ما زالت دراسة التطور تحظى باهتمام العلماء والدارسين، وتدور الأسئلة عن أصل الإنسان، ومن أين نحن وما هي علاقتنا بمن سبقنا؟
مُنحت جائزة نوبل هذا العام في الطب والفسيولوجيا لـ (سفانتي بابو-Svante Pääbo) لاكتشافاته المتعلقة بالجينوم الخاص بأشباه البشر المنقرضين والتطور البشري.
وأنجز سفانتي شيئًا قد يبدو مستحيلًا للبعض بدراسته لتسلسل الجينوم لإنسان نياندرتال -أحد أسلاف البشر المنقرضين في الوقت الحاضر- كما قام أيضًا باكتشاف مثير لإنسان غير معروف سابقًا «دينيسوفا». الأهم من ذلك، وجد بابو أن نقل الجينات قد حدث من أشباه البشر المنقرضة إلى الإنسان العاقل بعد الهجرة من إفريقيا منذ حوالي 70000 عام. وهذا التدفق القديم للجينات إلى البشر المعاصرين له صلة فسيولوجية اليوم، على سبيل المثال علاقته بالتأثير على كيفية تفاعل جهاز المناعة لدينا مع العدوى.
مهمة تبدو مستحيلة
في بداية حياته المهنية، انبهر سفانتي بابو بإمكانية استخدام الأساليب الجينية الحديثة لدراسة الحمض النووي لإنسان نياندرتال. ومع ذلك سرعان ما أدرك التحديات التقنية الشديدة، حيث أنه مع مرور الوقت يصبح الحمض النووي معدلًا كيميائيًا ويتحلل إلى أجزاء قصيرة. وبعد آلاف السنين، لا يتبقى سوى كميات ضئيلة من الحمض النووي، وما يتبقى يكون ملوثًا بشكل كبير بالحمض النووي الخاص بالبكتيريا والبشر المعاصرين. كطالب ما بعد الدكتوراه مع ألان ويلسون -رائد في مجال علم الأحياء التطوري-، بدأ بابو في تطوير طرق لدراسة الحمض النووي من إنسان نياندرتال، وهو مسعى استمر عدة عقود.
وفي عام 1990، تم تعيين بابو في جامعة ميونيخ، ليواصل عمله -كأستاذ تم تعيينه حديثًا- على الحمض النووي القديم. فقرر تحليل الحمض النووي من ميتوكوندريا إنسان نياندرتال. إن جينوم الميتوكوندريا صغير ولا يحتوي إلا على جزء بسيط من المعلومات الجينية في الخلية، ولكنه موجود بآلاف النسخ، مما يزيد من فرصة النجاح، تمكن بابو من ترتيب منطقة من الحمض النووي للميتوكوندريا من قطعة عظام عمرها 40000 عام. وهكذا ولأول مرة تمكنّا من الوصول إلى تسلسل من سلف أو قريب منقرض.
نظرًا لأن تحليلات جينوم الميتوكوندريا الصغير أعطت معلومات محدودة واجه بابو تحديًا هائلًا يتمثل في تحديد تسلسل الجينوم النووي لإنسان نياندرتال. في ذلك الوقت عُرضت عليه فرصة إنشاء معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري في لايبزيغ بألمانيا. وفيه قام بابو وفريقه بشكل مطرد بتحسين طرق عزل وتحليل الحمض النووي من بقايا العظام القديمة. استغل فريق البحث التطورات التقنية الجديدة التي جعلت تسلسل الحمض النووي عالي الكفاءة. فأنجز بابو ما يبدو مستحيلًا وتمكن من نشر أول تسلسل جينوم لإنسان نياندرتال في عام 2010. وأظهرت التحليلات المقارنة أن أحدث سلف مشترك لإنسان نياندرتال والإنسان العاقل عاش منذ حوالي 800000 عام.
أصبح بإمكان بابو وزملاؤه الآن التحقيق في العلاقة بين إنسان نياندرتال وبشر العصر الحديث في أجزاء مختلفة من العالم. وأظهرت التحليلات أن تسلسلات الحمض النووي من إنسان نياندرتال كانت أكثر تشابهًا مع تسلسلات الحمض النووي للبشر المعاصرين الذين نشؤوا في أوروبا وآسيا أكثر من البشر المعاصرين القادمين من إفريقيا. هذا يعني أن النياندرتال والإنسان العاقل تزاوجوا خلال آلاف السنين من التعايش. وينشأ ما يقرب من 1-4٪ من الجينوم من إنسان نياندرتال في البشر المعاصرين من أصل أوروبي أو آسيوي.
اكتشاف مثير.. «دينيسوفا»
في عام 2008 تم اكتشاف جزء من عظم إصبع عمره 40 ألف عام في كهف دينيسوفا في الجزء الجنوبي من سيبيريا. احتوت العظام على حمض نووي محفوظ جيدًا بشكل استثنائي، والذي قام فريق بابو بترتيب تسلسله. تسببت النتائج في إثارة ضجة كبيرة حيث كان تسلسل الحمض النووي فريدًا عند مقارنته بجميع التسلسلات المعروفة من إنسان نياندرتال والإنسان الحالي. وهو ما أدى لاكتشاف بابو أحد أشباه البشر غير المعروف سابقًا، والذي أطلق عليه اسم (دينيسوفا-Denisova). أظهرت المقارنات بين البشر المعاصرين من أجزاء مختلفة من العالم أن تدفق الجينات قد حدث أيضًا بين دينيسوفا والإنسان الحالي. شوهدت هذه العلاقة لأول مرة في السكان في ميلانيزيا وأجزاء أخرى من جنوب شرق آسيا، حيث يحمل الأفراد ما يصل إلى 6 ٪ من الحمض النووي للدينيسوفا.
لقد ولّدت اكتشافات بابو فهمًا جديدًا لتاريخنا التطوري. ففي الوقت الذي هاجر فيه الإنسان الحالي من إفريقيا، كان ما لا يقل عن مجموعتين من أشباه البشر المنقرضين يسكنان أوراسيا. عاش إنسان نياندرتال في غرب أوراسيا، بينما سكن إنسان دينيسوفا الأجزاء الشرقية من القارة. وأثناء توسع الإنسان الحالي خارج إفريقيا وهجرته شرقًا تزاوج مع إنسان نياندرتال وإنسان دينيسوفا.
ما الذي يجعلنا مختلفين؟
يتميز الإنسان العاقل بقدرته الفريدة على إنشاء ثقافات معقدة وابتكارات متقدمة وفنون تصويرية، فضلًا عن قدرته على الانتشار إلى جميع أنحاء الكوكب. وعاش إنسان نياندرتال أيضًا في مجموعات، وكان لديه أدمغة كبيرة واستخدم أيضًا أدوات لكنها لم تتطور إلا قليلاً خلال مئات الآلاف من السنين. كانت الاختلافات الجينية بين الإنسان الحالي وأقرب أقربائنا المنقرضين غير معروفة حتى تم التعرف عليها من خلال عمل بابو الأساسي. ويركز البحث المستمر المكثف على تحليل الآثار الوظيفية لهذه الاختلافات والهدف النهائي المتمثل في شرح ما يجعل البشر مختلفين ومميزين.