تحديد مدى قابلية الشخص للانتحار: الجزء الأول
إشارات تدل على انتحار مُقبل ومحاولات انتحار
إن معدل الأشخاص الذي يقتلون أنفسهم في تلك البلاد يصل إلى ثمانية وثلاثين شخصًا، وإذا ضممنا إلى تلك الأعداد هؤلاء الذي يقتلون أنفسهم في شكل يبدو كحادث، مثل حادث تصادم سيارة، فإن المعدل سيرتفع.
الانتحار هو مشكلة صحية رئيسية بين العامة، فهو إلى حد ما يُعد مُعديًا، حيث أننا نجد تزايدًا في أعداد حالات الانتحار مباشرة بعد انتحار أحد المشاهير! وحتى إن توافرت الرعاية الطبية والنفسية، فإنهما ليستا كافيتين للقضاء على حالات الانتحار. كما أن حالات الانتحار الناجحة، أي التي ينجح فيها الشخص في الانتحار، لا تعني بالضرورة أنها نتيجة لإهمال الأخصائي النفسي أو أفراد الأسرة، فالانتحار ينتج عن تعقيدات شائعة من الأمراض النفسية وخاصة الاكتئاب.
الاكتئاب والانتحار
الاكتئاب سواء كان وحده أو مصاحبًا لعدة أمراض فهو على الأرجح أكثر الأسباب الشائعة لإحالة المرضى لأخصائي نفسي، فالاضطراب الاكتئابي يصيب عشرين بالمائة من السكان على الأقل مرة واحدة في حياتهم. كما أن أغلب الأشخاص المعرَّضون للاكتئاب يُصابون بالاكتئاب لمرة ثانية وثالثة، وفي كل مرة يُصبح الشخص المُصاب أكثر عُرضةً للانتحار، حتى وإن استجاب ذلك الشخص للأدوية في الماضي! وحتى إن كان على علم بحالته. يحدث ذلك في كل مرة يبتلع فيها اليأس كل الاعتبارات العقلانية، ويمحو كل الاحتمالات بأن تكون الحياة مكانًا يستحق العيش.
غالبًا الأشخاص المكتئبون يفكرون من حين لآخر أنه من الأفضل ألا يستيقظون صباح اليوم التالي، تلك ليست فكرة انتحارية قدر أنها تفكير في الموت والنسيان في مكان ما حيث تنتهي كل مشاعرهم الكريهة. وفي حالات أقل شيوعًا إلى حد ما تتولد أفكارًا عابرة ومُبهمة بالقيام فعلًا بالانتحار، توصف تلك الحالة في المصطلحات النفسية بأنها «التفكير في الانتحار»، وعادة يضاف إلى تلك الجملة تحذير في التسجيلات الطبية «ولكنه لا ينوي على ذلك». على الجهة المقابلة، هناك آخرون يكون اكتئابهم أكثر عمقًا، والأهم أنه بلا أمل، وهؤلاء سوف يرتكبون محاولة انتحار فعلية، ويُقال أن في مقابل حالة انتحار واحدة ناجحة عشرة حالات أخرى فاشلة؛ وفي مقابل كل محاولة انتحار عشرة آخرون فكَّروا في قتل أنفسهم.
معظم الأشخاص المكتئبون لا يكونون بالضرورة انتحاريون ميَّالون للانتحار، ولكن أي شخص مُكتئب يمكن أن يُصبح انتحاريًا. أفضل طريقة لمنع حدوث مثل تلك الكارثة هو أن نضع باعتبارنا دائمًا أن ذلك الشخص معرَّض للانتحار. العائلات على وجه الخصوص يجب أن تضع باعتبارها دائمًا أن أي شخص مُكتئب من الممكن أن يحاول فجأة إيذاء نفسه، وعلى الرغم من أن الانتحار بوجه عام لا يمكن أن يتم القضاء عليه، ولكن بعض حالات الانتحار تبعث تحذيرات قبلها، تلك الحالات يُمكن أن نستطيع منعها. إن أكثر المكونات القادرة على جعل الشخص المُكتئب شخصًا انتحاريًا هو الإحساس باليأس.
الميول الانتحارية وتحديد مدى الخطورة:
غالبًا يقع على عاتق الأخصائي النفسي مهمة تحديد ما إذا كان الشخص الانتحاري يميل للانتحار أم لا، فمثلًا هناك أشخاص يأتون إلى مكتب الأخصائي النفسي أو إلى غرفة الطوارئ وتبدو عليهم علامات الاكتئاب واضحة، وعلى الرغم من أن اكتئابهم يكون عميقًا إلا أنهم يزالون غير انتحاريين؛ في المقابل بعض الأشخاص الذين لا يبدو عليهم علامات الاكتئاب قد يكونون على بُعد قشة من الانتحار، فلقد رأيت مرضى يحاولون الانتحار فقط لأن شخصًا ما تكلم معهم بأسلوب فظ أو أن شخصًا ما رفض إعطائهم المزيد من الحلوى! ولذلك فإن تحديد تاريخ المريض يُمكن أن يُعطيك تلميحات عن خطورة تعرض الشخص للانتحار.
إن الأشخاص الذين يفتقدون وجود العائلة والأصدقاء حولهم هم أكثر عرضة للخطر، كما أنه من غير المحتمل أن ينتحر الشخص المتدين أو من يمتلك سببًا يعيش حياته من أجله، على سبيل المثال عملًا يهتم به حتى إذا كان مُكتئبًا.
عند نقطة ما يجب على الأخصائي أن يسأل المريض مباشرة ما إذا كان يفكر في قتل نفسه، فالتطرق لفكرة الانتحار لن يتسبب في إحراج للمريض، كما أنه لن يُثير الفكرة لشخص لم يفكر في الانتحار من قبل، فلن يَقتل شخصًا نفسه لمجرد أن أحدهم ذكر الفكرة أمامه.
وبغض النظر عن أن التفكير في الانتحار هو شيء مُشترك بين المصابون بالاكتئاب في جميع أنحاء العالم، إلا أنني ذكرت «التفكير في الانتحار وليس النية»، فالنية تختلف من شخص لآخر ويصعب الحُكم عليها.
على سبيل المثال إذا أخبرني مريض وقال: أنا أفكر في الانتحار ولكني أفكر في التأثير الذي سينتج على أطفالي، أو قال: «أفكر في الانتحار ولكنني أعلم أن الانتحار غير مقبول أخلاقيًا»، ففي الحالتين لا أشعر بخطورة حالتهم مثل حالة مريض آخر يُخبرني أنه يمتلك مسدسًا يحرص دائمًا على التأكد أنه يعمل، أو إن قالت لي مريضة: «أقوم بِعَد الحبوب التي أمتلكها، فأنا لدي بالضبط 48 قرصًا من مهدئات الأعصاب و10 أقراص من المسكنات»، فالمريضين السابقين كانت احتمالات انتحارهم منخفضة بالمقارنة مع المريضين اللذان ذُكرا مؤخرًا. يمكننا التفريق بينهما بمعرفة أنه يوجد دائمًا مجموعة من العوامل تدفع الشخص ناحية حافة الانتحار، ومجموعة أخرى تدفعه في الناحية المقابلة نحو الحياة، فأحيانًا عندما يبدو على الشخص علامات واضحة للاكتئاب السريري، مثل الاستيقاظ مبكرًا قبل موعده المعتاد، نعرف أن مضادات الاكتئاب ستساعده، ولذلك في تلك الحالة نطلب من المريض أن يحاول البقاء حيًا لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع، وهو الوقت اللازم لتتمكن الأدوية من العمل.
وبالرغم من كل هذا فمن الصعب الحكم أنه كان هناك تهديدًا بالانتحار إذا لم تحدث أي محاولة نشطة سابقة؛ ولكن في كل الأحوال علينا أن ندرس الأمر. على سبيل المثال، إذا أتى شخص إلى غرفة الطوارئ وكان من المتوقع أنه انتحاري فيجب عندها حجز المريض بالمشفى حتى التأكد من سلامته، أما إذا لم يكن متوقَّعًا انتحاره فسيتم إعادة المريض إلى بيته بالإضافة إلى إحالته إلى طبيب نفسي.
أحيانًا يُقبل الشخص على الانتحار في سبيل تحقيق غرضًا ما، فـ «التلويح بالانتحار» هو فعل يبدو ظاهريًا أنه رغبة في الانتحار، ولكنه في الحقيقة رغبة في إيصال فكرة محددة، وهو محاولة التأثير على شخص ما!
عندما كنت طبيبًا نفسيًا مسئولًا عن استقبال المرضى في غرفة الطوارئ، قام طبيب بإحالة مريضة إليّ وذلك بعد تضميد رسغها، سألتها: «لم جرحتي رسغك؟»، ردت: «لأنه لم يكن يستمع إلى أحد أثناء العشاء، أريدك أن تخبر زوجي بأنه إذا لم يأخذني في عطلة فسأقتل نفسي!».
التلويح بالانتحار:
غالبًا عندما يحاول أحدهم استخدام الانتحار كوسيلة للضغط على شخص ما فإن الأمر لا يبدو واضحًا، فتلك المرأة لم يكن لديها أي نية في إنهاء حياتها، ولكن على الرغم من هذا فإننا لا يجب أن نتجاهل ذلك التلويح بالانتحار للأسباب التالية:
- أولًا: لأن مثل ذلك الشخص كان يمكن أن ينجح في إحداث ضرر لنفسه، فمن غير الصعب على الشخص أن يقوم بجرح رسغه وأن يتجنب قطع أحد الأعصاب. فقد رأيت رسالة انتحار كُتبت بواسطة امرأة كانت غاضبة من صديقها مما جعلها تتناول مجوعة من المخدِّرات ومسكنات الألم! ما لم تعلمه تلك المرأة أن ذلك المزيج كان قاتلًا حيث كتبت في رسالتها ما تخطط لفعله في الصيف القادم، ولذلك من الواضح أنها لم تنو قتل نفسها فعلًا، ولكن هذا ما حدث.
- ثانيًا: التلويح بالانتحار من المحتمل جدًا أن يسبق محاولة فعلية وأكثر جدية، فأغلب محاولات الانتحار الناجحة تَلَت تاريخًا من محاولات فاشلة سابقة.
- ثالثًا: بالطبع من يلجأ إلى مثل تلك الوسيلة لتحقيق ما يريده فلا بد أن يكون لديه مجموعة من الاضطرابات العاطفية والتي يجب علاجها في مصحة نفسية.
تتباين وسائل الانتحار في خطورتها، فاستخدام المسدس الشائع بين الرجال أكثر خطرًا- وإن لم يكن بالضرورة مميتًا- من تناول العديد من الأقراص. ولهذا السبب فإن محاولات الانتحار الناجحة بين الرجال تتفوق على محاولات النساء، وذلك على الرغم أن أعداد النساء اللواتي يقدمن على محاولة الانتحار أكثر.
المحاولات الجدية للانتحار
أما عن محاولة الانتحار الجدية، فإن الأخصائي في الأغلب يرى الشخص لأول مرة بعد فشل محاولته للانتحار، ولذلك يجب أن يحدد الأخصائي وقتها ما إذا كانت محاولته محاولة فعلية ونهائية لقتل نفسه، أم هي خطوة مترددة، حيث يرتكب الكثير من الأشخاص محاولة انتحار ثم يغيرون رأيهم فيما بعد، فمثلًا ربما يتناول شخص مجموعة من الحبوب ثم يقوم سريعًا بإخبار شخص ما بما فعله، فيقوم ذلك الشخص بأخذه لغرفة الطوارئ حيث يتم تنظيف معدته من الحبوب ليتم إنقاذه. والبعض الآخر يقطعون رسغهم ثم يذهبون هم بأنفسهم إلى المشفى حيث يتم تضميد جراحهم وإنقاذهم. فإذا قابل الطبيب النفسي شخصًا مماثلًا فمن الممكن أن يقترح على المريض حينها الإقامة في المشفى لبعض الوقت حتى يتم علاجه، أما إذا كانت محاولة الانتحار خطيرة وقاتلة، مثل قيام الشخص بالانتحار في مكان من الصعب أن يجده أحد فيه، فسيكون من الأفضل أن يقيم المريض في المشفى لبعض الوقت، فالذهاب إلى مكان بعيد للانتحار أشد خطرًا من القيام به في غرفته.
وسواء اختار الأخصائي أن يبقى المريض بالمشفى أم لا، فإنه يجب عليه استشارة عائلة المريض أولًا حتى لو كان هذا مخالفًا لرغبة المريض. وأخيرًا فإنه ليس من الآمن دائمًا اللجوء إلى خيار الإقامة في المشفى.
في المقال القادم سنناقش أسلوب الإقامة في المشفى للعلاج كوسيلة للعلاج.
ترجمة: Radwa Mansour
مراجعة لغوية: Mohammad Marashdeh
المصادر:
-Fredric Neuman M.DDetermining Suicide Risk Part 1
Suicide “gestures,” suicide attempts, and suicides.
Posted Aug 06, 2012-Psychology Today
اللوحة في التصميم: The Suicide بواسطة الفنان Édouard Manet