لأول مرة على الإطلاق، صوَّرت البشرية أحد هذه الوحوش الكونية بعيد المنال، مسلطةً الضوء على عالم الزمكان الغريب.
وقال (شبرد دوليمان-Sheperd Doeleman) من جامعة هارفارد ومركز هارفارد للفيزياء الفلكية، اليوم (10 أبريل) خلال مؤتمر صحفي في النادي الوطني للصحافة في واشنطن العاصمة:
«لقد رأينا ما اعتقدنا طويلًا أنه غير مرئي».
يقوم دوليمان بتوجيه مشروع Event Horizon Telescope، والذي استحوذ على الصور الملحمية، تلك الصور الأربعة التي تم الكشف عنها اليوم في الأحداث الصحفية في جميع أنحاء العالم وفي سلسلة من الأوراق المنشورة، التي تضع الخطوط العريضة للثقب الأسود الوحشي الذي يكمن في قلب المجرة الإهليلجية M87. الصور مفعمة بالكثير بحد ذاتها، لكن الأهم من ذلك هو المسار الذي ستسلكه النتائج الجديدة، على حد قول الباحثين، وقال (بيتر جاليسون-Peter Galison) أستاذ الفيزياء وتاريخ العلوم في جامعة هارفارد، في حديث أُجري الشهر الماضي في أوستن، تكساس:
«هناك حقًا مجالٌ جديد لاستكشافه، وهنا تكمن الإثارة في نهاية المطاف»
قارن جاليسون، الذي شارك في تأسيس مبادرة تدعى «الثقوب السوداء متعددة التخصصات» في جامعة هارفارد، تأثير الصور المحتمل على تأثير الرسومات التي رسمها العالم الإنجليزي روبرت هوك في القرن السابع عشر، أظهرت هذه الرسوم التوضيحية للناس كيف تبدو الحشرات والنباتات من خلال المجهر، وقال غاليسون عن أعمال هوك.
«لقد فتحت عالمًا»
تلسكوب بحجم الأرض
Event Horizon Telescope هو اتحاد يضم أكثر من 200 عالم يعمل في هذا المجال منذ حوالي عقدين، إنه مسعى دولي بحق؛ يأتي التمويل على مر السنين من المؤسسة الوطنية للعلوم الأمريكية والعديد من المنظمات الأخرى في بلدان حول العالم، ويأخذ المشروع اسمه من نقطة اللاعودة (أفق الحدث) الشهيرة للثقب الأسود، الحدود التي لا يمكن بعدها لأي شيء، ولا حتى الضوء، الهروب من براثن الجاذبية.
وقال آفي لوب، المدير المؤسس لشركة BHI، ورئيس قسم علم الفلك بجامعة هارفارد:
«أفق الحدث هو الجدار النهائي للسجن، بمجرد دخولك لن يمكنك الخروج منه أبدًا».
لذلك من المستحيل تصوير الجزء الداخلي من الثقب الأسود، إلا إذا تمكنت بطريقة ما من الوصول إلى هناك بنفسك، وعندها لن تستطيع أنت والصور الخاصة بك العودة إلى العالم الخارجي بالطبع، لذا، لنكتفي بصور أفق الحدث، مع رسم هالة ظلية للثقب الأسود الداكن.
«نحن نبحث عن فقدان الفوتونات»
هذا ما قاله عضو مجلس علوم المشروع (دان مارون-Dan Marrone)، وهو أستاذ مشارك في علم الفلك بجامعة أريزونا
يقوم المشروع بفحص ثقبين أسودين، أحدهما M87 الذي يضم حوالي 6.5 مليار مرة كتلة شمسنا، والثقب الأسود المركزي لمجرة درب التبانة، المعروف باسم Sagittarius A*، هذا الكائن الأخير على الرغم من أنه لا يزال ثقبًا أسود فائق الضخامة، فهو ضئيل مقارنةً بـ M87، حيث يحتوي على 4.3 مليون كتلة شمسية فقط، كل من هذه الكائنات هي أهداف صعبة بسبب المسافة الهائلة من الأرض، حيث يقع Sagittarius A* على بعد حوالي 26000 سنة ضوئية منا، والثقب الأسود لـ M87 يبعد 53.5 مليون سنة ضوئية.
من وجهة نظرنا، أفق الحدث الخاص بـ Sagittarius A* صغير جدًا لدرجة أنه يعادل رؤية برتقال على سطح القمر أو القدرة على قراءة الصحيفة في لوس أنجلوس أثناء تواجدك في مدينة نيويورك، بالطبع لا يوجد تلسكوب واحد على الأرض يمكنه القيام بتلك الملاحظة، لذلك كان على فريق Event Horizon أن يبدعوا، قام الباحثون بربط المقاريب اللاسلكية في أريزونا وإسبانيا والمكسيك والقارة القطبية الجنوبية وغيرها من الأماكن حول العالم، مما يشكل أداة افتراضية بحجم الأرض.
الكثير من البيانات
استخدم فريق Event Horizon تلك الأداة لدراسة الثقوب السوداء فائقة الضخامة لمدة أسبوعين حتى الآن، مرة واحدة في أبريل 2017 ومرة أخرى في العام التالي، هناك سبب وجيه وراء ظهور النتيجة الأولى للمشروع بعد عامين، ولدت كل ليلة من المراقبة حوالي 1,125,899,906,842,624 بايت من البيانات، الذي اتضطر الفريق إلى نقل معلوماته من مكان إلى آخر بطريقة قديمة، وقال (ديمتريوس بسالتيس-Dimitrios Psaltis) عالم مشروع Event Horizon، وهو أستاذ في علم الفلك بجامعة أريزونا:
«لا توجد وسيلة يمكننا من خلالها نقل هذه البيانات عبر الإنترنت، لذا ما نقوم به فعليًا هو أننا نأخذ محركات الأقراص الصلبة الخاصة بنا وتقوم FedEx بشحنها من مكان إلى آخر، هذا أسرع بكثير من أي كابل يمكنك العثور عليه في أي وقت»
هذا يبطئ ويعقد التحليل، إن البيانات من نطاق Event Horizon الذي بالقرب من القطب الجنوبي على سبيل المثال لا يمكن أن تنطلق من القارة القطبية الجنوبية حتى ديسمبر 2017، عندما يكون الجو دافئًا بدرجة كافية للطائرات للدخول والخروج.
وأضاف أن ربط البيانات ومعايرتها كانت صعبة أيضًا، وقد تولى الفريق عناية كبيرة بهذا العمل، بالنظر إلى الطبيعة المهمة للاكتشاف.
وقال د.دوليمان
«إذا كنت ستطالب بتصوير ثقب أسود، فيجب أن يكون لديك دليل كبير وقوي للغاية، وفي مشروعنا، نشعر غالبًا أن أشخاصًا مثل آينشتاين، وآرثر إدينغتون وكارل شوارزشيلد يراقبون في توتر ما قد يحدث، وعندما يكون لديك أحد هؤلاء النجوم يدقق في عملك، فأنت تريد حقًا تصحيحه»
ماذا يعني كل ذلك؟
قال ديمتريوس بسالتيس-Dimitrios Psaltis
«إن مشروع Event Horizon له هدفان رئيسيان: تصوير أفق حدث لأول مرة على الإطلاق ولمساعدة في تحديد ما إذا كانت نظرية النسبية العامة لآينشتاين تحتاج إلى أي مراجعات».
قبل أن يأتي أينشتاين، كانت الجاذبية تعتبر قوة غامضة من مسافة بعيدة، لكن النسبية العامة تصفها بأنها تشويه للزمان والمكان، أي ان الأجسام الضخمة مثل الكواكب والنجوم والثقوب السوداء تخلق نوعًا من الترهل في الزمان والمكان، تمامًا كما يحدث لكرات البولينج إذا وضعت على الترامبولين، الأجسام القريبة تتبع هذا المنحنى وتتسلل نحو الكتلة المركزية.
صمدت النسبية العامة بشكل لا يصدق على مدار القرن منذ طرحها مرورًا بكل اختبار ألقاه العلماء عليها، لكن ملاحظات Event Horizon توفر تجربة أخرى في عالم صارم حيث قد لا تتطابق التوقعات مع الواقع، ذلك لأن علماء الفلك يمكنهم حساب الحجم والشكل المتوقع لأفق الحدث باستخدام النسبية العامة، كما أوضح د.ديمتريوس:
«إذا كانت الصورة الظلية المرصودة تتطابق مع عمليات المحاكاة المستنيرة للنظرية، حينها كان أينشتاين على حق بنسبة 100٪، وإذا كانت الإجابة (لا)، فيجب علينا تعديل نظريته لجعلها أكثر توافقًا مع التجارب، هذه هي الطريقة التي يسير بها العلم».
وعلمنا اليوم أنه لا توجد حاجة إلى أي تعديلات، على الأقل في الوقت الحالي، حيث تتوافق ملاحظات M87 من Event Horizon مع النسبية العامة، على حد قول أعضاء الفريق.
وقال أفيري بروديريك عضو فريق Event Horizon بجامعة واترلو ومعهد محيط للفيزياء النظرية في كندا خلال مؤتمر صحفي اليوم:
«يجب أن أعترف، لقد ذهلت قليلاً من أنها تتوافق بشكل وثيق مع التوقعات التي توصلنا إليها»
مثل تلك المراجعات هي أمر حيوي للعملية العلمية، وفي الواقع فإن تقديم معلومات أفضل لإدخالها في النظريات والمحاكاة سيكون على الأرجح أحد أكبر مساهمات Event Horizon
إن النتائج الجديدة يجب أن تساعد العلماء أيضًا على التعامل بشكل أفضل مع الثقوب السوداء. على سبيل المثال، من المحتمل أن تسلط صور Event Horizon ضوءًا كبيرًا على كيفية حل اللولب الغازي في قاع الثقب الأسود، وقال لوب إن عملية التراكم هذه، التي يمكن أن تؤدي إلى توليد جسيمات نفاثة من الإشعاع، غير مفهومة حتى الآن بشكل جيد، كما تتوافق النتائج بشكل جيد مع نتائج مرصد (LIGO)، التي اكتشفت تموجات الفضاء التي تولدها عمليات دمج الثقوب سوداء التي تكون أكبر بكثير من بضع عشرات من الشمس.
وفي حال كنت تتساءل عن Sagittarius A*: يأمل فريق Event Horizon في الحصول على صور من هذا الثقب الأسود الهائل قريبًا، كما قال د.ديمتريوس بسالتيس اليوم، وأوضح الباحثون أن M87 أولاً، وأن حلها أسهل من Sagittarius A* لأنه أقل تقلبًا على فترات زمنية قصيرة، كما أوضح.
منظور جديد؟
قال أعضاء فريق Event Horizon والعلماء الآخرون إن المساهمات في هذه الساحة يمكن أن تكون كبيرة، وأشاروا إلى أن الصور يمكن أن تغير الطريقة التي نفكر بها في أنفسنا ومكانتنا في الكون، مستشهدين بالصورة الشهيرة “Earthrise” التي التقطها رائد فضاء أبولو 8 بيل أندرس في ديسمبر عام 1968، هذه الصورة التي أعطت البشرية لمحة عن كوكبنا، إنه حقًا موقع وحيد للحياة في بحر لا حصر له من الظلام.
المصدر
ترجمة وإعداد: محمد طه
مراجعة: آية غانم