تطور الديانة المصرية القديمة ” الجزء الأول “

تطور_الديانة_المصرية_القديمة_الجزء_الاول-1

بداية الوعي لدى الإنسان وتطوره

بدأ تطور (الوعي) عند الإنسان في نفس وقت خروجه من العصر الحجري السحيق وهو ما يعرف باسم (عصر الأيوليت)، وهو العصر الذي كان نقطة تحول بالنسبة للتطورات البيولوجية للأنسأن مثل: كبر الدماغ، وأنحسار ألفك إلى الوراء، واستخدامه للأدوات. كل هذة الأمور لعبت دورًا في بداية وعي وادراك الإنسان للعالم كما لعبت دورًا في اختلاف هذا الوعي المتشكل حديثًا عن الأحاسيس، والغرائز عند للحيوان.

عصر الباليوليت

يصنف العلماء العصر للاحق لعصر الأيوليت، باسم عصر (الباليوليت الأسفل)-في الفترة بين 500 ألف عام ق.م، وحتي 12 ألف عام ق.م- وهو ما يعتقد العلماء أنه العصر الذي شهد اكتشاف الإنسان للنار، واستعمالها في حماية كهوفه من الحيوأنات المفترسة ليلًا، و بالتأكيد كانت النار هي أول محرك للنوازع الدينية للإنسان، وهي أول مقدس إحتك به؛ لأنها شكلت نموذج للخوف، والرهبة، والجمال، والمنفعة في نفس الوقت، وهي لم تكن كالشمس التي يراها من بعيد، بل كأنت قريبة منه طوع يديه؛ ليستعملها كما استعمل الأدوات العظمية، والحصوية في أولى خطوات الوعي.

لقد جعلت النار الإنسان أكثر قوة من ذي قبل، ولعبت دورًا هامًا في تطوره اللاحق، مما يجعل ظهور النار كأن عامل نوعي حرك في الإنسان نوازعه الروحية، والدينية.

العصر التالي هو عصر (الباليوليت الأوسط)، ويمتد في الفترة بين 100 ألف وحتي 40 ألف قبل الميلاد المؤرخ، ولعل أهم ما يميز تلك الفترة هو انحسار سيطرة أنسأن النيأندرتال بصورة ملحوظة، وظهور أول دين بشري قائم على الأساطير وطقوس عبادات معينة، حيث أن الأساطير هي محأولة من الإنسان لتفسير الظواهر الطبيعية التي يعجز عن تفسيرها، والتى هي من أهم الدوافع لإنشاء الأديان.

في هذا العصر، بدأ الإنسان بعد نمو نوازعه الروحية في تقديس الحيوان؛ بسبب شراسته، وقوته، وتنوعه، ومنافسته له في الحصول على الغذاء، ثم اقترب منه  واصطاده أما بدافع الغذاء أو بدافع الخوف منه، وإتقاء شره، وتميز الحيوأن عن النار بأن الإنسان استطاع ترويض الحيوأن، وتدجينه بل، واقترب منه لدرجة مرافقته في كل تجواله، ورحلاته.

تقديس الحيوان عند القدماء حمل رمزًا مُهِمًا، حيث رأى الإنسان القديم في الحيوان القوي،  وفي أكل لحمه أن الحيوان قد أصبح جزءًا من جسده، خصوصًا بعد اتحاده مع النار ، ويعتقد العلماء أن إنسان النياندرتال هو من ابتكر المدافن، والقبور كنوع من التقديس أو التكريم الديني أكثر من أن يكون وعي اجتماعي، فدفن إنسان النياندرتال موتاه بالإضافة  للحيوان المقدس جنبًا إلى جنب، ولعل هذا هو المدخل لاعتقاد الإنسان القديم بوجود حياة ما بعد الموت، فدفنه للحيوان المقدس بجانبه إنما هو للحماية في العالم الأخر.

ويتكون أى دين من ثلاثي (العقيدة، والطقس، والأسطورة)؛ مما يجعل طقوس الدفن الجنائزية عند قدماء المصريين اللاحقين – كما سنستعرضهم لاحقًا – هي امتداد لطقوس الدفن أو حتى الطقوس الدينية عند الإنسان القديم في عصر الباليوليت الأوسط ، هذة الطقوس، كما أشرنا سابقًا، هي بذرة لوجود عقائد ما بعد الموت، أو بسبب اعتقاد الإنسان بوجود حياة البعث والخلود

تَلّى هذا العصر، عصر جديد عُرف باسم عصر (الباليوليت الأعلى)، وتميز ببداية ظهور ديانات الإنسان العاقل، ويختلف هذا العصر عن العصور السابقة بأنه شهد تكوين، وإنتاج الأشياء المقدسة، فبعد أن كان الإنسان يقدس النار، ويهاب الحيوانات، بدأ في تشكيل الدمى والعرائس، والرسم على جدران الكهوف، بدأ الإنسان في إنتاج مقدسه بنفسه بعد أن كان يعتمد على الطبيعة في ذلك

تشير النظريات العلمية بأن الرسومات، والتمائم، والدمى التي وضعها الإنسان بداخل الكهوف، وعلى جدرانه ما هي إلا لتحويل الكهف إلى معبد، يتم من خلاله استحضار  قوي الحيوان أو النار أو التميمة السحرية.

وهذا ما ظهر في مهد الحضارات المصرية القديمة التى سبقت توحيد القطرين وبالخصوص حضارات حلوان، والبداري، ونقادة، ومرمدة بني سلامة، و دير تاسا، والمعادي، وجرزة.

العصور اللاحقة لعصر الباليوليت الأعلى هي عصور بداية التاريخ، التى شهدت بداية تدجين الحيوان  الذي استلزم – عن وعي وقصد – زراعة أنواع معينة من النباتات. وهو ماعرف لاحقًا باكتشاف الزراعة كأعظم الاكتشافات البشرية بعد اكتشاف الكتابة، حيث تعد أيضًا الكتابة الهيروغليفية هي تطور لرموز وصور المقدسات القديمة منذ عصر الباليوليت الأعلي وما قبله.

العصر النيوليتي

في بداية عصر جديد يُدعي ب(العصر النيوليتي)، بدأت مرحلة من الجفاف وتراجعت الأحراش، والغابات نحو أماكن المستنقعات المائية بجانب نهر النيل، وبدأ الإنسان القديم في الاستقرار بجانب النهر .. في بداية هذا العصر كانت الديانة المصرية بدأت باكتساب ملامحها الأولى، والتشكل على الرغم من بقايا عالقة لممارسات روحية منذ عصور ما قبل التاريخ، حيث تواجدت مراحل حضارية دينية مهمة في مصر، أهمهم دير تاسا، والبداري، و نقادة في مصر العليا (الجنوب)،  ومرمدة بني سلامة، وحلوان في مصر السفلي(الشمال)، نستطيع أن نتعرف على بوادر تطور الديانة في عصور ما قبل الحضارة المصرية القديمة من المقابر  وطرق دفن الجماعات البشرية في تلك الفترة، وهو دليل دامغ على اعتقادهم بوجود حياة ما بعد الموت.

في حضارة البداري، كانت أجساد  الموتى تلف أو توضع بداخل الجلود الحيوانية، وهي ملابس الصيد في تلك الفترة فكان من الطبيعي أن تكون أيضًا ملابس المقبورين ، وفي حضارة مرمدة بني سلامة، كانت أجساد الموتى تدفن داخل نطاق القرية البدائية وأحيانًا تحت مساكنهم، وبالقرب من أماكن وجود النار، لبث الدفء في أوصال الموتى، وحمايتهم في حياتهم الأخرى، بالإضافة لمشاركتهم حياتهمـ والعبادة باعتبار أن النار هي من مقدسات هذا العصر.

فكر المصري القديم في بيئته، الشمس التى تشرق وتغيب، والقمر يكتمل أحيانًا وينقص أحيانا أخرى، ونهرٌ ينبع من الجنوب، ويصب في الشمال حيث البحر الواسع المفتوح، وهكذا تعددت المعبودات، واختلفت في شكلها ووظائفها، أيضًا تأثرت الديانة بطبيعة البلاد، فإتخذت الديانة طابعًا خاصًا يتفق مع أسلوب الحياة الهادئ،  والعمل المستمر الذي تعود عليه المصري القديم من زراعة، و تربية ماشية،  وفيضان النيل السنوي، وبعض العواصف الرعدية التي ظنها المصري ألهة كبرى تتعارك فوق السحاب، وتظهر من خلفها الشمس كأنها منتصرة، وكانت الشمس أيضًا تعتبر بمثابة صديق لشعب مصر، فهي تمنحه الحرارة في أيام الشتاء الدافئة.

وهكذا تكونت من كل المظاهر الطبيعية عدة ألهة أحاطت بالإنسان المصري القديم  ولعبت دورًا مهمًا في حياته اليومية، وقسم المصري القديم الألهة إلي ألهة كونية كبرى تعتني بأمور الكون، وتسيير حركة الكواكب، والنجوم، والحياة ككل، وألهة محلية صغرى يستطيع الإنسان أن يلجأ إليها إذا ما مرضت بقرته مثلًا أو داهمه الخطر.

ولكي نفهم  مراحل تطور الديانة، لابد أن نبدأ بشرح طريقة الدفن، وما تمثله من رموز، فوضع الدفن الاعتيادي بداخل المقبرة في عصور ما قبل التاريخ الفرعوني كان الرقود على الجانب الأيسر في الوضع الجنيني، والرأس ناحية الجنوب حيث يواجه الجسد اتجاه الغرب، ويمكننا استخلاص المعني من كتب نصوص الأهرامات الشهيرة، حيث أن المتوفي بهذه الوضعية هو مدعو لأن ينهض، ويستدير على جانبه الأيمن ليتلقى القرابين، ورأسه ناحية الجنوب منابع النيل، وجسده ناحية الغرب.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف طور المصري القديم رموز الإتجاهات هذه لبستخدمها في الدفن؟

الإجابة أن قوى الطبيعة لطالما كانت تمثل قوى، ومعبودات، ومقدسات لاحظها المصري القديم، وبنى أساطيره عليها.
والواقع أن عقيدة البعث، والخلود هي مركز الثقل وحجر أساس الذي قامت عليه كل الحضارة المصرية العظيمة بكل أثارها، وأهرامتها، ومعابدها، وكنوزها التي تحدت الزمن، ومازالت قائمة حتي يومنا هذا ،  ففي مصر العليا(الوجه القبلي) سادت فكرة أن الغرب هو أرض الموتى،  حيث دفن المتوفي في الغرب أو وجهه ناحية الغرب حيث تذهب الشمس لتغيب في المساء؛ لتواصل رحلتها في عالم الموتى تحت الأرض لتولد صباح اليوم الجديد من ناحية الشرق؛ مما عزز لديهم فكرة وجود حياة أخرى بعد الموت سوف يبعثون ليصبحوا خالدين في حقول (إيارو) أو الجنة بمفهومه، فبني المصري القديم مدنه، وعاش حياته في البر الشرقي من النيل، بينما دفن موتاه في البر الغربي، وتمثل الصحراء بالليل أو عالم الموتي، فالإنسان يحتاج للمؤنة  والأطعمة معاه إن كان على سفر، كذلك يحتاج الميت  إمدادات طازجة يجلبها له أقاربه الأحياء من حين لأخر.

 

أما في مصر السفلى(الوجه البحري)، فأننا نقابل مفهومًا مختلفًا، فالأفق المفتوح الممتد  للدلتا، ومن خلفها البحر عزز  فكرة وجود عالم الموتي في السماء، حيث تتحول الأرواح إلى نجوم، كذلك تصف نصوص الأهرامات اللاحقة لتلك الفترة رحلة صعود  الملك المتوفي إلى السماء عبر سلم عظيم لتبقى روحه خالدة وسط النجوم لاحقًا، وبعد التوحيد انصهرت الفكرتان معًا ليكونوا أصل الديانة المصرية القديمة، وهي عقيدة البعث، والخلود.

عقائد الديانة والعبادة

مثلما كان الوضع في العصور ما قبل التاريخية، فإن العالم بالنسبة للمصري القديم هو عالمٌ ملئ بالآلهة! فمن كل  ركن من أركان مصر القديمة ينبثق وجود غريب يثير تسؤلات العقل .. و بالإضافة للألهة الكونية الكبري، فإن العقائد الدينية التي ارتبط بها المصري القديم في عبادته لآلهته الصغرى أو المحلية تمثلت في ثلاثة أنواع، الأول هو عبادة الأشكال الحيوانية، والطيور، و التي اختار بعضها ليقدسها؛ بسبب اعتقاده أن تلك الحيوانات أو الطيور تحوي شيئُا من القوة الإلهية أو الحكمة الخالدة، وقد قدس المصري القديم القوة المجهولة في الحيوان، والتى اختارت الحيوان لتتجسد فيه، وليس الحيوان بذات نفسه، فهو قدس البقر (حاتحور( رمز الأمومة والحب، لكنه لم يعبدها ولم يجد حرج في أن يذبح البقرة ليتغذى بلحمها، كذلك الحال بالنسبة للتمساح (الإله سوبك( لم يجد حرجًا في أن يقتله دفاعًا عن نفسه، كما أعجب المصري القديم بهيبة وضراوة الحيوانات البرية، وقوتها، فـعلىَ صلايات و لوحات العصور القديمة نجد صور لثيران وأسود، وهي رمز للملك في قوته، وسلطته المسيطرة ،وهكذا، ظهرت ألهة واختلفت أسمائها من إقليم لإقليم، واندثرت ألهة أو تحولت وتحورت لتندمج مع حيوانات أو ألهة أخرى بمسميات مختلفة، وكمثال على ذلك المعبودة (بات( التى يُرمز لها برمز البقرة، تحولت في العصور القديمة إلى (حاتحور)، ونستطيع أن نؤكد أن المصري القديم لم يقدس حيوان لذاته، فما عبدوه قدماء المصريين هي الرموز الأرضية للقوى الكونية الخفية التى لا تعيش معه على الأرض.

والنوع الثاني هو عبادة الأشكال النباتية، فقد اعتقد المصري القديم أن شجرة الجميزة مرتبطة بالألهة (حاتحور( التى مُنحت لقب سيدة الجميزة كألهة أنثى طيبية تنفع الناس.
أما النوع الثالث والأخير فهو عن العبادة المرتبطة بالأشكال المادية غير الحية، مثل الحجر المقدس أو ما يعرف بالـ (بن بن – benben) وهو على شكل مسلة، كذلك عامود الـ (چد – Djed) وهو مرتبط بالإله أوزيريس.

مصادر المقال : 

  • ياروسلاف تشيرني – الديأنة المصرية القديمة
  • خزعل الماجدي – أديأن ومعتقدات ماقبل التاريخ
  • ويل ديورأنت – قصة الحضارة
  • يسرية عبد العزيز حسني – الديأنة المصرية القديمة

#الباحثون_المصريون

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي