جوتفريد فلهلم ليبنتز وفلسفته

جوتفريد فلهلم ليبنتز وفلسفته

حياة جوتفريد فلهلم ليبنتز

ولد جوتفريد فلهلم ليبنتز في 3 يوليو من عام 1646م من أسرة اشتهر الكثير من أفرادها بالميول العقلية لاسيما في ميدان القانون، وقد توفى أبوه وهو في السادسة من عمره، وحرصت أمه على أنْ تنشئه تنشئة بروتستانتية، وعُرف عن ليبتنز في صباه بأنه طفلاً معجزة؛ حيث سرعان ما فاق كل زملائه في مدرسة نيكولاي، وعندما التحق بالجامعة لم يكن قد بلغ بعد الخامسة عشرة من عمره، وتأثر في سنيّ الجامعة بـ “ياكوب تومازيوس” وهو أستاذ كانت له اتجاهات مدرسية واضحة، وعلى يديه ألف أول بحث له فنال به درجة البكالوريوس في موضوع كانت له أهمية كبرى في فلسفته، ألا وهو مبدأ الفردية. وقبل انتهاء دراسة ليبتنز الفلسفية تحول إلى دراسة القانون، وأخذ في الوقت ذاته يدرس الرياضيات، فألف في عام 1666م كتاب “الفن الجامع”، ولفت هذا الكتاب أنظار بعض الأوساط العلمية خارج مدينته إليه، وحينما تقدم إلى جامعة “آلتدورف” للحصول على درجة الدكتوراه في القانون في نفس العام وهو 1666م، كان بحثه ممتازًا لدرجة أنه تلقى وهو في هذه السن المبكرة عرضًا للأستاذية في نفس الجامعة، لكنه رفض العرض وقال بأن “لديه أشياء أخرى في باله”، وغالبًا كان من الأشياء التي في باله أثناء هذه الفترة هو الاهتمام بالسياسة، فقد كان الجانب السياسي من نشاط لبيتنز على قدر عظيم من الأهمية رغم غموض الكثير من المهام السياسية التي كان يضطلع بها، لدرجة جعلت كثيرين من الناس- لاسيما سبينوزا- يرتابون في نواياه ومقاصده الحقيقية، ولقد كان نشاط ليبتنز السياسي الغامض هذا سبب حفظ أوراقه العديدة تحت اسم سجلات سرية، وهو ما جعل عددًا من الأحزاب والفرق السياسية تشعر بالقلق بعد موته خوفًا من أنْ يكون قد ترك بين أوراقه وسجلاته أسرارًا سياسية هامة، فدفعوا مبلغًا ضئيلاً من المال لورثته ليتنازلوا عن حقوقهم فيها، وظلت هذه الأوراق مودعة في مكتبة هانوفر حتى عصرنا هذا. ولقد كانت السمة الرئيسية في نشاط ليبنتز السياسي هي نمو وعيه الأوروبي إلى أبعد مدى ممكن، فكان يعتبر نفسه “مواطنًا أوروبيًا” بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وربما هذه السمة هي ما جعلت تفكير ليبنتز السياسي يتضمن سمات رجعية واستعمارية واضحة جلية، وتمثلت رجعيته السياسية ونعرته الاستعمارية في “خطته المصرية” المشهورة، فوضع ليبنتز هذه الخطة وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وكان يهدف منها إيجاد وسيلة لصرف أنظار لويس الرابع عشر- ملك فرنسا- عن أوروبا وتحويل طاقته الحربية إلى مكان بعيد عن أوروبا، وبذل يعود توازن القوى من جديد إلى القارة الاوروبية. وضع ليبنتز خطته على أساس أنْ توجه أسلحة لويس الرابع عشر ضد الإمبراطورية العثمانية عن طريق غزو بلد عظيم الأهمية مثل مصر، فكتب مذكرة سياسية مفصلة موجهة إلى الملك، وقدم فيها عرضا تفصيليًا وتاريخيًا لجميع الحملات التي شُنت على مصر من قبل، وتحدث فيها عن مركز مصر الاقتصادي وموقعها الجغرافي، وأوضح فيها مدى سهولة غزوها والفائدة العظمى التي ستجنيها فرنسا جراء هذا الغزو، وهي السيادة البحرية والاقتصادية على البحر المتوسط ، غير أنّ الخطة لم تصل إلى مسامع الملك في بادئ الأمر، ولكن ليبنتز بذل مساعي عديدة لتنفيذ الخطة، وحينما أتاه الرد بقبول الملك لسماع الخطة منه، كانت الحرب ضد هولندا قد بدأت بالفعل، إلى أنْ جاء نابليون بونابرت واحتل هانوفر وعرف بأمر الخطة فنفذها باحتلال مصر مع قدوم الحملة الفرنسية إليها.

كان ميل ليبنتز النادر إلى المطالعة والبحث في كل أنواع المعارف أيًا كان نوعها هو ما أدى إلى اتساع نطاق معارفه إلى حد مذهل أحاط شخصيته أثناء حياته وبعد مماته بهالة أسطورية، تمثل فيها مفكرًا وعالمًا تتحدى عبقريته كل التصنيفات والتقسيمات الشائعة، وربما كان ليبنتز هو آخر ممثل تلك الفئة “الموسوعية” من المفكرين في عصره، فقد كان عهد التخصص قد بدأ واتسعت المعارف البشرية إلى حد أنْ أصبح من المحتم على الباحث أنْ يختار ما بين الفلسفة والعلم أو الأدب أو القانون والسياسة، غير أنّ ليبنتز كان قد اشتغل بالعلوم كلها معًا، وكانت له فيها كلها تقريبًا مساهمات وكشوف بارعة، وكانت الدهشة تتمثل في ظهور مثل هذه العقلية الموسوعية في هذا التوقيت الذي مال إلى التخصص العلمي. ففي أيام اليونان كان ذلك أمرًا عاديًا في شخص أرسطو أو حتى خلال عصر النهضة في شخص ليوناردو دافينشي، أما ظهورها في النصف الثاني من القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر فهو أمر يقارب حد الإعجاز لدرجة جعلت من “فونتينيل” يقول يوم تأبينه: «لقد أنتج العصر القديم من عدة هرقلات، هرقلاً واحدًا، وسنخرج من ليبنتز وحده عدة علماء». فليبنتز نافس في مجال الفلسفة أقطاب المدرسة الديكارتية، ونافس في مجال الرياضة نيوتن بصياغته حساب التفاضل والتكامل، ووضع النظريات القانونية، وله من الآراء السياسية والدبلوماسية مما جعل له دورًا أساسيًا في تشكيل سياسة عصره، وكذلك انشغل بالعلم الطبيعي، فكان كيميائيًا ومهندسًا وعالمًا بالجيولوجيا، وكتب شعرًا لاتينيا حاز على إعجاب معاصريه، وألف في التاريخ مرجعًا عظيم القيمة لعائلة برنشفيك، ولاهوتيًا مُخططًا لوحدة الكنائس، وأنشأ وسعى إلى إنشاء جمعيات وأكاديميات علمية في مختلف المدن.

كانت النظرة السائدة عند معظم مؤرخي الفلسفة الذين تناولوا فلسفته بالدراسة والنقد حتى أواخر القرن التاسع عشر هي أنّ فلسفته يغلب عليها الطابع الرياضي؛ فحكموا عليه بأنه عالم رياضي أكثر منه فيلسوفًا، غير أنّ في القرن العشرين قد تغيرت هذه الفكرة تمامًا، وذلك بفضل ما نشره “لويس كوتوراه” من مخطوطات لم يسبق نشرها من قبل، وبفضل ما أوضحه “برتراند راسل” من آراء حوله وذلك في كتابه “عرض نقدي لفلسفة ليبنتز”، فأصبح الرأي السائد في النصف الأول من القرن العشرين هو أنه فيلسوفًا أكثر منه رياضيًا، حيث اختلف مؤرخو ليبنتز بعد ذلك، ففريق يرى أنه ميتافيزيقيًا يقوم مذهبه على أسس ميتافيزيقية خالصة كفكرة الجوهر أو الوحدة العنصرية البسيطة “الموناد”، في حين يعتقد آخرون أنّ فلسفة ليبنتز يغلب عليها الطابع المنطقي الذي يصوغ مذهبه في قضايا موضوعها يتضمن محمولاته، هذا وقد اعتمد الفريقان على مؤلفات ليبنتز.

في عام 1903م تم اكتشاف خمسة عشر ألف نص مخطوط لليبنتز في هانوفر، ومنذ ذلك الحين وقع في نفوس الباحثين حول فلسفة ليبنتز ثراء وعمق هذا الفيلسوف، وفهموا مدى صحة مقولته: «من لا يعرفني إلا بأعمالي المنشورة لا يعرفني معرفة كافية». فلم يكن من عادة ليبنتز أنْ يتلف أوراقه؛ بل كان يحتفظ بكل ما يكتب، ويتحدث “هاينكامب” عن رصيد ليبنتز في هانوفر فيقول: «إنّ مجموع كتابات ليبنتز مكون من 50000 جزء ما بين رسائل مرسلة مراسلين، وكتب نشرت بالفعل أو كانت معدة للنشر، فما نشره ليبنتز لا يتعدى 15بالمائة فقط من كتاباته ومدونات شخصية وغير ذلك».

أعمال جوتفريد فلهلم ليبنتز

1. خطابات إلى فوشيه.

التي نشرت ضمن مجموعة من كتابات ليبنتز الفلسفية فيما بين عامي 1676-1695، والتي يعرض فيها وجهة نظره في إثبات الحقائق الموجودة خارج النفس، وتحديد موقفه من ديكارت، ومن ثم رأيه في الامتداد وقوانين الحركة وعلاقة الروح بالجسد، الجوهر، المادة، الله.

2. خطابات إلى فونتينيل.

ويعرض فيها أبحاثه العلمية الخاصة بالفلك والهندسة والحركة واللامتناهي.

3. مقال في الميتافيزيقا.

يتضمن آراءه المنطقية، والميتافيزيقية، والفيزيقية، والأخلاقية، كما يتضمن بعض مشكلات عصره، خاصة ما يتصل منها بالعالم الخارجي، ومبادئه الفلسفية، واللامتميزات “مبدأ التفرد”، والتناسق الأزلي.

4. خطابات إلى آرنولد.

تناول فيها موضوعات ميتافيزيقية ولاهوتية ترتبت على قوله أنّ الجوهر موضوع يتضمن محمولاته وما يتبع ذلك من تفسير لحرية الله وإرادته.

5. مذهب جديد في الطبيعة وارتباط الجواهر ووحدة الروح والجسد.

ويعرض فيه نظريته في الاتساق الأزلي بين الجواهر بوجه عام، وبين الروح والجسد بوجه خاص، وقد اعتاد ابتداء من بحثه هذا أنْ يطلق على نفسه اسم “مؤلف مذهب التناسق الأزلي”.

6. الأصل النهائي للأشياء.

بحث يثبت فيه وجود وحدة أولية حقيقية هي مصدر ما في هذا العالم من حقائق وموجودات.

7. أبحاث جديدة في الفهم البشري.

وهو من أهم كتب ليبنتز، ويعرض فيه مناقشته لنظرية جون لوك في المعرفة وفكرة الروح وأصل المعرفة وصلتها بالأفكار الفطرية.

8. الإلهيات.

تناول فيه مشكلة الشر وعلاقته بحرية وخيرية وقدرة الله.

9. مذهب الذرات الروحية “المونادولوجيا” … إلـــخ.

المونادات:

لم يكن هذا العنوان “المونادولوجيا” الذي اشتهر به كتابه من اختيار ليبنتز، فليس هذا هو العنوان الذي يتصدر صفحات الكتاب الأولى في مخطوطته الأصلية، فقد كان في الأصل عبارة عن مقالة قصيرة عرض فيها ليبنتز فلسفته في ملحق لرسالة بعث بها إلى أحد مراسليه الفرنسيين واسمه “ريمون”، ولقد أشار بعض شراح ليبنتز بهذه الحقيقة، ولاحظ ما في ذلك من غرابة إذ أنّ الكتاب الرئيسي الذي يتضمن مذهبًا ميتافيزيقيًا طموحًا لم يكن إلا تعبيريًا عارضًا قدمه ليبنتز إلى أحد مراسليه “ول ميكن” يقصد نشره من الأساس، كان المقال في الأساس يحمل اسم “مبادئ الفلسفة” وقد ظل هذا هو الاسم السائد طوال قرن من الزمان إلى أنْ جاء “كوهلر” وأعد طبعه كانت من أوائل الطبعات المهمة لليبنتز ووجد أنّ فكرة الذرة الروحية تحتل المكانة الرئيسية بين أفكار الكتاب، فوضع له في ترجمته الألمانية عنوانًا فرعيًا هو “المونادولوجيا”، ثم جاء “إردمان” في القرن التاسع عشر فجعل من هذا الاسم الفرعي عنوانًا رئيسيًا للكتاب في نشرته الفرنسية لمؤلفات ليبنتز، ومنذ ذلك الحين واشتهر الكتاب بهذا الاسم.

الأفكار الرئيسيَّة في المونادات:

يطلق ليبنتز على الجواهر أو مراكز القوة التي هي عنده الحقائق النهائية للكون اسم “المونادات” أو “الوحدات”، وهو مصطلح استخدمه برونو من قبل، والمونادات عند ليبنتز جواهر بسيطة بصورة مطلقة؛ لأنها لا تتكون من أجزاء ممتدة، ولا يمكن بالتالي تحليلها إلى أجزاء وهي بالتالي خالدة ولا تفنى «وقد خلق الموناد الأسمى- أي الله- المونادات الأخرى، ويمكن إذا أراد أنْ يفنيها».
افترض ليبنتز أنّ العالم بأسره يتكون من عدد هائل من الوحدات البسيطة التي سماها مونادات، هذه المونادات كما يقول هي الذرات الحقيقية للكون، وهي المكونات النهائية لكل شيء، وهي لا تملك شكلاً ولا حجمًا ولا قابلية للانقسام؛ ولذلك فهي بالضرورة أبدية خالدة، ونفس كل إنسان بمثابة مونادة واحدة، غير أنّ جسمه مجموعة من المونادات مختلفة الأنواع، وكل الجواهر من طبيعة القوة، وتتكون من مراكز منفردة من القوة التي يجب أنْ تكون مونادات. والقوة عند ليبنتز أسبق من تصور الحركة نفسه؛ إذ أنّ الحركة رغم مالها من أهمية في تفسير الظواهر، ينبغي أنْ ترد آخر الأمر إلى نوع من القوة أو النزوع.

تختلف المونادات بعضها عن بعض من الناحية الكيفية، وينتج عن ذلك مبدأ ليبنتز في “هوية اللامتميزات “، وهو يعني بذلك أنه ليس هناك ثمة جوهران متماثلان على الدقة، ولا حتى ورقتين من نفس الشجرة. بيد أنّ المونادات لا تختلف بعضها عن بعض من الناحية الكمية، وما نراه من اختلافات إنما يرجع إلى الاختلافات الذهنية التي نكونها عنها.

وعلى الرغم من أنّ المونادات توجد وفقًا لمبدأ الاستمرار في جميع الدرجات الممكنة، فأقل المونادات درجة هي المونادات الجرداء أو العارية، وهي مونادات العالم غير العضوي التي تكون مدركاتها غامضة وخالية من التذكر والاستدلال أو كما كتب ليبنتز من أنّ أدنى المونادات هي الحيوانات في نشوتها. بيد أنّ المونادات الأرقى لها إدراك حسي أوضح ووهبت الذاكرة، بالإضافة إلى الإدراك المجرد عبئ، في حين أنّ الموناد الأسمى على الإطلاق هو الله، وهو وحده من بين المونادات جميعًا موجود بذاته، وهو وحده روح خالصة، ولا يمتلك جسمًا مكونًا من مونادات أخرى، وهو حكيم بصورة مطلقة، وهو ليس مصدر كل ما هو موجود فحسب؛ بل مصدر كل ما هو ممكن أيضًا.

هذه المونادات ليس لها نوافذ على العالم الخارجي، ولا تسمح لأي شيء يدخل إليها أو يخرج منها؛ بحيث تحيا كل واحدة منها حياة منعزلة تمامًا، غير متأثرة بغيرها من المونادات، وكل تغير فيها محتوم ومحدد بحالتها الداخلية فقط، وهي لا يمكن أنْ توجد بغير أنْ يخلقها الله، ولا تنعدم بغير أنْ يفنيها الله، ومع ذلك فالله يحفظ كل المونادات في دراجاتها عبر سلسلة من المسارات المتوازية. وهذا هو:

– نظام التناسق الأزلي.

ووفق هذا النظام تتصرف الأجسام كما لو كانت النفوس غير موجودة، وتتصرف النفوس كما لو كانت الأجسام غير موجودة، والاثنان يتصرفان وكان أحدهما يؤثر في الآخر.

يشرح ليبنتز ذلك مقارنًا النفس والجسد أو (العقل والمادة) بساعتين تشيران إلى نفس الوقت، فهناك ثلاث وسائل يمكن عن طريقها ضبط ساعتين كي تشيرا إلى نفس الوقت.

الوسيلة الاولى:

أنْ نجعلهما على اتصال وثيق من الناحية الفيزيائية؛ بحيث تنقل كل منهما ذبذباتها إلى الأخرى، وبحيث تنقل وتتقدمان كوحدة واحدة، ومع ذلك فهذا الحل لابد من رفضه لأنه في اعتقاد ليبنتز لا يمكن تصور أنْ ينتقل شيء بين العقل والمادة.

الوسيلة الثانية:

أنْ يكون هناك صانع ساعات يواظب على التوفيق بينهما، وهو ما يرفضه ليبنتز أيضا لأنه يستدعي تدخلا مستمرا من إله يضبط الآلات من أجل (شيء طبيعي وعادي).

الوسيلة الثالثة:

هي أنْ تصمم الساعتان منذ بالبداية على درجة من الكمال تجعلهما متفقين في كل الأوقات، وهذه الوسيلة هي التناسق الأزلي؛ ففي البدء خلق الله المادة والعقل بطريقة معينة، بحيث يخضع كل منهما لقوانينه الخاصة، وفي نفس الوقت يسيران بتوافق كامل بينهما كما (لو كان الله يتدخل دائمًا لضبطهما)، ومعنى هذا أننا عدنا لنقطة البداية عند ديكارت والذي كان متعطشًا إلى تأكيد فكرة حرية الإرادة فقسم الكون إلى مكونين هما: العقل والمادة اللذين لا يتفاعلان معًا؟ ولتفسير ذلك اضطر ليبنتز أنْ يفترض أنّ كل منهما- العقل والمادة- ليست له حرية أكثر من الآلة؛ فالآلة التي تجبر على الحركة ليس أمامها سوى تنفيذ سلسلة من الحركات المقدرة لها سلفًا، وعليه صار كل عقل عند ليبنتز مجرد آلة.

– نظرية المعرفة.

من أين جاءت هذه المعلومات التي تملأ ذهن الإنسان؟

قلنا في مقال سابق أنّ ديكارت قد حسبها “فطرية”؛ فالعقل لم يولد وهذه الأفكار بداخله، غير أنه كان باستعداد لتحصيلها بمجرد اتصاله بالعالم الخارجي، فيقول ديكارت في هذا السياق “لقد سميتها فطرية بنفس المعنى الذي نقول به إنّ الكرم فطري في بعض العائلات، وإنّ بعض الأمراض كالنقرس فير غيرها، ولا يعني هذا أنّ أبناء تلك العائلات يعانون من تلك الأمراض في أرحام أمهاتهم، بل إنهم يولدون بميل أو استعداد للإصابة بها.”
أما جون لوك فيقول بأنّ كل معلوماتنا إنما جاءت عن طريق الحواس؛ فأثرت في صفحة الذهن التي برزت إلى هذا العالم نقية بيضاء لا تشوبها شائبة.
ثم جاء بعد ذلك “ليبيتنز” لينكر هذا، محتجًا بأنه إذا اتبعنا هذا المعنى فالأفكار كلها كامنة، ولكنها لا تبلغ مرحلة التفكير الفعلي إلا عندما تتطور بنمو المعرفة؛ فالعقل عند الولادة ليس ورقة بيضاء نقية، بل هو أقرب إلى أنْ يكون كتلة من خام الرخام موجود فيه بالفعل تركيب غير ظاهر من العروق، فهو الذي سيحكم الشكل الذي سيتخذه الرخام عندما ينحته المثال ويعطيه شكلاً. ويرى ليبنتز أنّ المعرفة تكون سابحة بادئ الأمر في اللاشعور، وتظل مهوشة غامضة حتى تدركها التجربة، ومعنى ذلك أنه وفق بين رأي ديكارت وجون لوك، فمن ناحية أنكر على جون لوك رأيه في انعدام الآراء الفطرية عنده، ثم أيد التجربة التي تؤدي إلى المعرفة التي تنفذ عن طريق الحواس، وأيد عند ديكارت الآراء الفطرية، أو بمعنى آخر هو أنّ هذه المعرفة كانت موجود بالقوة إلى أنْ أصبحت موجودة بالفعل.

الأدلة على وجود الله.

حجج ليبنتز على وجود الله أربع.

1. الحجة الأنطولوجية.

وتعتمد على التمييز بين الوجود والماهية أو هناك حقائق ممكنة وحقائق عارضة قد تقع أو لا تقع بالفعل، وبالتالي لابد أنْ يكون هناك أساس ضروري وفعلي يجعل تلك الحقائق ممكنات، وهذا الأساس الفعلي لا يمكن أنْ يكون داخل سلسلة الحقائق الممكنة والعرضية ذاتها؛ لأنها ليست بالضرورة موجودة بالفعل، غير أنه لا يمكن أنْ يكون شيئًا ممكنًا إلا إذا كان هناك أساس فعلي خارجي قادر على أنْ يجعله كذلك؛ ذلك لأنّ أي شيء لكي يكون ممكنًا فإنّ ذلك يعني امتلاكه القدرة تحت ظروف ما أو حالات ما لكي يصبح موجودًا فعليًا وإلا فأنه لن يكون موجودًا فعليًا، وبالتالي فإنّ فكرة وجود الله من حيث أنه موجود لا متناه ممكن؛ لأنه ليس هناك تناقض منطقي في فكرة الله تمنعها أنْ تكون ممكنة، وفكرة الله هي فكرة موجود ليس له حدود، ومن ثم ليس هناك شيء خارج هذه الفكرة يمنعها من الوجود بالفعل، وطالما أنه لا يوجد ما يمنع لا الوجود الممكن ولا الوجود لله من ناحية، ولما كان افتراض وجوده ضروريًا كأساس يفسر الحقائق الممكنة والعرضية من ناحية أخرى فإننا نستنتج وجود الله.

2. الحجج الكونية.

هي صورة لحجة العلة الأولى عند أرسطو، ويمكن صياغتها على النحو التالي: لابد من وجود علّة كافية لكل مسألة من مسائل الوقائع الجزئية.

3. دليل الانسجام.

وهو المقدر سلفًا في مثال الساعتين، ويذهب إلى التناظر الموجود بين المونادات المختلفة التي لا تؤثر بعضها ببعض، ولا يمكن أنْ يحدث ذلك دون علة مشتركة، وهي حجة يقول عنها برتراند راسل مقبولة فقط عند أولئك الذي يتقبلون جواهر الفردة التي لا نوافذ لها، والتي تعكس جميعها العالم.

4. الحجة المستندة إلى الحقائق السرمدية.

وهي صورة أخرى للحجة الكونية ، ولب الحجة هو أنّ الحقائق جزء من محتويات الأذهان، وأنّ حقيقة سرمدية يجب أنْ تكون جزءًا من ذهن سرمدي. والحجة هنا كما هي في الحجة الكونية يجب أنْ يكون هناك سبب للعالم الممكن بأسره، وهذا السبب لا يمكن أنْ يكون هو نفسه سببًا عارضًا، بل يجب البحث عنه بين الحقائق السرمدية، ولكن سبب ما يوجد يجب أنْ يكون هو نفسه موجودًا، ومن ثم فالحقائق السرمدية يلزم بمعنى ما أنْ توجد، يمكنها فقط أنْ توجد كأفكار في ذهن الله.

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي