تحت عنوان «هل تساعد التجارب الطبيعيّة في الإجابة على استفهامات تهم للمجتمع؟» وضّحت اللجنة العملية المسؤولة عن منح جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية 2021 أسباب منح هذه الجائزة لهذا العام 2021. إذ قررت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم منح جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية 2021 مناصفة إلى كل من ديفيد كارد (David Card) من جامعة كاليفورنيا – بيركلي -الولايات المتحدة الأمريكية لمساهماته التجريبية في «اقتصاديات العمل» مع كل من جوشوا دي انجريس (Joshua D. Angrist) من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا – كامبريدج – الولايات المتحدة الأمريكية وجيدو دبليو إمبينز (Guido W. Imbens) من جامعة ستانفورد – الولايات المتحدة الأمريكية – لمساهماتهم في وضع «منهجية في تحليل العلاقات السببيّة»، الأمر الذي اعتبرته إنجازاً اقتصاديّا ًمتميزاً جعلهم أهلاً للاستحقاق هذه الجائزة. فما هي التجارب الطبيعيّة التي استخدمها هؤلاء المتميزين؟ وكيف استخدموها لخدمة علم الاقتصاد والبشريّة في نفس الوقت؟
تعتبر رؤى الاقتصاديّة الجديدة لتفسير ما يحدث في سوق العمل أبرز الانجازات التي قدمها لنا الفائزون بجائزة نوبل في العلوم الاقتصاديّة هذا العام ، حيث تركزت دراسات كل من ديفيد كارد وجوشوا أنجريست وجويدو إمبينز حول وضع الاستنتاجات العلميّة التي تربط بين السبب والنتيجة واقع تجارب عمليّة استخدمت فيه مناهج جديدة تتشابه مع تلك التي يتم استخدامها في العلوم الطبيعيّة كالطب والفيزياء، فسرت ظواهر اقتصاديّة عملياً ويمكن أن يمتد استخدام هذا النهج التجريبيّ إلى مجالات علميّة أخرى، يمكن وصف هذا النهج التجريبيّ على أنه نهج ثوريّ قد أحدث فعلاً «ثورة في البحث التجريبيّ».
ويعتبر ديفيد كارد من مواليد عام 1956 في مدينة جيلف في كندا حاصل على شهادة الدكتوراه عام 1983 من جامعة برينستون في الولايات المتحدة الأمريكية. يعمل أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولديه العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة
أمّا جوشوا دي أنجريست من مواليد عام 1960 في كولومبوس ولاية أوهايو، الولايات المتحدة الأمريكية. حاصل على شهادة عام 1989 من جامعة برينستون في الولايات المتحدة الأمريكية. يحمل لقب أستاذ فورد للاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج في الولايات المتحدة الأمريكية.
بينما جويدو إمبينز من مواليد 1963 في أيندهوفن في هولندا، حاصل على شهادة دكتوراه عام1991 من جامعة براون في بروفيدنس في الولايات المتحدة الأمريكية. يعمل وأستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأمريكية ومتخصص في الاقتصاد القياسي التطبيقي.
أما فيما يتعلق بإنجازاتهم فكانت تقوم على فكرة استخدام التجارب العمليّة في تحليل وتفسير الظواهر الاقتصاديّة، فكما يعلم الجميع تعتمد جميع العلوم الاجتماعية ومنها علم الاقتصاد تقوم على فكرة التعامل مع فكرة «السبب -النتيجة» عند الإجابة على أسئلة البحثيّة المهمة التي تُفسر قضايا محوريّة تهتم المجتمع. فهناك أسئلة يَصعُب الإجابة عليها نظريّاً وتحتاج إلى مختبرات تُفسرها بدقة، فكرة هذه المختبرات لم تكن لتتواجد لولا اسهامات هؤلاء الاقتصاديين الأفذاذ، فسؤال «كيف تؤثر الهجرة على الأجور ومستويات التوظيف؟» و «كيف يؤثر التعليم الأطول على الدخل المستقبلي لشخص ما؟» يصعب الإجابة عليهما لأنها أسئلة كبيرة وتشمل العديد من المتغيرات التي يَصعُب حصرها أو مقارنتها أو اخضاعهما إلى شروط معمليّة محددة؛ وقد لا نعرف ما الذي كان سيحدث تماماً لو انخفض معدل الهجرة وعلاقته فيما إذا كان هذا الشخص لم يواصل الدراسة، بمعنى آخر أن عملية الربط بين هذه المتغيرات كانت صعبة.
ولكن مع قدرة هؤلاء الفائزون لهذا العام على الإجابة على مِثل هذه الأسئلة، بالإضافة إلى قدرتهم على الإجابة على أسئلة مماثلة باستخدام التجارب العمليّة في مختبرات صُممت لهذا الغرض، أصبح انجازهم متميزاً عن غيرهم من الاقتصاديين جعلهم جدارين بالفور بالجائزة. حيث أنهم قدموا «المفتاح» لحل هذه المشاكل، عن استخدام المواقف تجريبيّة تحاكي الواقع مع الأخذ بعين الاعتبار عومل أخرى قد تؤثر في المتغيرات، كأثر حدوث الصدفة أو حدوث تغييرات السياسة من شأنها تغير النتائج، بجانب أثر تصرفات الأشخاص المختلفة عند تفسير متغيرات سوق العمل عملياً، بطريقة تشبه التجارب السريريّة التي تستخدم في الطب.
فقد قام ديفيد كارد باستخدام التجارب العمليّة في حلل تأثيرات سوق العمل بناءً على متغيرات الحد الأدنى للأجور ومعدلات الهجرة ومستوى التعليم، بدأ بدراساته باستخدام هذا الاسلوب منذ أوائل التسعينيات وتوصل إلى تحليلات جديدة قدمت رؤى جديدة عن سوق العمل. كما وأظهرت النتائج التي توصل إليها إلى أن زيادة الحد الأدنى للأجور قد لا تؤدي بالضرورة إلى تخفيض عدد الوظائف. كما أنه فسر مدى تأثر سوق العمل بالمهاجرين، على اعتبار أن المهاجرين الجدد هم من سيستفيد من الإمكانيات التي تعطيها الدول لهم في التعليم مما يجعلهم أكثر قدرة على دخول سوق العمل من المهاجريين القدماء، ومن هنا قام بربط سوق العمل بالهجرة والتعليم، وتوصّل إلى الموارد المتاحة في المدارس أكثر أهمية لنجاح الطلاب في سوق العمل في المستقبل مما كان يُعتقد في السابق.
وللتأكيد على هذه النتائج، في ظل صعوبة تفسير البيانات لعدم وجود تجارب عمليّة، تمكّن جوشوا انجريس وجيدو إمبينز من تفسيرها عن طريق استخدام منهجيّة جديدة هي منهجية «السبب والنتيجة» باستخدام التجارب العمليّة أيضاً، فعلى سبيل المثال على فرض وجود سؤال يتمحور حول فكرة عدم وجود علاقة بين تمديد التعليم الإلزامي لمدة عام لمجموعة واحدة من الطلاب على كل فرد في تلك المجموعة وإعطاء نتيجة دقيقة لها كانت أمراً مستحيلاً قبل تطبيق منهجيتهما في تحليل العلاقات السببيّة. وكانت هناك احتماليّة لأن يُواصل بعض الطلاب الدراسة على أي حال، ولكنها نتيجة لا تمثل قيمة التعليم لدى المجموعة بأكملها. لذلك لم يكن من الممكن استخلاص أي استنتاجات عن مدى تأثير سنة إضافية في المدرسة؟ ولكن المنهجيّة التي تم وضعها حلت هذه المشكلة وأصبح هناك إمكانيات لاستخلاص استنتاجات دقيقة عنها ومن مشاكل أخرى مشابهة.
كما أظهرت دراسات والأبحاث العمليّة التي قدمها الفائزون أن هذه المنهجيّة من التجارب العمليّة هي أيضاً مصدر غني للمعرفة، كما وحسّنت أبحاثهم بشكل كبير من قدرات الاقتصادييّن وغيرهم من الباحثين على الإجابة على الأسئلة السببيّة الرئيسية، والتي كانت ذات فائدة عظيمة للمجتمع على حد قول بيتر فريدريكسون، رئيس لجنة جائزة العلوم الاقتصادية.