جائزة نوبل في الكيمياء 2020.. التحرير الجيني وإعادة كتابة كود الحياة

جائزة نوبل في الكيمياء 2020

المقص الجيني.. أداة لإعادة كتابة كود الحياة

حازت إيمانويل شاربنتيه وجينيفر داودنا على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020 لاكتشافهما أحد أكثر أنظمة وأدوات تكنولوجيا الجينوم دقة: النظام المعروف بالمقص الجيني (المُعدِّل الجيني) كريسبر/كاس9 CRISPR/Cas9. يمكن للباحثين باستخدام هذه التكنولوجيا إجراء تعديلاتٍ بالغة الدقة على الحمض النووي للحيوانات والنباتات وحتى الكائنات الدقيقة. وقد خلقت تلك الثورة في علوم الحياة الجزيئية فرصًا جديدة لاستيلاد النباتات، وتساهم حاليًا في ابتكار علاجاتٍ للسرطان، وقد تفتح الباب من جديد أمام  حلمٍ قديم راح يلوح في الأفق باكتشاف علاجاتٍ للأمراض الوراثية المستعصية.

إن عدم قدرتنا على التنبؤ بالعلم هو ما يجعله جذابًا وأكثر إثارةً للاهتمام. لا يمكنك أبدًا أنت تعرف مسبقًا وجهتك النهائية إذا ما تتبعت فكرةً أو سؤالًا ما. وكثيرًا ما يصطدم فضولنا بحائطٍ عملاق، أو نتوقف في نهاية طريقٍ مسدود، وأحيانًا يُحكم علينا بالتيه في متاهةٍ تستغرق منا سنواتٍ وسنوات ندور فيها حول أنفسنا. لكنها، من حين لآخر، تدرك يقينًا كونها أول شخص يحدق في أفق مليء باحتمالات لا تعد ولا تحصى.

ويعد نظام CRISPR-Cas9 أحد أهم هذه الاكتشافات غير المتوقعة ذات الإمكانات الهائلة. فقد بدأت رحلة اكتشاف هذه التكنولوجيا الجديدة عندما شرعت الباحثة إيمانويل شاربنتييه (Emmanuelle Charpentier) من وحدة ماكس بلانك لعلوم مسببات الأمراض، بمعاونة زميلتها جينيفر داودنا (Jennifer Doudna) الباحثة بجامعة كاليفورنيا، بفحص الجهاز المناعي لأحد أنواع البكتيريا العقدية الهوائية إيجابية الجرام والمعروفة بـ(Streptococcus). وفي ذلك الوقت، كان أقصى طموحٍ لهما هو تطوير خطٍّ جديد من المضادات الحيوية، غير أن طريق العلم قادهم أخيرًا إلى حيث لم تتصور عقولهم النهمة لاكتشاف أداةٍ جزيئية تُمكِّن مستخدميها من الباحثين من إحداثِ شقوقٍ دقيقةٍ في المادة الجينية، مما يجعل عملية تحرير الشفرة الجينية (شفرة الحياة) عمليةً يسيرة للغاية وتتم على نحوٍ سلس.

شكل 1: يتمكن الباحثون باسخدام أداة التحرير الجيني من إجراء تعديلات على الحمض النووي لكافة الكائنات الحية.

أداةٌ فعالة ذات تأثيرٍ قوي

لقد استطاعت أداة التحرير الجينية تلك -وبعد مرور ثمان سنوات فقط على اكتشافها- إعادة تشكيل خريطة علوم الحياة. فقد مكنت كلًّا من علماء الكيمياء الحيوية والأحياء الخلوية من دراسة الوظائف المختلفة للجينات ودورها المحتمل في تطور المرض. أما في مجال استيلاد النباتات، فقد مَكَّنَت الباحثين من استيلاد نباتاتٍ ذات خصائصَ مُعيَّنةٍ ومُحدَّدة؛ مثل القدرة على تحمل الجفاف والتأقلم مع المناخ الدافئ. والجدير بالذكر هو مساهمة المُعدِّل الجيني في ابتكار علاجاتٍ جديدةٍ للسرطان، بالإضافة إلى استخدامه في الدراسات الأولية لمحاولة ابتكار علاجات للأمراض الوراثية.

ولا تقتصر الأمثلة التي توضح أهمية نظام المُعدِّل الجيني CRISPR-Cas9 على ما سبق ذكره، فالأمثلة على استخداماته لا حصر لها إلى جانب تلك التي تتضمن تطبيقات لا أخلاقية، لذلك، وجب تقنين استخدام هذه الأداة، شأنها شأن جميع التقنيات الفعالة الحديثة.

ولم تتخيل إيمانويل أو جينيفر أن لقائهما الأول عام 2011 في مقهى بورتريكو سيكون نقطةَ تحوّلٍ في تاريخهما ومسارهما العلميّ. ولأن شاربنتييه كانت صاحبة فكرة التعاون، فسنتشرف بتقديمها في البداية.

شغف شاربنتييه بالبكتيريا الممرضة

وصفها بعض الناس بأنها شغوفةٌ وشديدة اليقظة ومجتهدة. ووصفها بعضٌ آخر بشغفها الدائم لاكتشاف كل ما هو بعيد عن حيز التوقع. وتقتبس شاربنتييه عن لويس باستور قولها إن: «الفرصة تختار العقل الجدير بها». وقد أرشدتها طوال مسيرتها الرغبةُ في اكتشاف الجديد وميلها إلى الحرية والاستقلال. عاشت في خمس دولٍ مختلفة وتنقلت خلال سبع مدن مختلفة أيضًا، بما في ذلك فترة دراستها للدكتوراة في معهد باستور التي قضتها بباريس، بالإضافة للعمل لدى عشر مؤسسات مختلفة.

ورغم التغيير الغالب على  محيطها ومسيرتها المهنية، فهناك قاسمٌ مشترك بين جميع أبحاثها: البكتيريا الممرضة. لماذا هذه العدوانية؟ كيف تطور تلك الكائنات مقاومتها للمضادات الحيوية؟ وهل من الممكن إيجاد علاجات جديدة يمكن أن تحد من تقدمها؟

عندما بدأت إيمانويل شاربنتييه المشاركة بمجموعتها البحثية الخاصة في جامعة فيينا عام 2002، ركزت على واحدة من البكتيريا الأكبر ضررا للبشرية: المعروفة بـ(Streptococcus pyogenes)، التي تصيب كل عام ملايين الأشخاص، وغالبًا ما تكون المسبب الرئيسي في بعض الالتهابات سهلة العلاج مثل: التهاب اللوزتين (Tonsillitis) والقوباء/الحصف الجلدي الفقاعي (impetigo). ولكنها تتسبب أيضًا في أمراض مهلكة مثل تعفن الدم (sepsis) وتكسير الأنسجة الرخوة في الجسم، مما ألحق بها سمعة «آكلة لحوم البشر».

بدأت شاربنتييه بفحصٍ دقيقٍ للترتيب الجيني لهذه البكتيريا في محاولة لفهم (S. pyogene) بصورةٍ أفضل. وكان هذ القرار هو الخطوة الأولى على طريق نظام التحرير الجيني. ولكن قبل أن نمضي قدمًا في تتبع خطواتهما على هذا الطريق، يجدر بنا التعرف إلى جينيفر داودنا.

لأنه بينما كانت شاربنتييه غارقةً في زخم دراستها المفصلة حول S. pyogenes، سمعت دودنا -لأول مرة في حياتها- اختصارًا تظن أن له رنينًا قريبًا من كريسبر.

العلم يحوي الكثير من التشويق والمغامرة كما لو كان رواية بوليسية

تنامت لدى جينيفر رغبة قوية في استكشاف الأشياء منذ أن كانت طفلة تسكن في هاواي. حيث وضع والدها ذات يوم على سريرها كتاب الحمض المزدوج (The Double Helix) لجيمس واتسون، وكانت محاولات جيمس واتسون وفرانسيس كريك لاكتشاف بنية جزيء الحمض النووي لا تشبه أي شيء قرأته من قبل، حتى في كتبها المدرسية؛ كانت بمثابة قصة بوليسية لاثنين من المحققين. ومنذ ذاك الحين، وقد خلب العلم لُبَّ تلك الصغيرة وأدركت أنه أكثر من مجرد حقائق مصاغة بإحكام.

ورغم ذلك، فلم يشمل اهتمامها الحمض النووي DNA، ولكن اهتمت بالحمض النووي الريبوزي RNA عوضًا عنه. وفي عام 2006 -عندما قابلناها- كانت تقود مجموعةً بحثية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، ولديها خبرة عقدين في مجال الـRNA، حيث تشتهر جينيفر بسمعتها الطيبة كباحثة ناجحة ذات قدرة عالية على ريادة المشاريع العلمية المهمة، وقد دخلت مؤخرًا مجالًا جديدًا مثيرًا للاهتمام: وهو تداخل الحمض النووي الريبوزي.

اعتقد الباحثون لسنوات عديدة أنهم فهموا الوظيفة الأساسية للحمض النووي الريبوزي، لكنهم اكتشفوا فجأة الكثير من جزيئات الـRNA الصغيرة التي تساعد في تنظيم نشاط الجينات داخل الخلايا. وعمل جينيفر داودنا على دراسة تداخل الحمض النووي الريبوزي هو السبب في تلقيها مكالمةً هاتفية عام  2006 من زميلٍ آخر من قسم مختلف. 

النظام المناعيّ العتيق للبكتيريا

ساق أخبار الاكتشاف  لداودنا زميلها  الباحث في الميكروبيولوجي، وتناول الخبر الكشف عن سلاسل مكررة من الحمض النووي DNA تم حفظها بشكل مثيرر للاهتمام، وتوصل الباحثون لهذا الاكتشاف عبر مقارنة المادة الوراثية لأنواع مختلفة من البكتيريا والعتائق (Archaea) أو ما تُسمى بالبكتيريا العتيقة (شكل 2)، وقد لاحظوا  من خلال تلك المقارنة وجود بعض السلاسل  تتميز باختلافها وكأنها كلمة بليغة ملفتة للنظر في عبارة مميزة من كتابٍ ما.

تلك المجموعة من السلاسل المتكررة سُميت بالتكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد (clustered regularly interspaced short palindromic repeats) ويتم الإشارة إليها اختصارًا باسم (CRISPR). 

المدهش في أمر تلك المتتابعات أنها تشبه الشفرة الوراثية لبعض الفيروسات، مما  جعل من افتراض قدرة  البكتيريا والعتائق على الاحتفاظ بنسخة من الشفرة الوراثية للفيروس المعتدي في ذاكرتها الجينية افتراض معقول للغاية، وكأنه بمثابة نظام مناعي عتيق يحصن البكتيريا والعتائق ضد  الفيروسات.

ولم يتوصل أحد للآلية الدقيقة التي يتم بها كل ذلك غير أن دراسة داودنا لتداخل الـ RNA قد جعلت الأصابع تشير إليها باعتبار خبرتها في هذا المجال قد تكون بمثابة المفتاح الصحيح لحل هذا اللغز المحير.

داودنا  تضع آلية معقدة لحل اللغز المحير

أثارت تلك الأنباء اهتمام الباحثين في المجال، إنه لأمرٌ مدهش أن تمتلك البكتيريا نظام مناعي عتيق. تَولَّد لدى جينيفر داودنا شعور بالتحدي فهمت بتعلم  كل ما يمكنها تحصيله عن نظام كريسبر، واتضح أنه بالإضافة الى متتابعات كريسبر توجد جينات خاصة مرافقة لكريسبر أو يرمز إليها اختصارًا بـ «cas». وما أثار انتباه داودنا حقًا هو التشابه بين تلك الجينات والجينات التي تمثل الشفرة الوراثية لبروتينات معروفة متخصصة في فك التحلزن وقطص تتابعات الحمض النووي، فدار السؤال حول ما إذا كانت تلك البروتينات هي المسئولة عن تكسير الحمض النووي الفيروسي أم لا؟

عكفت دودنا وفريقها البحثي على وضع إجابة لهذا السؤال، وبعد أيام قليلة نجح الفريق في الكشف عن وظيفة عدد كبير من بروتينات «cas». وتزامن هذا الكشف مع كشوفات علمية أخرى توصلت إليها مجموعات بحثية من مختلف الجامعات حول العالم، تناولت دراسة نظام كريسبر حديث، ووضحوا أن النظام المناعي البكتيري له أشكال متعددة، حيث أن النوع الذي درسته داودنا ينتمي إلى الفئة (أ) والتي تتكون من آلية معقدة تتطلب الكثير من بروتينات «cas» التي تحصن تلك البكتيريا ضد الفيروسات، أما الفئة (ب) والتي تعتبر أبسط بشكل ملحوظ، لأنها تتطلب عدد أقل من البروتينات.

اكتشاف قطعة جديدة مجهولة في لغز كريسبر

انتقلت ايمانويل  شاربينتيه عام 2009 إلى  جامعة أوميو شمال السويد لتتولى منصبًا يفتح أمامها الكثير من الفرص البحثية الجديدة، وقد وفر لها الشتاء الطويل هناك  ما تحتاجه من الهدوء والسلام  اللازمان للعمل، وتعاونت مع باحثين ببرلين لمواصلة الدراسة لجزيئات  RNA الصغيرة المنظمة للجينات والتي استحزذت على اهتمامها في تلك الفترة، توصلت بمعاونة زملاؤها ببرلين إلى تكوين العديد من جزيئات RNA في البكتيريا العقدية المقيحة (S. pyogenes).  استحقت نتائج تلك الدراسات التأمل، نظرًا لعدم اكتشاف الكثير من تلك الجزيئات الصغيرة  التي تبين تواجدها بكميات كبيرة إضافة إلى تميزها بشفرة وراثية مشابهة إلى حد التطابق مع تسلسل مميز موجود في كريسبر الجينوم البكتيري. واتضح ببعض التحليل أن جزيئات الRNA الصغيرة غير المعروفة تطابق جزءا متكررًا في نظام كريسبر، وكان هذا الاكتشاف بمثابة ترتيب معطيات أحجية ما ليبرز الحل جليًا مع اكتمال الصورة (شكل 2).

بادرت مجموعة شاربينتيه إلى العمل على كشف نظام كريسبر الموجود في البكتيريا العقدية المقيحة والذي ينتمي إلى الفئة (ب) حيث يحتاج إلى بروتين واحد Cas9 لتكسير الحمض النووي الفيروسي، أما بالنسبة لجزيء الRNA المسمى بالRNA المحفز لكيسبر (trancrRNA) فقد اتضح أن له وظيفة محددة، نظرًا لضرورة التحور  الذي يلزم جزيء RNA الناتج من تسلسل كريسبر ليصبح في وضع نشط (شكل 2).

شكل 2

نشرت ايمانويل شاربنتييه نتائج تجاربها  المكثفة والناجحة المتعلقة باكتشاف الRNA المحفز شهر مارس من عام 2011. وصرحت بيقينها من أنها على مشارف التوصل لاكتشاف مثير للغاية. وحفز لديها الرغبة في التعاون مع جنيفير داودنا الباحثة المميزة في مجال الكيمياء الحيوية، تمتعها بسنوات عديدة من الخبرة في مجال علم الأحياء المجهرية ومثابرتها على دراسة  نظام كريسبر،  وقد كان خيارًا حتمي وموفق للغاية. وكان هذا سبب عزمها على الالتقاء بباحثة بيركلي الموهوبة في الربيع، وانتهاز فرصة دعوتها لحضور مؤتمر في بويرتو ريكو من أجل مناقشة  النتائج التي توصلت أخيرًا.

لقاء مقهى بورتريكو التاريخي

وبالصدفة حدث اللقاء  في مقهى بورتريكو ثاني أيام المؤتمر حيث شرع زميل لداودنا  بتقديمهما لبعضهما البعض. وفي اليوم التالي، اقترحت شاربنتييه التجول في المدينة لاستكشاف ارجائعها وعالمها الأثرية معًا. وبينما تتنزهان على طول الشوارع المرصوفة بالحصى، بدأ الحديث حول أبحاثهما، وتساءلت شاربنتييه حيال رغبة داودنا  في التعاون.

قبلت جنيفر داودنا بكل سرور، ووضعت خططًا للمشروع بمعاونة زملاؤها في الفريق البحثي عبر اجتماعات عن بعد، وتسائلوا حول ما إذا كان  هناك حاجة لـ CRISPR-RNA للتعرف على DNA للفيروس، وإذا كان Cas9 هو البروتين الفعال الذي بامكانه العمل بمثابة مقص للحمض النووي، رغم عدم حدوث أي تغيير عند تطبيق ذلك في المختبر حيث ظل جزيء DNA سليمًا؟ لماذا يفشل هذا بصورة مستمرة؟ هل هناك خطأ تم اغفاله في ظروف التجربة؟ أم أن لـ Cas9 وظيفة مختلفة تمامًا؟

أضافت الباحثتان tracrRNA  لتجاربهما بعد العديد من التجارب الفاشلة والعصف الذهني المرهق. وساد الاعتقاد طوال الوقت بأن وظيفة tracrRNA  ضرورية فقط عند قطع CRISPR-RNA لتحويله للوضع النشط (شكل 2)، ولكن بمجرد اقتراب Cas9 من tracrRNA؛ حدث ما كان الجميع بانتظاره: لقد تم تم قص جزيء الحمض النووي DNA إلى شطرين.

وعادة ما يقف الباحثين فاغرين أفواههم أمام الحلول الثورية لتجاربهم، لكن ما حدث كان شيئا يفوق كل اندهاش أو ذهول. لقد كان السلاح الرادع للفيروسات  الذي ساهمت بكتيريا streptococci  في تطويره بسيط وفعال بل وشديد الذكاء على نحو مدهش.

وقد كان من الممكن أن تنتهي قصة أداة التحرير الجينيّ عند هذا الحد لولا اكتشاف شاربنتييه وداودنا  لتلك الآلية الدقيقة  في أحد أكثر أنوع البكتيريا فتكًا بالبشر ومسببا لمعاناتهم. ويعد هذا الاكتشاف مذهلاً بذاته، غير أن الفرصة دائمًا  تبحث عن عقول جديرة بها.

تجربة تغير مجرى التاريخ

قرر الباحثون في محاولة لتبسيط المقص الجيني استخدام تلك المعرفة الجديدة المتعلقة بـ tracr-RNA وCRISPR-RNA، فقد بحثوا إمكانية دمجهما في جزيء واحد، وهو ما تم تسميته RNA المرشد، وباستخدام هذا الشكل البسيط من المقص الجيني، تم القيمام بتجربة أحدثت طفرة جديدة في هذا المجال: حيث درسوا إمكانية التحكم  في هذه الأداة الجينية بحيث تقص الحمض النووي في مواضع معينة يقررها الباحثون.

وخلال هذا الوقت كانوا على يقين من أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق إنجاز علمي لم يسبق له مثيل. وتم العمل على جين قد سبقه حفظه خاملًا في مختبر داودنا وحددوا خمسة مواضع مختلفة لتكون هدفًا لمقصهم الجيني. ومن ثم يتم تغيير جزء كريسبر في المقص بحيث تتوافق شفرته مع شفرة المواضع المستهدفة، ونحت المحاولة نجاحًا ساحقًاحيث تم قص الحمض النوويفي المواضع  المحددة تمامًا (شكل 3).

شكل 3

المقص الجيني يحدث ثورة في علوم الحياة

بعد فترة وجيزة من نشر إيمانويل شاربنتييه وجينيفر داودنا اكتشافهما للمقص الجيني كريسبر-كاس9  عام 2012، أثبتت عدة مجموعات بحثية إمكانية استخدام هذه الأداة لتعديل الجينوم في خلايا كلٍّ من الفئران والبشر، مما يُبشِّر بتطورٍ هائلٍ في مجال علوم الحياة. ففي السابق، كان تغيير الجينات في أي خلية، أو نبات، أو كائن حي، يستغرق وقتًا طويلًا، وربما كان مستحيلًا. لكن باستخدام المقص الجيني، أصبح باستطاعة الباحثين -نظريًا- الاقتطاع من أيِّ جينوم يريدونه. ومن السهل -بعد ذلك- استخدام الأنظمة الطبيعية للخلية لإصلاح الحمض النووي DNA، من أجل إعادة كتابة كود الحياة.

نظرًا لسهولة استخدام أداة الجينات هذه، أصبحت منتشرةً الآن على نطاقٍ واسعٍ في الأبحاث الأساسية. حيث تُستخدم لتغيير الحمض النووي للخلايا وحيوانات التجارب، بغرض فهم كيفية عمل الجينات المختلفة وتفاعلها، كما هو الحال أثناء تتبع مسار مرضٍ معين.

تطبيقاته في مجال الزراعة

أصبح المقص الجيني أيضًا أداةً أساسية في مجال تحسين نوع النبات. غالبًا ما كانت تتطلب الأساليب التي استخدمها الباحثون سابقًا لتعديل جينومات النبات إضافة جينات لمقاومة المضادات الحيوية. وعند زراعة هذه المحاصيل، كان هناك تخوفٌ من انتقال هذه المقاومة للمضادات الحيوية إلى الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في الوسط المحيط. وبفضل المقص الجيني، لم يعد الباحثون بحاجة إلى استخدام هذه الأساليب القديمة، حيث يمكنهم الآن إجراء تغييرات دقيقة للغاية على الجينوم. ومن بين الإسهامات الأخرى، استطاع الباحثون تعديل الجينات المتسببة في جعل الأرز يمتص المعادن الثقيلة من التربة، مما يساهم في تطوير أصناف من الأرز تحتوي على مستويات أقل من الكادميوم والزرنيخ. كما طور الباحثون أيضًا محاصيل تتحمل الجفاف في المناطق الأكثر دفئًا بشكلٍ أفضل من الوقت السابق، كما يمكنها مقاومة الحشرات والآفات التي كان يتم التعامل معها يتم بواسطة المبيدات الحشرية.

الأمل  يُبعث من جديد

 يساهم المقص الجيني في علاجات مناعية جديدة لمرض السرطان مجال الطب، وتُجرى التجارب في الوقت الحالي لجعل الحلم حقيقة، بالتوصل إلى علاجٍ للأمراض الوراثية. 

يجري الباحثون بالفعل تجارب إكلينيكية للتحقق مما إذا كان بمقدورهم استخدام تقنية كريسبر/كاس9 لعلاج أمراض الدم، مثل فقر (الدم المِنْجَلِيّ Sickle Cell Anaemia) و(الثَّلاسيمِيَّةُ بيتا Beta Thalassemia)، بالإضافة إلى أمراض العيون الوراثية.

كما أنهم يطورون طرقًا لإصلاح الجينات في أعضاء الجسم الكبيرة، مثل المخ والعضلات. حيث أظهرت التجارب على الحيوانات أن الفيروسات التي تُخلَّق خصيصًا يمكنها نقل المقص الجيني إلى الخلايا المرغوب فيها، وعلاج نماذج من الأمراض الوراثية المدمرة مثل ضمور العضلات، وضمور العضلات الشوكي، ومرض هانتينجتون. إلا أن هذه التقنية تحتاج إلى مزيد من التحسين قبل اختبارها على البشر.

لماذا يجب تقنين استخدام هذه التقنية؟

إلى جانب كل فوائدها، يمكن أيضًا إساءة استخدام المقص الجيني. مثل استخدام هذه الأداة لإنتاج أجنة معدلة وراثيًا. 

منذ سنوات عديدة، توجد قوانين ولوائح تحكم عملية تطبيق الهندسة الوراثية. تتضمن هذه القوانين حظرًا على تعديل الجينوم البشري بطريقة تسمح بتوريث التغيرات. كما يجب أيضًا مراجعة التجارب التي تتضمن البشر والحيوانات بشكل دائم، والموافقة عليها من قبل اللجان الأخلاقية قبل تنفيذها.

إذا كان هناك شيءٌ واحد مؤكد، فهو أن هذه المقصات الجينية تؤثر علينا جميعًا. وسوف نواجه مشاكل أخلاقية جديدة بخصوصها، لكن هذه الأداة الجديدة يمكن أن تساهم أيضًا بشكل جيد في إيجاد حلول للعديد من التحديات التي تواجه البشرية هذه الأيام. فعن طريق هذا الاكتشاف، طورت كلٌّ من إيمانويل شاربنتييه وجينيفر داودنا نظامًا وأداةً كيميائية نقلت علوم الحياة إلى حقبة جديدة، وجعلتنا نتطلع إلى أفقٍ شاسع من الاحتمالات التي لا يمكن تخيلها. مما يضمن لنا تحقيق اكتشافات جديدة غير متوقعة في طريقنا لاستكشاف هذه الأرض الجديدة.

 

إعداد وترجمة: ريهام عطيةخالدر رحومةياسمين نور

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي