عادة ما يذكر في بداية أي كتاب يؤرخ للفلسفة ، بأن الفلسفة قد بدأت بطاليس . وفى هذا منافاة للحقيقة من بعض الوجوه ان لم يكن من كلها .فالفلسفة لم تهبط من السماء الى الارض على حين غفلة ، ولم تكن كل بلاد الاغريق في القرن السادس قبل الميلاد هى فجر التاريخ . فهناك مئات الادلة والقرائن تدل على أنه كانت هنالك سمات كبيرة من التفكير الفلسفي والرياضي والهندسي مبثوثة عند البابليين والفنيقيين و في مصر القديمة . بل ولئن كنا قد ذكرنا في المقال السابق أننا نجد أن أول مرة وردت فيها كلمة (فلسفة ) كانت عند هيرودوت ، فاننا نجد أن سقراط نفسه يشير الى أن مصطلح (sophia) ليست يونانية الأصل ، بل و غامضة .ففي معرض حديثه فى محاورة (اقراطولس) يؤكد أن كلمة sophia :”غامضة بما فيه الكفاية وأجنبية بالاحرى “. وهذا يؤدي الى أن كلمة sophos أو حكيم أجنبية بدورها. ولئن كانت كلمة “حكيم” بالعربية تعني “الشافي ” .فجذر هذه الكلمة بابلي .فالحكيم الشافي ذي العلم الالهي عند البابليين يقال له ashipou و ذلك على الضد من لفظة “طبيب ” والتى يقال لها عند البابليين asou. فالحكمة لدي البابليين هي ashipoutou ، والطب هو asoutou . وقد لا يكون مصادفة هنا ان ابن سينا قد أطلق على اسم موسوعته الكبرى فى الحكمة والفلسفة اسم : “الشفاء” ..
انه و منذ أواسط السبعينيات من القرن المنصرم ، شرعت مدرسة جديدة تبحث عن أصل الفلسفة اليونانية من جديد وتعمل بصورة جادة على تغيير فكرة “المعجزة اليونانية” السائدة لدى الاوساط الاكاديمية ،متخذة من الشك والتساؤل فضلا عن النقد والتمحيص وتحاول أن تؤرخ للفلسفة من جديد . وعلى ما يبدوا أنه لن يحسم التاريخ أبدا هوية مُنشىء الفلسفة ، فقد يكون أحد العباقرة الفقراء هو من اخترعها ثم أغرق فى لجة التاريخ المنسي غير المكتوب على حد تعبير “أنتوني جوتليب” ،لكن على الأقل توجد هنالك سجلات مكتوبة لاحدى بدايات الفلسفة ، حتى وان كانت مسبوقة ببدايات أخرى قبلها بيد أننا بصدد تاريخ نبحث فيه ألا وهو تاريخ الفلسفة ، فلا مناص لنا أن نبدأ من نقطة محددة ،فلنجعلها جريا مع العادة من مدرسة ملطيا وبداية من “طاليس ” الى أن يحسم موضوع تأريخ الفلسفة من جديد ..
طاليس :
ولد بمدينة ميليتس من عام 624الى 547قبل الميلاد . اشتهر في بلاد الاغريق لعدة أسباب ، منها أنه تنبأ بحدوث كسوف كلي للشمس في يوم 28مايو من عام 858قبل الميلاد . وقد حدث هذا الكسوف أثناء معركة كانت حامية الوطيس بين دولتيين مجاورتين لمالطيا من ناحية الشرق وهما الليديون والميديون مما أضاف الى هذا التنبؤ بُعدا دراميا وهو ما ساعد على شهرة طاليس الفكرية . فقد تأثر المقاتلون بحدوث هذا الكسوف أثناء المعركة حتى أنهم ألقوا أسلحتهم وجنحوا للسلم . ومنها ما ذكره عنه أرسطو في كتاب السياسة من أنه قد ليم على فقره ، واتخذ لائموه من فقرة دلالة على أن الفلسفة لا خير فيها ، فاتخذ من براعته في علم الفلك وتنبأ بأن محصول الزيتون سيكون به وفرة من العام القادم فقدم مبلغا كعربونا يبيح له حق استعمال معاصر الزيتون كلها بكيوس وملطيا ، ولما جاء وقت حصاد المحصول طُلبت منه المعاصر بكثرة فأخذ يؤجرها لمن يشاء وبالمبلغ الذي يحدده وكسبا مبلغا كبيرا ، وبهذا قدم برهانا عمليا للعالم أنه بمستطاع الفلاسفة أن يصبحوا بأغنياء وقت ما يشاؤن وبدون عناء ، غير أن يتجهون بطموحهم نحو غير ذلك ..
بيد أن حكمته لم تقف عند ذلك ، فقد أسس علما للهندسة يقوم على الاستدلال العقلي من غير حاجة الى اجراء تجارب الا في القليل .ووضع تقويما للملاحين من بني وطنه ضمنه ارشادات فلكية وجوية ، منها أن الدب الاصغر أدق الكواكب دلالة على الشمال . وقيل أنه لما قدم الى مصر عرف علم المساحة وانشغل بمسألة فيضان النيل . و قد دل أساتذته المصريين على طريقة لقياس ارتفاع الاهرام وكانوا قد أرهقوا لايجاد طريقة تمنكهم من قياس ذلك ، فنبههم الى أنه فى الوقت الذي يكون فيه ظل الشىء مساويا لمقداره الحقيقي ، فان طول ظل الاهرام هو مقدار ارتفاعها وان النسبة تبقى محفوظة بين طول الظل وارتفاع الشىء في أى وقت من النهار ..
وكان طاليس أحد “الحكماء السبعة ” بحكمة قالها محاولا الاجابة على السؤال الكبير الذي طرح:
ما هو الاصل الذي صُنع منه الواقع ؟.
فقال : أفضل الاشياء هو الماء ، ومنه صُنع كل شىء. ومن هنا يكون أول من قد وضع مسألة الطبيعة وضعا نظريا مبتعدا عن محاولات الشعراء واللاهوتيين . لذلك عادة ما تبدأ الفلسفة باسمه رغم أن هذه الفكرة ليست جديدة كل الجدة . فهذه الفكرة قديمة ، فنجدها عند البابليين والمصريين القدماء . فان مدرسة هليوبولس الدينية تقول ان “رع” اله الشمس قد خرج من الماء الازلي “نون” الذي سكن فيه بلا حراك . ونجدها فى ملاحم هوميروس ، كان أوقيانوس الذي يجسد الماء المحيط بسطح الارض الدائري هو واهب الحياة وربما كان منجب كل الالهة . وايضا طبقا لما ذكره “بلوتارخ ” من أن الكهنة المصريين يحبون الاشارة الى أن هوميروس وطاليس قد استمدا أفكارهما حول الماء من مصر ..وعلى الرغم من ذلك فان طاليس لا يعد مرددا للاساطير المصرية والبابلية ، لان هناك اختلافا جوهريا بالنسبة للماء الذي يعتقده طاليس، وبين الماء الذي ورد ذكره فى تلكم الاساطير . فلم يكن الماء لديه شقيق الالهة تيثيس وزوجها مثلما كان الحال فى ملاحم هوميروس ، ولم يكن كذلك خليطا من أنواع الماء الثلاثة المشخصة فى علم الكون البابلي وهم “ابسو” و “تيامات ” و ” مومو” الذين أوجدو الالهة ، ولم يكن بطبيعة الحال هو الماء البدائي ” نون ” الازلي الذي كان أبا للاله الشمس في الصباح طبقا للاسطورة المصرية . بل هو ماء طبيعي يمكنك السباحة فيه ، أو شربه ،ولا هو متعلق البتة بأى اله من الالهة الوارد ذكرهم فى الاساطير القديمة ..
لكن هنا قد يُورد سؤال :
لماذا طاليس اعتقد فى” الماء ” من انه أصل الاشياء جميعا وهو الجوهر الاول والمادة الاساسية التى يتكون منها كل شىء وفى النهاية سيرجع اليها ؟؟.
هنا يجيب أرسطو ويقترح أسبابا لتفضيل طاليس الماء وايثاره على بقية الاشياء ومنها انه لاحظ ان للماء ارتباطا وثيق الصلة بالحياة ، فالطعام والدم والمنيّ كلها تحتوي على الماء ، والنبات والحيوان يتغذى على الماء ، والكائنات الحية تميل نحو الرطوبة الى حد ما ويصيبها الجفاف عند الموت ، ومنها ان التراب يتكون من الماء ويطغى عليه شيئا فشيئا ، وما يشاهد على الاحوال الجزئية لابد وان ينطبق بطبيعة الحال على الارض بالاجمال ،فانها خرجت من الماء وصارت قرصا طافيا . فلقد كان يرى أن الارض ترتكز على الماء ..
ومن مآثره أيضا أنه أشار الى أن المغناطيس به روح ، أو كائنات حية لانها تتمتع بتحريك بعض الاشياء وتحريك نفسها باتجاه تلك الاشياء ، فحاول حل هذا اللغز بافتراض ان هذه الاشياء بها نوعا ما من الحياة ، فالحركة التلقائية غالبا ما تعطي صفة الحياة ..
وقبل أن أنتقل الى ذكر صورة طاليس عند المسلمين الاوائل أحب أن أذكر هذه الطرفة التى ذكرت عنه في كتابات “ديوجين ليرتيوس” من انه ذات يوم اصطحبته سيدة عجوز في الهواء الطلق بينما هو يراقب النجوم سقط فى حفرة أو في بئر ، فأخذ يصرخ طالبا النجاة من المارة ، فسارعت العجوز قائلة مداعبة له : انك تنهمك في شئون السماء بينما يفوتك ما هو تحت قدمك مباشرة !.. وان صحت هذه الرواية فاننا نفهم منها أن فكرة قبوع الفيلسوف في برجه العاجي وانعازله أو انفصاله عن واقع الناس قديمة قدم الفلسفة نفسها..
صورة طاليس في العالم الاسلامي :
عرفه المسلمون وعرفوا عنه أنه اول فلاسفة أيونيا ” فهو اول من تفلسف في الملطية وأنه أول من حاول أن يفسر أصل الوجود ، من أين جاء _ واذا جاء ، لما جاء _ واذا انقلب الى أين يكون انقلابه “.. ولقد عرفوا من كتاب تاريخ الفلاسفة لفورفوريوس “أن أول الفلاسفة السبعة ثالث بن مالس الامليسي “..
ثم انتقلت اليهم فكرته الرئيسية : ان المبدع الاول هو الماء ، وان الماء قابل لكل صورة ، ومنه أبدعت الجواهر كلها :السماء والارض وما بينهما وهو علة كل مبدع ..
ولقد حاول الشهرستاني فى الملل والنحل أن يفسر قول طاليس “الماء هو المبدأ الاول ” بحيث لا يتعارض مع فكرة الالوهية ، فقرر أن الماء عند طاليس هو مبدأ الحركات الجسمانية ، لا المبدأ الأول فى الموجودات العلوية ، وانه لما اعتقد أن العنصر الاول هو قابل لكل صورة ،أى منبع الصور كلها ، فأثبت فى العالم الجسماني مثالا له يوازيه في قبول الصور كلها ، ولم يجد على هذا النهج عنصرا مثل الماء ، فجعله المبدع الاول في المركبات ، وأنشا منه الاجسام والاجرام السماوية والارضية ..
ثم تجد يحي بن عدي وهو أحد شراح أرسطو يُبين أن المتقدمين من الطبيعيين لم يبينو علة فاعلة الا العنصر ، وقالوا أنه مدبر الكل وانه لا متناه فى العظم ، وانه لا كائن ولا فاسد ..ويحدد هؤلاء الطبيعيين فيقول : فانقسمانس يقول انه الهواء ، وثاليس يقول أنه الماء ، وانقسمندريس يقول انه ما بينهما ..
وكانت أوضح صورة لطاليس الحقيقي عند المسلمين فى كتاب انتشر فى العالم الاسلامي ، وكان مصدرا لكثيريين من مؤرخي الفلسفة فى العالم الاسلامي كجابر بن حيان والمقدسي والشهرزوري ، فى كتاب ” الاراء الطبيعية” لفلوطرخس . فقد نقل فلوطرخس للمسلمين بأن “ثاليس الذي من اهل ملطية ، فانه يرى أن المبدأ والاسطقس _ الاسطقس هو الأصل البسيط يتكون منه المركب .. والاسطقسات هى العناصر الاربعة عند القدماء : ماء وهواء وتراب ونار .._شىء واحد “.. ثم يأخذ فى شرح كل أراء طاليس المختلفة فى المسائل الطبيعية مسألة بعد أخرى للمسلمين شرحا وافيا ..