انقطاع
تقف امرأة وحيدة، في العشرينات من عمرها، خارج المتجر الرئيسي (Juicy Couture) في وسط مدينة مانهاتن، تراقب البائعة وهي تطوي بدلةً رياضيةً من القطيفة. تسببت عاصفة هائلة ووباء من الحمى في هلاك مدينة نيويورك، لكن تطوي صاحبة المتجر -التي فقدت نصف فكّها- الملابس بكل تأنٍّ وروتينة.
غالبًا ما تبتهج كانديس، بطلةُ الرواية الأولى للكاتبة الصينية (لينج ما – Ling Ma) (انقطاع – Severance)، بمراقبة الأفعال الروتينية لمن حولها؛ فتقول:
«قد تفقد ذاتك بهذه الطريقة، مشاهدة الأنشطة البسيطة في حلقةٍ لا نهائية. هي حمى التكرار، حمى الروتين».
خمسة أيامٍ في الأسبوع، ينطوي نظام كانديس على التجوّل عاطلةً عن العمل عبر طرق المدينة، تستنزف عقلها حتى يصبح فارغًا. تحافظ على ساعات عملها، في أن تهيم في الشوارع مدفوعةً بقناعةٍ عميقة ومحبِطة. وفي المساء، عندما يعود الناس إلى منازلهم، تراقب «سراخِسهم العنكبوتيةَ الشكل المتعلقة بسِلال الخوص، وقططهم المنقطة تسترخي على الوسائد»، وتتساءل عما إذا كان بإمكانها العيش للأبد في هذه الحالة البينية، متخيلةً نفسها تعيش حياة الآخرين.
في نهاية المطاف، تعمل كانديس في وظيفةٍ بأحد المكاتب، لتبدأ في هذه المرحلةِ تكرار الامتناع: «استيقظتُ، ثم ذهبت للعمل في الصباح، ثم عدت إلى المنزل في المساء، كررت هذا الروتين». العمل كالغيبوبة، وتغمر كانديس نفسها به. وهي تُشرف في شركة النشر التي تعمل بها على إنتاج الكثير من نسخ الكتاب المقدس، لتفككه إلى مكوناته الأصلية، (تفكيكِه إلى مخلفاته المتعددة المتنوعة).
تقدم رواية «انقطاع» تعقيبًا صارخًا على الوفرة والرخاء الهائل، والاستهلاك الدؤوب، والذي يتطور إلى سخريةٍ شِبه سريالية من أماكن العمل ويوتوبيا قواعدها وقوانينها، لا تختلف في ذلك عن رواية (جوشوا فيريس – Joshua Ferris) «ثم وصلنا إلى النهاية». وتعيد (لينج ما) إحياء هذا النموذج.
تدور الأحداث على خلفية تفشي وباءٍ كارثيّ -حمى شين التي تؤدي إلى «فقدانٍ قاتلٍ للوعي»- لتركز الرواية حول حياة موظفي المكتب الذي تعمل به كانديس، وكذلك على المصابين بالحمى. ليعيش كلاهما في «حلقةٍ لا نهائية» تميزهم بأنهم «مخلوقات العادة»، ليحاكوا الروتين والإشارات القديمة التي لا بد أنهم استخدموها لسنوات وعقود. ليست حالة كانديس الصحية هي ما تفصلها عن المصابين بالحمى فحسب، الذين علقوا في مرحلةٍ بينيةٍ للإنسانية المتبقية.
لكن الخطب في روايتها الديستوبية هو تغليفٌ لحنينٍ إلى الجيل الأول من المهاجرين إلى نيويورك، وهو مكان كما لاحظت كانديس: «عاش به معظم الناس بالفعل، بشكل ما في الخيال الجمعي، قبل أن يصلوا من الأساس».
تستحضر (لينج ما) البطل المغترب لـ (جوزيف أونيل -Joseph O’Neill) في روايته (هولندا – Netherland) الذي يجادل بأننا «لا نعيش في مملكةٍ من المنطق، ولكن من الأسى». في أكثر لحظاتها وضوحًا، تستحضر الرواية آثار مقالة الكاتبة ميجان داوم «وداعًا لكل هذا» -إنْ لم تكن مقالتها الأخرى «الشباب المهدور»- عندما تنظر الشابة المرتبكة (جوان ديديون) إلى المطابخ اللامعة من خلال نوافذٍ من الحجر البني، معتبرةً نيويورك ليس بوصفها مكانًا صالحًا للعيش، ولكن كمفهوم رومانسي: «لا يعيش المرء في شانجدو [وهي عاصمة الحكم لسلالة صينية قديمة]». تنغمس كانديس تدريجيًا في ماضيها، كاشفةً الغطاء عن ذكرياتها لوالديها المتوفيين، وطفولتها في الصين. فتقول عندما تتذكر والدتها وهي تحكي لها القصص: «ذكرياتي عنها تمثل كل ذكرياتي».
على الرغم من أنها بقيت فترةً طويلة بعد أن هجرها الجميع، إلا أن كانديس تغادر نيويورك في النهاية في «التاكسي الأصفر» الذي يثير الحنين، وتنضم لمجموعة من الناجين يجدونها خارج المدينة. لتكتب (لينج ما) في مقدمة الرواية: «بعد النهاية جاءت البداية».
يدخن من نصّب نفسه قائدًا للمجموعة -التي تشبه الطائفة- السجائر الإلكترونية برائحةِ الفانيليا، ويعظهم أن «الإنترنت ليس سوى مجرد تسطيح للوقت». ويبحث الناجون على جوجل عن ولايات الحزن، وهل هناك إله، وهرم ماسلو. لينتهي بهم الأمر بالعيش في مركزٍ تجاري مهجور، وهو انعكاسٌ للحياة تكون فيه المتاجر عبارةٌ عن مساحات مشتركة للعيش، والمحلات عبارة عن غرف شخصية.
يمكننا إنقاذنا جميعًا
في عالم الديستوبيا الموازي لأول رواية للكاتب (آدم نيميت – Adam Nemett) (يمكننا إنقاذنا جميعًا – We Can Save Us All)، يعيش ديفيد في «البيضة»، وهي طائفةٌ خارج الحرم الجامعي حيث يلهو مجموعة من طلاب جامعة برينستون «بالمخدرات، وكما تعلم، نسيج الزمن وأشياء أخرى».
لم تحلّ نهاية العالم بعد، ولكن تواجه هذه المجموعة بعض الطوارئ المناخية وشيء يدعى (وهم نفاذ الزمن – chronostrictesis)، وهي حالة ينتهي فيها الوقت ذاته، ووحده عقار (Zeronal) قادر على إبطاء تجربة الشخص لهذه الحالة. مجتمعٌ منغلق على نفسه، يتسكّع في قُبة جيوديسيّة، وينبض بتفاؤل متحمس لعالم المستقبل، كما يقول قائده ماتياس: «ستكون مهمتنا أن نحول هذا العالم الصغير إلى مجتمعٍ مترابط».
تتراوح رواية نيميت بين أدب الخيال التأمليّ، وقصة البطل الخارق، وحرمٍ جامعيٍّ مروع. ففي مرحلةٍ ما عندما تشرح إحدى الشخصيات خطة المجموعة: «يقفز من موضوع إلى آخر، من نيتشه إلى نفاذ الزمن إلى التعليم إلى الحتمية الأخلاقية إلى يديه المختفية».
وعلى الرغم من أن أفراد المجموعة متفائلون بالمستقبل، تفترض الرواية حياةً داخليةً كئيبة وناضجة لهؤلاء الطلاب: «في نهاية المطاف، كان على علم بأنه كان أنانيًا و متحيّزًا للجنس، لكنه ما زال يريد إنقاذ اليوم، كما يفعل الأبطال الخارقون. لكن إنقاذ هذا اليوم أمرٌ غير شخصي. ولكن ماذا عن إنقاذ الفتاة؟».
مثل أحد الكتب المصورة الذي ينشرها بدون تردد خلال الكتاب، يهمس ديفيد بملاحظات مثل «الأبطال الخارقون لا يموتون أبدًا»، و«المعرفة يمكنها أن تصبح قوى خارقة»، ويستخدم لقبًا كريهًا ومهينًا (يُذكّر نفسه بالكتب المصورة) للشخصية الرئيسية للأنثى. فبعد النوم معها، يعلن ديفيد: «سيكونان معًا الآن، الأبطال الخارقون الذين يحلقون في الهواء».
لكنني وجدت على مضضٍ صدقَ كلٍّ من نيميت وشخصياته التي تنتعش في ضعفها: «ديفيد الوحيد الذي آمن وبلا حدود». يحكي (نيميت) قصة مجموعةٍ لا يمكن العثور عليها بكثرة في روايات اليوم. لا يوجد فعلٌ نهائي حيث يُنجدون ببطولةٍ عن طريق الوعي الذاتي، ليبقى أفراد المجموعة للأبد «سادةَ الإنكار، منيعين ضد الواقع».
إذا كانت هذه مغامرةٌ يمكنك أن تختار فيها كارثتك، فقد ينتهي بي الأمر في نهاية المطاف للعيش في المركز التجاري لنهاية العالم.
ترجمة: محمد يوسف
المصدر: https://tinyurl.com/ybrmf8tb