مقدمة
تخيَّل معي أن تستيقظَ فجأةً من النوم، تُخبِرُكَ مِرآتُكَ وكلُّ من حولك أنك لم تعد في الثانية والعشرين من عمرك، كما تتذكر بل تشعر كأنك عجوزٌ فقدتَ من عمرِك عشراتِ وعشراتِ السنين، أين وكيف؟ أنت لا تعلم؛ شاخ جسدُك وحده دون إخبارك… هذا ما حدث بالفعل لنساء ورجال وأطفال كُثُر، وهؤلاء الناس بمأساتهم هذه كانوا من المحظوظين؛ فقط لأنهم لم يموتوا كآخرين.
ربما شاهدت هذه القصة في فيلم (اليقظة- awakenings)، أو قرأت عنها في كتابٍ بنفس العنوان من تأليف أوليفر ساكس، وهو طبيبُ أعصابٍ وكاتبٌ بريطانيّ.(1) يحكي الكتاب والفيلم قصةً حقيقية؛ حيثُ يروي فيها أوليفر رحلة عمله مع مجموعة من المرضى الناجين من وباءٍ انتَّشر في العالم في الفترة ما بين 1915 و1926 ويُدعى (التهاب الدماغ النوامي- Encephalitis lethargica) أو (sleepy sickness)(2)؛ أُصيب بهذا المرض ما يقارب خمسة ملايين شخصٍ، تُوفِّي حوالي ثلث العدد، ومن نجا منهم أصبح كالجثة بلا حركة أو كلام أو أي تفاعل مع العالم.
ما هو التهاب الدماغ النوامي، وما هي أسبابه؟
التهاب الدماغ النوامي هو مرضٌ خطير ونادر، انتَّشر بعد الحرب العالميّة الأولى، ترجع تسميته هكذا إلى عالم الأعصاب كونستانتين فون إيكونومو عام 1916. فكان أول من كتب عن الوباء، وعرفَّه بأنه التهابٌ في المادة الرماديّة في الدماغ.(3) وإلى الآن لا يوجد سببٌ مؤكَّد للمرض، ولكن هناك العديد من الأبحاث التي تربط التهاب الدماغ النوامي بوباء إنفلونزا 1918، والمعروفة أيضًا باسم الإنفلونزا الإسبانيّة؛ وذلك نظرًا لحدوثهم في نفس الفترة الزمنيّة، ولوجود مُستضدّات الإنفلونزا (antigens) في أجسام بعض المرضى. كما تُوجَد أبحاث أخرى تُرجع السبب إلى الجهاز المناعي وردِّه على عدوى سبَّبها نوعٌ من البكتيريا العنقوديّة؛ مما أدَّى إلى مهاجمة الجهاز المناعي لأجزاءٍ من المخ.(3) وقد سبَّب اختلاف النظريات هذا صعوبةً في التشخيص والعلاج.
الأعراض
أما أعراضه فتختلف حدَّتُها بين الأشخاص، ولكن عادةً ما تبدأ بحمَّى وصداع والتهاب الحلق، ويتبع ذلك رعاش ورؤية مُزدَوَجة وآلام عضلات وتأخر في ردود الأفعال الجسديّة والعقليّة. يتغيَّر سلوكُ المريض وشخصيّته، ويعاني من الارتياب والهلوسة، وتستمر حالته في التدهور إلا أن يُصابَ بما يعرفُ بشذوذ الحركة أو (الإغماء التخشبيّ- catatonic state). ويمكن أن يدخل المريض فيما يشبه الغيبوبة، وتُعرَف هذه الحالة باسم (Akinetic mutism)؛ حيثُ لا يقدر المريض على الحركة أو الكلام، ومع ذلك هو مستيقظٌ قادرٌ على تتبُّع حركة من حوله بعينيه.(3)(4)
علاجٌ مُحتَمَل
في ستِّينات القرن الماضي عمل دكتور ساكس في مشفى بيث أبراهام في نيويورك، معظم مرضاه كانوا فاقدينَ الحركة والكلام لعقودٍ من الزمن، ولكنه لاحظ استجابتَهم له بطريقةٍ ما، كما لاحظ تشابَه أعراضِهم مع أعراض مرض باركنسون، ولذلك بحث عن شيءٍ لمساعدتِهم، في نفس الوقت اكتُشف علاجٌ جديدٌ لمرض باركنسون يُسمَّى L-DOPA أو Levodopa، وهو عبارة عن مركب طليعيّ للدوبامين (precursor to dopamine)، يعمل على رفع نسبة الدوبامين في المخ، وبذلك يتحكَّم في أعراض باركنسون.(5)
رأى دكتور ساكس أن بزيادة الجرعة يستطيع هذا الدواء أن يعالجَ مرضاه أيضًا، وبالفعل بعد أخذ الموافقة بدأ يعطي مرضاه الدواء. وحدثت المعجزة، وبدأ مرضاه في الإفاقة ليعودوا للحياة من جديد بعد عقود من الزمن، ولكنَّ هذه المعجزة لم تستمرّ طويلًا؛ حيث لاحظ دكتور ساكس على مرضاه تباعًا تدهوُّرَ حالتِهم الصحيّة من جديد. وعاد المرضى لمواجهة مصيرهم للمرة الثانية؛ حيثُ تبدأُ أجسامُهم تدريجيًا بالعودة للسكون؛ بدأ الأمر برعاش وارتياب وشذوذ في الحركة غير إراديّ إلى أن عادوا جميعًا لنقطة الصفر، ولم تُجدِ نفعًا محاولات زيادة جرعات الدواء.(5)(6)
ما زال البحثُ جاريًا
والآن وبعد أكثر من مائة عام على هذا الوباء، وُجدت بعض الحالات المشابهة في الأعراض فقط، ولكن لم تُوجَد مثل حالات التهاب الدماغ النواميّ، حيثُ اختفي الوباء تدريجيًا خلال الثلاثينات. وكان لأوليفر ساكس دورٌ كبيرٌ في اعتماد (L-DOPA) كدواءٍ لتخفيف أعراض المرض المُشابِهة لأعراض مرض باركنسون، ومع ذلك يظلُّ إلى الآن لغزًا عجز العلماء عن حلِّه، فلم يثبت حتى وقتنا هذا سببٌ نهائيٌّ للمرض، ولم يُوجد علاجٌ فعَّال له، ومازالت الأبحاثُ تُجرَى رغبةً في فهم أسبابه وفهم الدماغ البشريّ والأمراض التي تهاجمه.(7) وخوفًا أيضًا من أن يُهاجِم هذا المرض عالمَنا مرَّةً أخرى، لا أحد يعلم!
المصادر:
1. About Oliver Sacks | Oliver Sacks, M.D. | Author, Neurologist | On The Move, Hallucinations, Musicophilia, Awakenings, The Man Who Mistook His Wife for a Hat [Internet]. Oliver Sacks, M.D. [cited 2018 Dec 28]. Available from: https://www.oliversacks.com/about-oliver-sacks/
2. Awakenings | Oliver Sacks, M.D. | Author, Neurologist | On The Move, Hallucinations, Musicophilia, Awakenings, The Man Who Mistook His Wife for a Hat [Internet]. Oliver Sacks, M.D. [cited 2018 Dec 28]. Available from: https://www.oliversacks.com/books-by-oliver-sacks/awakenings/
3. Encephalitis Lethargica [Internet]. The Encephalitis Society. [cited 2018 Dec 28]. Available from: https://www.encephalitis.info/encephalitis-lethargica
4. Encephalitis lethargica [Internet]. News-Medical.net. 2014 [cited 2018 Dec 28]. Available from: https://www.news-medical.net/health/Encephalitis-lethargica.aspx
5. Hoffman LA, Vilensky JA. Encephalitis lethargica. Brain [Internet]. 2017 Aug 1 [cited 2018 Dec 28];140(8):2246–51. Available from: https://academic.oup.com/brain/article/140/8/2246/3970828
6. encephalitis lethargica | The Science of Parkinson’s [Internet]. [cited 2018 Dec 28]. Available from: https://scienceofparkinsons.com/tag/encephalitis-lethargica/
7. 100 Years Later: The Lessons of Encephalitis Lethargica [Internet]. Neuroskeptic. 2018 [cited 2018 Dec 28]. Available from: http://blogs.discovermagazine.com/neuroskeptic/2018/04/15/100-years-encephalitis-lethargica/
إعداد/ترجمة: نوران عبد الفتاح.
مراجعة: بسمة التهامي.
تَدْقِيْقٌ لُغَوِيّ: محمود خليفة.
تحرير: هدير جابر.
