إنَّ دور ويليام شكسبير (William Shakespeare) كمُرشد دينيٍّ ليس بالأمر الواضح. في حين أنَّ عمل الشَّاعر -الذي يحتفل بعيد ميلاده في 23 أبريل- قد جلس في أوقات مختلفة على مدى القرون الأربعة الماضية لرسائل مُشفَّرة عن الكاثوليكيَّة أو البوريتانيَّة أو الإنكليزيَّة، والرَّأي الأكثر شيوعاً هو أنَّ استكشافه المذهل للبشريَّة لا يترك مجالاً يُذكَر للتَّفكير الجادِّ في الإلهيَّة. والواقع أنَّ بعض علماء شكسبير ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، مُشيرِين إلى أنَّ أعماله تُظهِر إلحاداً صريحاً. ولكن بصفتي عالماً في علم اللَّاهوت نشر كتاباً يستكشف فيه معاملة شكسبير للإيمان، فإنَّني أعتقد أنَّ أفضل الدَّوافع الدِّينيَّة للمسرحيَّة لا تظهر من خلال التَّأكيدات المُشفَّرة أو التَّنكُّر المباشر.
في وقت يتَّسم بالاستقطاب الدِّينيّ الكبير والاضطِّرابات، كانت تصريحات شكسبير الأعظم بشأن الإيمان أشبه بالهمس الغريب، تتطلّب الاستماع العميق لكي يُسمَع.
ضوضاء دينية
أرى دعوةً لهذا الإصغاء العميق في واحدةٍ من مسرحيَّات شكسبير الأكثر غرابةً (العاصفة)؛ إذ يقول كاليبان -وهو شخصيَّة نصف رجل ونصف وحش- لرفاقه عندما يصلون إلى الجزيرة: «الجزيرة مليئة بالضَّوضاء والأصوات والهواء الحلو الذي يعطي البهجة ولا يضرّ».
وهو ممرٌّ لافت للنَّظر، ويأتي أكثر من أيِّ وقت مضى من مخلوق كريه الرَّائحة، مُتَّهم بمحاولة اغتصاب، ويُطلق عليه مراراً (الوحش). ولكن يبدو أنَّ شكسبير يقترح فيه أنَّ هناك أبعاداً للواقع يفتقدها العديد منّا، وقد نتفاجأ عندما نكتشف مَنْ منَّا يولي اهتماماً.
بدائل كهذه تظهر بشكلٍ مختلفٍ عبر مسرحيَّات شكسبير. (روميو وجولييت) ليست في أيّ معنى صريح مسرحيَّةً لاهوتيَّةً، ولكن عندما تصل المأساة إلى إنكارٍ كئيب، فإنَّ لدينا خطّ «انظر، ما هو آفة وضعت على كراهيَّتك، أنَّ السَّماء تجد وسائل لقتل المتعة الخاصَّة بك مع الحبّ».
على الرَّغم من عدم وجود تسمية واضحة للآلهة أو المصائر، فإنَّ شكسبير يعني ضمناً أنَّ قوة عظمى ما تتجاوز الخصومة المُدمِّرة بين آل (مونتورس) و(كابوليتس)، عائلتا العشيقين. ويشكِّك في القوّة الدّنيويَّة للبيتين (السّماء) -كما يعني هو أيضاً- في العمل هنا.
الفترة المضطربة
كان شكسبير -على ما أعتقد- في البحث المستمرّ عن طرق خفيّة لتصوّر التّدخُّل الإلهيّ داخل المملكة البشريّة. هذا أكثر إثارةٍ للإعجاب، نظراً إلى الأوقات الدِّينيّة المحفوفة التي عاش فيها. وشهد أواخر القرن السَّادس عشر استقطاباً دينيّاً وسياسيّاً أكبر من استقطابنا.
قبل عقود، كان الملك (هنري الثّامن) قد فصل الكنيسة الأنجليكانيّة عن روما، وأنشأ إنجلترا البروتستانتيّة. ابنته (إليزابيث) -التي جلست على العرش للنّصف الأوّل من مهنة شكسبير في الكتابة- فُصِلَت من قبل البابا (بيوس الخامس) لاستمرارها على خطى والدها، حيث استجابت الملكة بجعل ممارسة الكاثوليكيّة جريمة في إنجلترا. لذا فحتَّى قبل أن يحرِّم خليفة إليزابيث (جيمس الأول) الفكاهة اللاهوتيّة الصّريحة أو النّقد على المسرح، كان الفنّانون الذين يأملون في الانخراط في المواضيع الدّينيّة تحت قيود كبيرة.
أثَّرت هذه الاضطّرابات على شكسبير مباشرة؛ إذ كان لعائلة شكسبير علاقات عميقة بالكاثوليكيّة الرُّومانيّة، كما فعل على الأرجح بعض أقرب شركائه. ولكي يُعرِب أيّ واحد منهم عن شكوكه بشأن كتاب الصَّلاة الإنجليزيّ، أو حتّى لتجنُّب الأبرشيَّة الأنجليكانيَّة يوم الأحد؛ كانوا يضعون أنفسهم تحت الشُّبهة بالخيانة.
هناك القليل من التَّفاصيل في السِّيرة الذَّاتيَّة لمساعدة العلماء الذين يبحثون عن معتقدات شكسبير الدِّينيّة. وبدلًا من ذلك، فقد اعتمدوا عموماً على الإشارات الصَّريحة إلى اللُّغة أو أنواع الشَّخصيَّة الدِّينيَّة المألوفة -الكاهن الكاثوليكيّ في (روميو وجولييت) على سبيل المثال- في التّكهُّن بعقيدة شكسبير.
اقترح البعض أن الأدلّة والرّموز في مسرحيّته تُشير إلى أنَّ الكاتب المسرحيّ كان كاثوليكيّاً مُتزمِّتاً. ولكن بالنّسبة لي، يتجسَّد فِكْر شكسبير الدِّينيّ بشكل أكبر في ما لا يقوله بشكل مباشر، وأيضاً باستخدامه طرقاً جديدة لقول شيء قديم. خلاصة الأمر، يمكن القول إنَّ شكسبير كان لاهوتيّاً في أكثر أعماله إثارة للاهتمام.
«جواسيس الإله»
اُستكشِفَ إيمان شكسبير وكيف يعبِّر عنه في مسرحيَّة عام 2017 للشَّاعر (روان ويليامز)، وهو لاهوتيّ، ورئيس سابق لكنيسة إنجلترا. في ذلك، يتخيَّل ويليامز شكسبير الشَّاب؛ بحثاً عن لغة جديدة لأشياء دينيَّة، وغير راضية عن الخيارات المُسيَّسة بشدَّة أمامه.
وفي مشهد مِحوَريّ، يشرح «شبّان الإرادة» لمرشده اليسوعيّ أنّه على الرَّغم من جاذبيَّة قضيّتهم الكاثوليكيّة المتطرِّفة، فإنَّه لا يستطيع أن ينضمَّ.
«الدِّين القديم هو الوحيد، والصُّورة الوحيدة للأشياء التي تتحدَّث معي، نعم، ولكن الأمر كما لو كان لا يزال هناك أصوات من حولي تريد أن تجعل نفسها مسموعة، وهُم جميعاً لا يتحدَّثون لغة واحدة، أو يقولون قصَّة واحدة، وكلّ ذلك سيطاردني إذا حاولت ما تفعله، وهذا سيجعلني أبتعد عن الآلام والسُّؤال؛ لأنّني أعرف أنَّ هناك دائماً أكثر ممّا يمكن أن يقوله الدِّين القديم، وأنَّه لا يزال يجب أن يسمع».
وبعبارةٍ أخرى، بما أنَّ الكاثوليكيّة «تتحدّث» إلى شبَّان الإرادة، فإنّه يعتقد أنَّ هناك أكثر من ما يُقال ليُسمع و يُفهَم، و ذلك بقوله: «كان لا يزال يجب أن يسمع».
الأصوات التي يريد أن يسمعها شكسبير مشابهة -على ما أعتقد- لتلك التي يتحدَّث عنها كاليبان في مسرحية العاصفة “The Tempest”. وعلى هذا فإنَّ الشَّباب لن ينضمُّوا إلى القضيّة الكاثوليكيّة؛ بدلاً من ذلك، يذهب بحثاً عن طرق للبقاء مع «الآلام والسؤال». ويقترح ويليام أن مسرحيّات شكسبير اللّاحقة هي محاولة للسّماح لكلِّ هذه الأصوات المعقَّدة والصَّعبة «أن تُسمَع». إنّها محاولته لإعطاء صوت للضَّوضاء الدّينيّة خارج نطاق اليقين الدِّينيّ في عصره.
نرى هذا في (الملك لير)، حيث يقضي لير المسرحيّة بأكملها في شتم الآلهة لقلّة الحبّ والاحترام الذي يظهره أطفاله له. ولكن عندما يهدأ اللمعان في السَّماء أخيراً، تعطي المسرحيّة لجمهورها مشهد مصالحةٍ جميل ومؤلم مع ابنته (كورديليا). يكتشف لير في مغفرة ابنته شيئاً من الأفضلية و المكانة المتميِّزة، حيث يمكن لكلاهما أن “يأخذ على عاتقه سرَّ الأشياء، كما لو كُنَّا جواسيس الإله”.
وكما كاليبان في “The Tempest”، يتعلّم لير سماع تلك الأصوات خارج نطاق البشر. وعلى نحوٍ مماثل، يطلب شكسبير من جمهوره الاستماع والمشاهدة بشكلٍ مختلف، وكأنَّنا أيضاً جواسيس الإله أو وحوش الأرض.[1]