بين الذكورة والأنوثة: أنحن بذلك الاختلاف؟

بين_الذكورة_والأنوثة_أنحن_بذلك_الاختلاف؟

بين الذكورة والأنوثة: أنحن بذلك الاختلاف؟

بين الذكورة والأنوثة: أنحن بذلك الاختلاف؟

“مازالت هناك خلافات حول “الاختلافات على أساس الجنس” في السلوك الإنساني، ما إذا كانت تحدث من الأساس، وحول مدى أهميتها أو تداخلها، وما إذا كانت تعكس تغيرات إنمائية أو جينية في المخ، أو الآثار القوية للبيئة الاجتماعية (والتي سيكون لها آثار أيضًا على بنية المخ ووظيفته). وهناك أدوار بيولوجية للذكور وللإناث، ولكنها تتداخل. فهناك مخ “ذكري” وأخر “أنثوي”، ولكنهما ليسا منفصلين دومًا. ولهذا الأمر أهمية قصوى في تحديد كيف نرى ونتقبل ونتعامل مع الاختلافات على أساس الجنس في مسائل التحفيز والقدرات والفرص، وذلك بإقرار وجود العديد من العوامل الأخرى غير الجنس، وأن الأفراد يختلفون على كافة تلك الأبعاد. فمن المهم ألا نسيء نشر المعلومات لأهداف سياسية. حيث أن الكثير من المؤلفين يخلطون بين “التشابه” و”المساواة”. ولكننا نحتاج لمعرفة المزيد عن كيفية إدارة أمخاخنا للسلوك قبل أن نستطيع أن نفهم تمامًا دلالة الاختلافات على أساس الجنس في المخ”[1]

الرجال من المريخ والنساء من الزهرة؟ نعم أعرف ما سيلي قراءتك لتلك الجملة في عقلك المثقف، أنها هي نفسها التي تتردد مرارًا وتكرارًا على مسامعنا منذ أن نشر جون غراي لمؤلفه، وتحوله لإحدى كتب علم النفس الشعبي، وربما قد وصلت تلك الجملة لمرحلة الابتذال.

إلا أنه سؤال مهم للغاية؛ ففي فترات كثيرة من التاريخ الإنساني، حتى اندلاع الثورة الصناعية في أوروبا، كانت الأدوار الاجتماعية لكلٍ من الذكر والأنثى مرسومة بعناية وصرامة، فالبيت للمرأة، وكل ما خارج حدوده للرجل. وقد ظلت تلك النظرة متجذرة لمئات من السنين، نظرًا لعوامل كثيرة، منها طبيعة الاقتصاد المسيطر؛ حيث يتسم الاقتصاد الزراعي الخاضع للظروف البيئية بشكلٍ كبير للبطء والديمومة، دون حدوث أي تغيرات ثورية إلا ما ندر، وكذلك الثقافة المسيطرة على الوعي الجمعي التي تتشكل من خلال الدين والأعراف وغيرها من المصادر الفكرية.

وفي قرننا الحالي، ومع اضمحلال تقسيم الأدوار القاسي بين الجنسين، وتمكن المرأة يومًا وراء آخر من تحقيق استقلالها المادي والمعنوي، ورثنا في وعينا الجمعي، صورًا نمطية كثيرة حول سلوك كلٍ من الجنسين، تراوح الكثير منها بين الصواب والخطأ، وقد كان لها أكبر الأثر في تعزيز التفرقة بينهما؛ فصار من سلوك المرأة أن تكون خفيضة الصوت، طيعة في يد الرجل، مربية للأولاد، وصار من سلوك الرجل الخشونة، والجد، والعمل الدائم لكسب الرزق. كما صار من المؤكد أن الرجال أقدر من النساء في القيادة والتفكير والتحليل، لكون النساء أكثر عاطفةً من الرجال، ما يجعلهن أفضل في تربية الأطفال والتدريس.
لكن، هل تلك القناعات النمطية قناعات واقعية؟ بين المقتنعين بتلك القناعات، والقائلين بانعدام وجود الفروق بين الجنسين بشكل كامل، يتبنى هذا البحث موقفًا موضوعيًا على أساس العلم وحده، كي نتبين (بقدر الإمكان) الدور الحقيقي للجنس في عملية تكون سلوك الفرد. فهل هناك نمط معين لسلوك المرأة والرجل؟ أم هي مسألة نسبية تختلف من فردٍ لأخر؟ وهل لتلك التصورات النمطية المفرقة بين الجنسين أساس علمي متين؟ أم هي مجرد أوهام في أذهان الشعوب؟

لكي نجيب على ذلك التساؤل، سنبدأ بتعريف الصورة النمطية، وتحليلها بشكلٍ سيكولوجي لتبين آثارها على الفرد والمجتمع، وذلك لكي ندرك مدى خطورتها في وعي البشر. وبعد ذلك، سنخضع تلك التصورات للشك والتدقيق، فتلك التصورات تهدف لرسم سلوك معين لكلٍ من الجنسين، وعليه، فلابد أن نحلل العاملين الأساسيين في تكوين السلوك، كي نتبين إذا كانت لتلك التصورات وجهٌ من أوجه الصحة أم لا، ولذلك سنمضي في الحديث عن مخ الذكر والأنثى، ثم عن عملية تشكل سلوك الفرد ودور الجنس فيها.

وقبل كل شيء، علينا أن نحرر اللفظين المستخدمين في ذلك المقال، وهما:

  • الجنس (Sex): لفظ يشير للصفات البيولوجية والفسيولوجية التي تميز الرجال والنساء عن بعضهما البعض (كالعضو الجنسي، ومستوى الهرمونات، والطمث…).
  • الجندر، أو النوع الاجتماعي (Gender): الأدوار والسلوكيات والأنشطة والصفات التي يرسمها مجتمع معين على أنها ملائمة لجنس دونًا عن أخر[2] (مثال: ارتداء الرجال للقمصان، وارتداء الفتيات للفساتين).

وعليك أن تعرف أيها القارئ أنه حتى مع تلك التعريفات، فإن تطبيقها على أرض الواقع صعب للغاية، لأسباب سنستكشفها معًا في ثنايا السطور القادمة.

سيكولوجية الصور النمطية ودورها في التفرقة بين الجنسين

دعنا نتعرف بشكلٍ عام ومختصر على سيكولوجية الصورة النمطية، ما هي؟ كيف ولم تتكون؟

مفهوم الصورة النمطية بشكلٍ عام:

الصورة النمطية باختصار هي بنية معرفية تتضمن معارف المستُقبِل للمعلومة ومعتقداته وتوقعاته تجاه فئة اجتماعية[3]، تتكون تلك الصور النمطية في الطفولة (ويمكن أن تتكون في الرشد أيضًا) عن الأهل والأصدقاء والدائرة المحيطة، ويكون دافعها الرئيسي هو تحقيق الراحة والكفاءة على المستوى المعرفي. فحين تقر بصورةً نمطية لفئة من الفئات (مثال: النساء متقلبات الرأي ولا يمكن فهمهن بسهولة)، يبرر لك ذلك اتخاذ رد فعل مريح (مثال: النصح بتجاهل المرأة حين تشتكي) أو حتى اتخاذ موقف افتخاري زائف (مثال: نحن الرجال أبسط بكثير من النساء)[4]، وذلك يشعرنا بشكلٍ عام بالأمان أثناء التعامل مع الفئات المختلفة والجديدة. ورغم وقاحة تلك التصورات، إلا أنه يمكن دومًا تغييرها وتجاوزها[5].

الصور النمطية الجندرية:

الصور النمطية الجندرية هي أيضًا بنية معرفية تتضمن مجموعة من التصورات والآراء والمعتقدات حول كلٍ من الجنسين. وسؤالنا في تلك المقالة هي حول مدى مصداقية تلك الصور النمطية، فهل كونك ذكرًا أو أنثى يستلزم منك السير في مسارٍ محدد مسبقًا؟

فكما رأينا، تنبع خطورة ذلك السؤال بشكلٍ رئيسي من أن الصور النمطية ليست بتصورات عقلانية، بل هي تصورات نابعة عن تحيزات مسبقة لا تهدف إلا لتحقيق الراحة بتقسيم فئات المجتمع كي يسهل التعامل معها دون سابقٍ تحليلٍ أو معرفة. ولهذا لزم أن نمحص في تلك الصور، كي ندلل على مدى مطابقتها لأرض الواقع وللمنهجية العلمية.
فكي نجيب على السؤال الذي طرحناه، يستلزم الأمر أن نناقش دور الجنس في تكوين الشخصية الفردية، ولهذا النقاش مستويان، المخ، والسلوك.

أهناك مخٌ ذكري ومخٌ أنثوي؟

ماذا يخبئ لنا المخ من أسرار؟ هل هناك مخ أنثوي ومخ ذكري؟ وهل يمتاز كل مخٍ بمزايا عن الأخر؟  وهل يعزز الصور النمطية المأخوذة عن كل جنس؟

الصفات العامة لمخ كلٍ من الذكر والأنثى:

يدرس علماء المخ الفروق بين مخي الذكر والأنثى على 4 مستويات سنشرحهم في عجالة[6]:

  • معالجة المعلومات: فيحتوي مخ الذكر على المادة الرمادية بقدر أكبر بسبع مرات، بينما تستخدم مخ الأنثى المادة البيضاء بقدر أكبر بعشر مرات، وبذلك، فمخ الذكر حين يركز على مهمة فهو يلقي تركيزه عليها بالكامل، وينسى ما يحيط به من أشخاص أو أحداث، أما مخ الأنثى فهو أقدر على الانتقال من مهمة لأخرى بشكلٍ سريع وفعال6.

 

  • الكيمياء: يستخدم المخان، الذكر والأنثى، نفس القدر من المواد الكيميائية العصبية (كالسيروتونين – Serotonin والتستوستيرون – Testosterone، والاستروجين – Estrogen)، ولكن بدرجات مختلفة وبارتباطات عصبية مختلفة في المخ، وهذا ما يجعل من الذكور أكثر اندفاعًا وعدوانية. نتيجةً لذلك، يحتاج الذكور (على سبيل المثال) لاستراتيجيات تفريغ غضب مختلفة عن استراتيجيات الإناث6.

 

  • الاختلافات البنيوية: أي فيما يخص حجم المخ وطريقة تكوينه، فالإناث لديهن قدرة عليا على استقبال معلومات أكثر من خلال الحواس، ما يجعلهن أقدر من الرجال على متابعة ما يحدث حولهم6. كما أن أمخاخ الرجال أكبر بنسبة 10% في المتوسط، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنهم أكثر ذكاءً، وذلك وفقًا لفحص أُجري على 45 ألف مخ، حيث لم تُلحظ اختلافات في IQ الرجال والنساء على أساس حجم المخ[7].

 

  • جريان الدم ونشاط المخ: فبسبب جريان الدم في مخ المرأة بشكلٍ أكثر سلاسة في أية لحظة، يمكن للمرأة أن تراجع ذكرياتها العاطفية وتتأمل فيها أكثر من مخ الذكر، أما الأخير، فبعد أن يفكر بشكلٍ مختصر في ذكرى عاطفية لتحليلها، يتوقف ويستكمل مهمة أخرى، وقد يختار أن يمارس نشاطًا أخر تمامًا بدلًا من تحليل عواطفه، إلا أن ذلك لا يُعد هروبًا من العواطف كما يرى بعض المراقبون6.

 

تُعد تلك الفروق الأربعة مجرد أمثلة عن اختلاف تفكير الذكر عن الأنثى، وقد اكتشف العلماء أيضًا نحو 100 اختلاف بين مخي الجنسين لا يمكن تجاهلها6.

إذن فهناك مخ أنثوي ومخ ذكري، أليس كذلك؟

أنا أسف إذا فهمت أن ذلك مقصدي من استعراض تلك المعلومات، لكن الحقيقة أبعد بكثير عما تتصور.

فحتى مع وجود تلك الاختلافات، فقد وجدت دراسة بجامعة تل أبيب (Tel Aviv University)، لعام 2015، بعد إخضاع أمخاخ 5500 شخص للتصوير بالرنين المغناطيسي، أن حوالي 98% من الأمخاخ التي درسوها لا تنتمي بشكلٍ قاطع لجنس من الجنسين، فهي مزيج منهما معًا. إلا أنه هناك بعض الاختلافات، فدوائر المخ لكلٍ من الجنسين تعمل بشكلٍ مختلف رغم انشغالهما بنفس المهمة، وذلك في دراسة ضمت ألفي شخص من الأطفال والمراهقين والكبار. إلا أنه ليس هناك مخ أفضل من الأخر، فلكلٍ منهما مزايا وعيوب (كما شرحنا من قبل)7.

حسنًا، هل يقودنا ذلك للقول الفصل بأن هناك نمط محدد لكيفية عمل مخ الذكر والأنثى؟

كلا، فحتى من قاموا بعمل تلك الدراسات ينوهوننا بأنه لا يجب علينا أن ننسى دور الأسرة والثقافة في تشكيل المخ، فنظرًا لتوقعات المجتمع التي ننشأ فيها، تتدرب أمخاخ النساء بصورةٍ مختلفة عن أمخاخ الرجال، ما يقوي شبكات عصبية مختلفة لدى كلٍ من الجنسين، ما قد ينشأ بسبب توقعات المجتمع وتصويره التنميطي لدور كلٍ من الأنثى والذكر. فالوضع أشبه بالضرير الذي فقد بصره، تجد أن سمعه قد تحسن، لأن مخه قد تدرب أكثر على استخدام حاسة السمع، ما جعلها أقوى وأشد7.

تلك الشروحات تطرح علينا أسئلة ملحة، فهل هذا يعني أن الفتيان ليسوا بالضرورة أفضل من الفتيات في الرياضيات؟ وأن الفتيات لسن بالضرورة أفضل في التعاملات الاجتماعية؟ ففي دراسات تحليلية للعديد من الدراسات القديمة التي أُجريت فعلًا حول القدرات الرياضية واللغوية، وُجد أنه لا توجد فروق كبيرة بين الصبيان والفتيات في تلك القدرات، ما يعزز فرضية خضوعها لتطلعات المجتمع الجندرية[8].

حسنًا، يبدو أن المخ قد قال كلمته، فحتى مع وجود الاختلافات بين الجنسين، إلا أنه لا يسبب فروقًا بتلك الضخامة التي يصورها البعض. ما يقودنا لاستعراض السؤال التالي، وهو السؤال القديم حول الطبع والتطبع، أيهما أقوى وأعمق تأثيرًا في مسألة الاختلافات بين الجنسين؟

الطبع والتطبع: دور الجنس في تشكيل السلوك الفردي

أتعلم؟ تلك المناظرة هي خير مثال على مقولة قديمة، تقول بأن الأسئلة الخاطئة، حتمًا ودومًا ستؤدي لنهايات لا أصل لها من الإعراب، فلن تصل منها لأي إجابة قاطعة. فالأمر أشبه بأن اسأل “هل تتشكل الكعكة بالنسبة الكبرى من مكوناتها أم من طريقة طبخها؟”، فنمضي لكي نحاول أن نجيب على ذلك السؤال، دون جواب في النهاية.

مناظرة منقرضة:

طالع الأخبار الجديدة، لقد انتهت جدلية الطبع ضد التطبع! “بح خلاص!”. فقد كان هناك جدال ونقاش طويل طويل بين الجبرية الاجتماعية (وقد وقعت العديد من النظريات النسوية في ذلك الخطأ) والجبرية البيولوجية. ولهذا الأمر أسبابه السياسية والفكرية، أفليس من الأفضل لمسمعك الجملة القائلة: “في ثقافتنا، الرجال أطول من النساء”؟ فذلك سيشعرك ببعض الحرية، فربما هناك ثقافات أخرى تكون فيها النساء أطول من الرجال.
إلا أن ذلك خطأ فادح. واليوم، لم يعد السؤال المطروح هو الصدام بين الطبع والتطبع، وإنما سلسلة من الأسئلة المتتالية للوصول لنتيجة علمية محددة:

  1. هل السلوك الذي نبحثه تكيف نفسي[9] (مثال: قدرة الأطفال على الكلام دون تدريب)، أم نتيجة ثانوية لتكيف نفسي (مثال: القدرة على التعلم والكتابة)، أم مجرد صفة غير ثابتة (مثال: طبقة الصوت المختلفة بين الجنسين)؟
  2. إذا كان تكيفًا نفسيًا (فرق نفسي حقيقي وذات ثقل)، فهل هو ثابت رغم تغير الظروف البيئية والاجتماعية أم لا؟ وإذا لم يكن ثابتًا، فما العوامل المؤثرة على ذلك التكيف؟
  3. هل التكيف النفسي الذي نبحثه، مميز بين الجنسين بحقٍ أم لا؟

وهذا السؤال الأخير هو الذي يميز بحق بين الجندر (النوع الاجتماعي) والجنس، فكل ما هو جندر نابع عن التطبع (المجتمع)، وكل ما هو جنس نابع عن الطبع (الجينات والبيولوجيا)، إلا أنه من مسلمات علم النفس اليوم أن السلوك ليس نتاج هذا أو ذاك فحسب، بل هو نتاج عملية معقدة للغاية تجمع بين الاثنين. وذلك السؤال يُعد السؤال الأدق لتحديد طبيعة الصفة المطروحة، إذا كانت مميزة بين الجنسين أم لا. فعلى سبيل المثال، الميل للعنف، وطول القامة، هي صفات مميزة بين الجنسين لصالح الذكور.

نتائج التصور الجديد لدور الجنس في السلوك:

تمييز على أساس الجنس أم الجندر؟
 

هل الصفة مميزة بين الجنسين ثقافيًا؟

هل الصفة مميزة بين الجنسين جنسيًا؟
لا نعم
لا لا اختلاف اختلاف على أساس الجنس
نعم اختلاف على أساس الجندر اختلاف على أساس الجنس

في ذلك الجدول، تُعد الاختلافات على أساس الجنس أمر ثابت، لا يتغير بتغير الثقافة، أما الاختلاف على أساس الجندر، فهو يتغير بتغير الثقافات، كقيادة المرأة للسيارات، أو طبيعة ملابس كل جنس.

إلا أنه حتى مع التعريفات الجديدة، فمن الصعب القطع ببعض السلوكيات إن كانت مميزة بين الجنسين جنسيًا أم ثقافيًا، فهل ميل الصبيان للمهن الخطرة (قيادة السيارات السريعة، مهنة رجال الإطفاء…)، وميل الفتيات للفضفضة والتفاعل الاجتماعي، اختلاف على أساس الجندر، أم الجنس؟[01]

فمن خلال استعراض طبيعة الصور النمطية، ودور المخ في تشكيل السلوكيات، وصعوبة تحديد مصدر السلوك، إذا كان نابعًا عن جنس المرء أم تربيته، نصل بذلك لنتيجة منطقية، وهي أن الصور النمطية – بلا عقلانيتها وتسرعها في الأحكام – ليست بالوسيلة التي نُعَرِّف بها عن الجنسين!

إذن، فكيف نجيب بشكلٍ واقعيٍ وصحيح عن السؤال الذي طرحناه في بداية المقال، حول كيفية التأكد من صحة الفروق التي ندعيها بين الجنسين؟ هنا أطرح عليك أيها القارئ، البديل المُحكَم والأصح للفصل في تلك الأسئلة الصعبة، وهو المنهج العلمي.

المنهج العلمي والفصل في طبيعة الاختلاف بين الجنسين

هل التكيف النفسي الذي نبحثه مميز بين الجنسين بحقٍ أم لا؟ كما رأينا، فإن من الحكمة ألا نترك ذلك السؤال لخرافات وأعراف، كي تشكل وعي الشعوب الجمعي. فالقيام بذلك سيؤدي لتصورات مشوهة للأنثى والذكر.

ولذلك، فمن الحكمة أيضًا، للإجابة على مثل تلك الأسئلة، أن نتتبع خطوات المنهج العلمي[11]، والتي بنينا على أساسها النتائج التي عرضناها فيما يخص المخ وتشكل السلوك. فالاختلافات بين الجنسين، الحقيقية منها والوهمية، يمكن تفسيرها، إذا ما اتبعنا منهجًا محكَمًا ومطابقًا لأرض الواقع.

علم النفس التطوري وتفسيره للفروقات بين الجنسين:

فعلى سبيل المثال، نجد لعلماء النفس التطوريين نظرية في غاية الأهمية في تفسير نمط من السلوكيات التي تختلف فيما بين الجنسين، حيث رأوا أن الجنس المُلزَم بقدرٍ أقل من الالتزامات الأبوية (الذكور في بني البشر)، تكون لديه قابلية عليا للتواصل الاجتماعي الجنسي (مثال: ممارسة الجنس مع شخص غريب) وللممارسات الجنسية المختلفة (مثال: مشاهدة الأفلام الإباحية) وكذلك بعض الصفات الأخرى (مثال: طريقة اختيار المرأة لشريكها على أساس براجماتي، كالمال والصحة وقدرته على توفير الموارد). وهو أمر ثبتت حقيقته بدراستين، ضمت الأولى منهما 48 شعبًا، والثانية 53 شعبًا. ما تُعد ظاهرة كونية لا يمكن الجدال حولها.

مجتمعات أكثر مساواةً، واختلافات أكثر بروزًا:

وعلى صعيد أخر، هناك ظاهرة أخرى جديرة بالملاحظة، وهي أنه في المجتمعات ذات الدرجة العليا من المساواة بين الجنسين، تكون هناك فروق أكثر في جوانب عديدة من الشخصية والجنسانية والتفكير عن المجتمعات التقليدية! بل وحتى الصفات الجسدية كالطول والسمنة وضغط الدم! ما يرجح أن تلك الفروق لا تعود لمجرد أدوار جندرية حددها المجتمع، بل لها أيضًا

أسباب بيولوجية[12]. ما يشكل مفاجأة وضربة قاصمة لمن ينكرون بشكلٍ مطلق دور البيولوجيا في تشكيل الاختلافات بين الجنسين[13].

ليست كل الاختلافات على أساس الجنس: بعض الأوهام:

ولكن ذلك لا يعني أن كل الفروقات بين الجنسين حتمية وصحيحة، وكذلك يسري الأمر على الصور النمطية. فعلى سبيل المثال الرجال ليسوا بالضرورة أذكى من النساء ولا العكس (إلا أننا لا يمكن أن ننكر المقدرة اللغوية العليا للمرأة وكذلك القدرة البصرية العليا للرجل)[14]. وفي مثال أخر للصور النمطية الوهمية؛ كون الرجال أظرف من النساء، مع أنه في الحقيقة لا فرق بينهم في خفة الدم وحس الدعابة، بل كل ما في الأمر أنه (من وجهة نظر تطورية) يُعد ذلك الأمر منتظر من الرجل أكثر مما هو منتظر من المرأة، نظرًا لأنه يدل على ذكاء الرجل وجاذبيته وبالتالي على فرص تزاوجه، لذا يكون عليه تركيزٌ أعلى[15].

وهناك الكثير من الأمثلة التي لا حصر لها حول تلك الأوهام المختلقة، بدءًا من التشكيك حول قدرة المرأة على قيادة الناس وطبيعة أسلوبها القيادي[16]، مرورًا بأن الرجل يخون شريكته أكثر من النساء لأنه أمر “غريزي” في الرجال”[17]، وإذا ظللنا نتحدث عن مثل تلك الأوهام، فصدقني حين أقول لك إننا لن ننتهي أبدًا[18]!!

كيف توصلنا لكل تلك النتائج التي استعرضناها؟ إذا تفقدت المصادر، ستجد أن كل معلومة مرفقة بدراسات بحثت الاختلافات بين الجنسين، وذلك على مستوى العينات العشوائية من البشر. وقد اتُبعت في تلك الدراسات طرق إحصائية وبيانية وعينات كبيرة العدد من الناس للتدليل في النهاية على تلك الفروقات.

لا علمية مسعى إنكار الاختلافات بين الجنسين بشكلٍ مطلق:

لا يعني ذلك أن كل ما يُنشر على أنه دراسة علمية يكون صحيحًا. فعلى سبيل المثال، هناك دراسة[19] يحاول فيها صاحبها أن ينفي وجود الفروقات بين الجنسين تمامًا، وذلك بالادعاء بأنه لكي توجد فروق فعلًا بين الجنسين، لابد أن يكون الفرد إما ذكرًا بالكامل (على مستوى المخ والسلوك)، أو أنثى بالكامل، ومنذ أنه من النادر أن تجد مثل هؤلاء الأفراد، فالفروقات بين الجنسين توجد بندرة، إن وُجدت أصلًا!

بالطبع هذا الكلام (رغم مسعاه النبيل) لا وزن له، فكما بيننا في الفقرات السابقة، هناك فروق بين الجنسين تظهر حتمًا ودومًا (راجع النظرية التطورية لعلماء النفس ووضع الجنسين في المجتمعات الأكثر مساواةً بين الجنسين). ومثل ذلك المسعى يخلط بين “التماثل” و”المساواة”. فتحقيق المساواة بين الجنسين على المستوى السياسي والحقوقي لا يتطلب على الإطلاق إثبات “تماثل” الجنسين، بل كل ما يتطلبه هو إثبات أن الفروقات التي تدعيها الصور النمطية الشائعة ليست إلا أوهام في أغلبها أو مجرد مبالغات، وأن نحصر الفروقات بين الجنسين في مجالها المعتبر بشكلٍ علمي. فإهمال الاعتراف بتلك الفروقات يؤدي لسوء التعامل مع متطلبات الأفراد للصحة النفسية، ما يؤدي لإضعاف ذلك المجال والتشكيك في مصداقية نتائجه[20].

صعوبة إحصاء الاختلافات بين الجنسين بسبب الضغوط المجتمعية:

وعلينا ألا ننسى أيضًا، أن تلك الصور النمطية المضللة، قد تؤثر بشكل كبير على كفاءة المرأة أثناء مرورها بالاختبارات. فدخول المرأة لاختبار الالتحاق بكلية كالهندسة على سبيل المثال، بحملها لفكرة مسبقة عن أنها أقل من الرجال، سيؤثر حتمًا على نجاحها، ما سيؤدي في النهاية لأكاذيب إحصائية عن أن النساء المهتمات بالهندسة أقل من الرجال. فحتى إن أثبتنا أن الرجال يمكن أن يكونوا أفضل فعلًا من النساء في الهندسة، ألا إن هناك عاملًا لا يمكن أن نغفله، وهو الضغط الذي توضع تحته المرأة، والذي سيؤدي للتأثير على نسبة النساء المهتمات حقًا بالهندسة [21] [22] [23].

الخلاصة

كي نختم ذلك المقال، يمكن لنا القول بأن مسألة الاختلافات بين الجنسين على مدار تلك السنوات الطويلة قد خضعت بقدرٍ كبير لتأثير الكثير والكثير من المخلفات والمعتقدات الثقافية الخاطئة، والتي كان لها أكبر تأثير في إحداث تلك الفروق، وصياغة ألفاظ معيارية تقييدية كالحشمة والوقار والرجولة، يكون عدم الالتزام بها وصمة عار للخارج عن الجماعة.

تلك التنميطات الجندرية قد حرمتنا من الكثير من الطاقات الإبداعية، وظلمت النساء ومعهن الرجال؛ فصار على الرجل الشرقي عبءٌ ثقيل بإعالة المنزل والأولاد، وألا يبكي أو يعبر عن عواطفه، والا يظهر ضعفه، وألا يرتدي ألوانًا معينة، وإلى أخره من المظاهر.

فحتى إن كان وقع تلك الصور النمطية أثقل على النساء عن الرجال، إلا أن الكل مضار منها، فتلك التنميطات تكبحنا كمجتمع إنساني من الانطلاق في استكشاف ذواتنا وفعل ما نرغب فيه ونحب[24].

ولكن علينا ألا ننسى، أنه حتى مع إزالة كل تلك الأساطير الوهمية حول الفروقات بين الجنسين، فإنه تظل هناك فروق بينهما لا دخل للمجتمع بها (وإن كان له دور في بعض الأحيان إما في تعزيزها أو كبحها بدرجةٍ ما)، بل هذا دور بيولوجيا الجسم الإنساني، بهرموناته وتفاعلاته الكيميائية. فمن البديهي أنه لم يكن ليكون هناك ذلك النزاع القديم ما لم تكن هناك فروق من الأصل.

فمن الخطير للغاية أن نهمل من حساباتنا الفروق على أساس الجنس؛ فذلك مسلك مراهق يعرض علم النفس لخطر التسييس، ويجعل الصحة النفسية للفرد معرض نزاعات وجدالات مكانها ليس المعمل، وإنما الشارع.

قد يحدثني شخص فيقول: “ما هذا التناقض؟ أين القول الفصل في مقالتك؟ هل هناك فروق بين الرجال والنساء أم لا؟!”.

والإجابة باختصار هي نعم، هناك فروق بين الرجال والنساء على أساس الجنس، إلا أن الكثير من تلك الفروق مُبالغٌ فيها بفعل التصورات النمطية للمجتمعات (خاصةً النامية منها)، وبالتالي تكون لها تطبيقات ظالمة على أرض الواقع، (مثال: حرمان النساء من تولي القضاء في بعض البلاد). ولذلك، لكي نفصل بشكلٍ نهائي في تلك المسألة، فعلينا دومًا بالمنهج العلمي، كي نستطيع أن نؤكد ما إذا كانت الصورة النمطية التي نبحثها لها صدى في أرض الواقع أم لا، وبذلك نتجنب تحيزاتنا المسبقة التي تتشكل من خلال المجتمع ومعتقداته.

 

[1] Herbert, J. (2016, February 15). Are There Sex Differences in the Brain? Retrieved June 29, 2017, from http://bit.ly/2tsFoYC

[2] Mills, M. (2011, October 20). Sex Difference vs. Gender Difference? Oh, I’m So Confused! Retrieved June 29, 2017, from http://bit.ly/2tsHKGz

[3] http://bit.ly/2tpo0DX

[4] http://bit.ly/2tpSHZw

[5] The Source of Stereotypes. (n.d.). Retrieved June 29, 2017, from http://bit.ly/2tsCTp2

[6] Brain Differences Between Genders. (n.d.). Retrieved June 29, 2017, from http://bit.ly/2tsjGE3

[7] Cool, L. C. (n.d.). Are Male and Female Brains Different? Retrieved June 29, 2017, from http://wb.md/2tsXee3

[8] Think Again: Men and Women Share Cognitive Skills. (n.d.). Retrieved June 29, 2017, from http://bit.ly/2tsPEA2

[9] التكيف النفسي (Psychological adaptation): هو العملية المستمرة، المختصة بالعواطف والذكاء، والتي يحافظ بها البشر على توازن بين أوضاعهم العقلية والعاطفية في البقاء، وكذلك في التعامل مع محيطهم الاجتماعي والثقافي (Psychological adaptation. (n.d.) Miller-Keane Encyclopedia and Dictionary of Medicine, Nursing, and Allied Health, Seventh Edition. (2003). Retrieved June 29 2017 from http://bit.ly/2u4pTCX).

[10] Sex Difference vs. Gender Difference? Oh, I’m So Confused! (n.d.). Retrieved June 29, 2017, from http://bit.ly/2u4DvOI

[11] المنهج العلمي: هو مجموعة من المبادئ والإجراءات الساعية لاكتساب المعرفة، وتتضمن تحديد وصياغة إشكالية البحث، وجمع المعلومات من خلال الملاحظة والتجربة، وصياغة الافتراضات واختبارها (Definition of SCIENTIFIC METHOD. (n.d.). Retrieved July 08, 2017, from http://bit.ly/2tUtmXD).

[12] How Big are Psychological Sex Differences? (n.d.). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sx6iu1

[13] Institute of Medicine (US) Committee on Understanding the Biology of Sex and Gender Differences, Wizemann, T. M., & Pardue, M. (n.d.). Sex Affects Behavior and Perception. Retrieved July 11, 2017, from http://bit.ly/2uNjtbG

[14] Men, Women, and IQ: Setting the Record Straight. (n.d.). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxm7kq

[15] How and Why Humor Differs Between the Sexes. (2016, July 17). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxR4VA

[16] When the Boss is a Woman. (n.d.). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxAfKD

[17] Ph.D., S. K., Ph.D., E. A., & Ph.D., T. E. (n.d.). The Real Reasons Why People Cheat. Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxmTy4

[18] للاستزادة حول تلك الأوهام:
Ph.D., D. R., Ph.D., C. N., Ph.D., N. P., & Marano, H. E. (n.d.). Sex Differences in Cooperative Behavior? Depends on Who’s Watching. Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxni3y

Gender and Money: Are There Sex Differences in Money Usage? (n.d.). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxn0cQ

Sexual Personalities. (n.d.). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxCSfl

Sex Differences in Talkativeness? (n.d.). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxNmv7

[19] Joelab1, D., Bermanb, Z., Tavorc, I., Wexlerd, N., Gabera, O., Steind, Y., . . . Jänckef, A. L. (n.d.). Daphna Joel. Retrieved July 08, 2017, from http://bit.ly/2tUulHb

[20] Statistical Abracadabra: Making Sex Differences Disappear. (n.d.). Retrieved July 08, 2017, from http://bit.ly/2tUukmT

[21] Girls Can’t Even Take the SAT Without Getting Stressed Out About Gender Stereotypes. (n.d.). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxy49V

[22] Implicit Stereotypes and Gender Identification may Affect Female Math Performance. (n.d.). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxc8vr

[23] Being Faced With Gender Stereotypes Makes Women Less Likely to Take Financial Risks. (n.d.). Retrieved July 07, 2017, from http://bit.ly/2sxVewI

[24] راجع: ش. الفقي، وب هيلمان و ج. باركر محررون (2017). فهم خصائص هويات الرجال الجندرية نتائج من الدراسة الاستقصائية الدولية بشأن الرجال والمساواة بين الجنسين – الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: ملخص تنفيذي. القاهرة، وواشنطن العاصمة: هيئة الأمم المتحدة للمرأة وبروموندو-الولايات المتحدة (http://bit.ly/2ur1km1).

 

إعداد وتصميم: هشام كامل

تحرير: يُمنى أكرم

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي