الطريقة الثانية فإننا نحتاج أن نبني هذا الغزال الجميل من الصفر بترتيب قطع الخشب الصغيرة جنبًا إلى جنب حتي نصل إلي شكل الجسم النهائي المطلوب. أما عن أفضلهما، فالأولى يحدث فيها هدر كبير من المادة الأصلية، والثانية تستهلك وقتًا كبيرًا لنبني شيء ما من الصفر. ولكن علينا أن نختار أيهما أفضل أن نضحي به، المادة أم الوقت؟ في الحقيقة ذلك يتحدد على حسب ما نود أن نصنعه بالضبط. يندرج تحت هاتين العمليتين طرق عديدة منها على سبيل المثال: الترسيب الكيميائي للبخار، تقيَل الحزمة الجزيئية (نوع من الترسيب الفيزيائي للبخار)، والتجميع الذاتي وغيرهم. حاليًا، يمكننا أن نجد هذه الصناعات في العديد من الأشياء حولنا بدءًا من الأدوات الرياضية كمضارب التنس إلى المحفزات الصناعية التي تستخدم في تكرير الزيوت الخام و الأجهزة الأكثر تعقيدًا مثل أجهزة استكشاف السموم الكيميائية والبيولوجية.

تطبيقات حديثة في مجال النانوتكنولوجي

لنلقي النظر على مثالين في مجال الصحة والطب. مؤخرًا صار بإمكان المريض الكشف عن السرطان في أولى مراحله مما يُسرع الحصول على العلاج ويوفر عليه رحلة من الألم، كل ما يحتاجه المريض هو شريحة محمولة مصنعة بتقنية النانو، ونقطة دم. ما يحدث هنا هو تغير فيزيائي على سطح الشريحة عندما تتواجد دلالات أورام في عينة الدم، هذا التغير يتناسب طرديًا مع تركيز المادة المستهدفة في الدم. يمكن لهذه الشريحة إجراء العديد من التحاليل في آن واحد ويمكنها قياس أقل التركيزات بدقة وفعالية وفي أقل وقت ممكن.

إذا ما توغلنا أكثر في تركيب هذه الشريحة، فإنها تتكون بشكل أساسي من جزئين: الجزء الأول، مسؤول عن التقاط دلالات الأورام من عينة الدم، وهو عبارة عن جزيئات ذهب نانومترية مرتبطة بأجسام مضادة، وتتواجد على سطح الشريحة. أما الجزء الثاني، وهو المسؤول عن إجراء التحاليل المختلفة، وهو عبارة عن عدة مناطق استشعار تمتد خلال شبكة من القنوات متناهية الصغر والتي تحمل سائل من البلازما (شكل 4).

تحتاج الشريحة إلى نقطة دم واحدة، يتم حقنها على سطح الشريحة، وفي حالة وجود دلالات الأورام المنشودة في الدم فإنها ترتبط بالجسم المضاد المناسب لها والمرتبط سابقًا بجزيئات النانو الموجودة مكونًة متراكب ثلاثي، والذي بدوره يعبر خلال قنوات البلازما مسببًا تغيرًا فيزيائيًا يسمي ب “الرنين البلازمي” يمكن قياسه بجهاز خاص. تتناسب قوة الرنين المقاس مع تركيز دلالات الأورام في عينة الدم.

شكل (4). شريحة نانومترية تعمل كـ «معمل تحاليل محمول».

المثال الآخر هو جزيئات الذهب النانومترية، والتي سمعنا عنها لأول مرة من الدكتور مصطفي السيد ومساهماتها في علاج السرطان. في أحدث الدراسات في نوفمبر من العام 2017 بإحدى الجامعات الأميركية، توصل العلماء إلى وجود علاقة بين جزيئات الذهب ونفاذية الأغشية المبطنة للأوعية الدموية (الأوردة والشرايين)، الأمر الذي يجعلها ذات أهمية كبيرة في توصيل الأدوية إلى العضو الملائم بسرعة ودقة وفعالية، وهذا بالطبع يزيد من كفاءة الأدوية في العلاج وتقليل الأعراض الجانبية. ولكن هذا الأمر غاية في الخطورة لأن تغيير نفاذية الأوعية الدموية بشكل غير مدروس يؤثر على حياة الإنسان، لذا أشارت هذه الدراسة إلى توخي الحذر في صناعة جزيئات الذهب حيث لابد أن يكون سمكها 20 نانومتر وهو السمك المثالي لهذه العملية.

في النهاية، نحن لانستطيع أن نحصر استخدامات تقنية النانو منذ أن نشأت وحتى الوقت الحالي، ولكن نستطيع أن نجزم بأنها ساهمت ولازالت تساهم في تطوير الحياة من حولنا. فقط علينا أن نتخيل مواد جديدة بخواص محسنة ونحاول تطبيقها على أرض الواقع.

إعداد: هبة عبد الناصر عبد الوهاب

مراجعة علمية: أميرة إسماعيل

تدقيق لغوي : إسراء عادل

المصادر:

http://sc.egyres.com/Cpqpz

http://sc.egyres.com/5ulvk

http://sc.egyres.com/71oEM

http://sc.egyres.com/vng3p

http://sc.egyres.com/r6OxG

http://sc.egyres.com/IiYXW

http://sc.egyres.com/wPbCM

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي