«حرية الإرادة»: من وحي حلقة معنى الحياة لستيفن هوكنج

1-9

حرية الارادة

«أعتقد أن العقل البشري والمعنى الذي يخلقه، يأتي من نظام ضخم ومعقد، ويعمل وفقًا لقواعد بسيطة جدا، وهذا يعنى أن (ديكارت) كان محقا، فالجسد والعقل أمران مختلفان، يتكون الجسد والدماغ من مواد فيزيائية، أما العقل فهو منتج للحالة المتغيرة أبدا لهذه المادة.
الجسد هو (الهاردوير) -أي الجزء المحسوس-، والعقل هو (السوفت وير) – أي الغير محسوس-، ولكن هذا يثير مشكلة حرية الإرادة ..
عندما كنت طفلا صغيرا أراد والدي أن أصبح طبيبا مثله، ولكنى اخترت أن أدرس الفيزياء، وبالنظر إلى الماضي، أنا سعيد بما آلت الأمور إليه، لذا فقد اخترت الاختيار الصائب، أو بالأحرى، هل قمت بعملية الاختيار أصلا؟ ربما أنا مضلل بشأن حرية إرادتي، في النهاية إذا كان عقلي يخضع لقوانين الطبيعة الصارمة، فغالبا أن الطريق الذي اخترته كان محتوما…» هكذا قال هوكنج.
قبل الشروع في مناقشة ما قاله هوكينج نود أولا أن نوضح لماذا خص رينيه ديكارت في سياق حديثه بالتحديد؟
وما هي الثورة الفكرية التي أحدثها ديكارت؟
وما هو النسق الفلسفي الذي كان قائما قبل ثورة ديكارت الفكرية؟
وما علاقة هذا كله بمشكلة «حرية الإرادة» التي نود مناقشتها هنا؟
سنحاول أن نجد إجابة لكل هذه الأسئلة، ولنفهم أولا ما أحدثه ديكارت من ثورة فكرية لابد أولا من إلقاء نظرة خاطفة على وضع الفلسفة التي كانت قائمة قبل ديكارت لان هذا في صلب حديثنا، وكل هذا أيضا بمثابة مقدمة تمهيدية لموضوع مناقشتنا …

من المعروف أن رينيه ديكارت يلقب بأبي الفلسفة الحديثة، والتي وُلدت من انهيار الفكر «المدرسي» في العصر الأوربي الوسيط ، وقد تميز «الفكر المدرسي» الوسيط بعدة سمات أهمها:
1. قوله بالمذهب التعددي، أي قبوله لوجود وحدات وجودية أو موجودات متعددة وبدرجات مختلفة من الوجود.
2. أخذه بالاتجاه الشخصاني، أي الاعتراف بأولوية القيم الإنسانية للشخص على ما عداها ..
3. تصوره العضوي للوجود ، أي القول بأن الوجود كله مترابط الأوصال، كأنه جسم واحد له أعلى وأوسط وأسفل وأفضل وأسوأ، والأعلى والأفضل هو الألوهية رأس الكون وعقله، والأسفل والأسوأ هو المادة، وبينهما يقف الإنسان متوسطا رابطا الطرفين فهو «عالم مصغر» صورة للعالم الكبير .

كل ذلك إلى جانب الاتجاه الأساسي للفكر «المدرسي» المتمثل في مركزية الإله، أي أن الإله هو مركز الكون، حيث قال بالله خالق للموجودات.

كان هذا هو جوهر الفكر «المدرسي» إلى أن جاءت الفلسفة الغربية الحديثة وعارضت كل هذه السمات وكل تلك القضايا ، وذلك لان مبادئها الجوهرية هي القول بـ«الاتجاه الميكانيكي» ، أو تشبيه الطبيعة كلها بالإله التي تسير وحدها دون تدخل من عقل أو توجيه، ويقصد أيضا بالاتجاه الميكانيكي القول بأن أحداث العالم لا ترتبط فيما بينها إلا برباط «العلية» أو «السببية» .. واستبعدت الفلسفة الغربية الحديثة التصور العضوي والتدرجي للوجود وبالاتجاه الذاتي، الذي يجعل الإنسان مستقلا عن الإله ويحول اتجاه اهتمامه ناحية الذات، وكان من نصيب رينيه ديكارت أن يكون أول واضع لهذه الثورة الفكرية في قالبها الأكمل، ذلك إن ديكارت ميكانيكي أولا أو يأخذ بالمذهب الميكانيكي، فهو إذن يقول بوجود درجتين من الوجود هما: العقل والمادة …

ثم بعد ذلك انتشر نظام «نيوتن الميكانيكي» وقانونه للجاذبية، فوجد الناس أن الأجرام السماوية لا يجوز لها أن تُخشى أو تُرجي مشورتها في شئون البشر، فما هي إلا قطع من المادة الجامدة تتحرك وفقا لقوانين كونية، وبدا أن نظريات نيوتن تفترض أن كل الأجسام حتى أصغرها تخضع لنفس القوانين الكونية، وإذا كان هذا النظام يحكم المادة الحية والغير حية، فمن الواضح أن حرية الإنسان في اختيار الخير والشر، أو في اختيار طريقة حياته ما هي إلا وهم كبير.

ثم جاء توماس هوبز، فنَمَت على يديه فلسفة مادية فنظر من خلالها إلى العالم بأكمله يتركب من مادة وحركة، وأن المادة هي الحقيقة الوحيدة، وأن كل الحوادث من أي نوع لا تخرج عن كونها حركة للمادة، والإنسان ما هو إلا حيوان ذو جسم مادي، تنتج أفكاره وعواطفه على السواء من الحركة الميكانيكية لذرات جسمه .. وترتب على ذلك، إنه إذا كان عالم الذرات يعمل وكأنه آلة مجبرة على نظام محتوم، فسيهبط الجنس البشري كله إلى مرتبة التروس للآلات ، وعليه نحن لا نختار طريقنا للحياة ولا غاية قصوى هناك بل كل طريق حياتنا منتقى لنا تبعا لحركة دفع وتجاذب بين ذرات أجسادنا.

ومن الجلي أن نوضح في هذا السياق أن فكرة ميكانيكية الطبيعة قديمة قدم الفلسفة نفسها ففسر أناكساجوراس العالم على انه آلة يتحرك كل جزء منها حسبما يوجهه جزء آخر.
أما رينيه دريكارت وفكرة حرية الإرادة أو «الجبرية» لذلك خُصّ بالذكر في حديث هوكينج، تكمن في أنه اعتقد أن الإنسان مكون من عنصرين مختلفين وهما: الجسد والعقل، فقد كتب كعالم في الفسيولوجي ورسم بنية الجسد البشرى، فرآه على أنه آلة بيولوجية معقدة، غير أنه كان متأكدا على أن العقل مختلف، وأثبت ذلك بطريقة بسيطة جدا، فلقد حاول أن يتخيل بأنه ليس لديه جسد مادي، وبعدها تخيل أنه ليس لديه عقلا، لكنه لم يستطيع مع الأخيرة هذه، فإذا لم يكن لديك عقل، فكيف تستطيع أن تتخيل إذن؟ ومن هنا جاءت فكرة « الكوجيتو» الشهيرة.

اعتقد ديكارت أن العقل والجسد نوعين مختلفين بشكل جوهري وحل مسألة كيفية تفاعلهما باقتراح أن العقل متصل بالجسم أعلى العمود الفقري عند الغدة الصنوبرية، ورغم أن هذا يعتبر تقريبي وليس دقيقا، إلا أننا نعرف الآن أن العقل الواعي مكون من الدماغ ككل -والكلام هنا لهوكينج-،إن الدماغ البشري معقد أكثر كثيرا مما تملك من إدراك، حيث يحتوي على خلايا عصبية تقدر بما تحويه مجرة درب التبانة من نجوم، وهذه الخلايا العصبية ترتبط ببعضها فتنتج شبكات أكثر من عدد المجرات في الكون المعروف، وبما أن الدماغ محكوم بالقوى الأساسية مثل القوة الكهرومغناطيسية، فعملية التفكير نفسها تخضع في النهاية للفيزياء، إنها فيزياء سريعة ومعقدة جدا.
الماديون يفسرون الفكر على انه نشاط ميكانيكي للمخ، والعاطفة على أنها نشاط ميكانيكي للجسد، وتخيلوا أنه إذا أمكن تقصّى كل التغيرات الفيزيائية والكيميائية التي تحدث للمخ في الجسم لأمكننا ولو من حيث المبدأ أن نستدل على كل الخبرات الذهنية والعاطفية الخاصة بالعقل الذي يصاحبها. ومن هنا نشأت مدرستين فكريتين :القائلون بالجبرية والمعارضون لها، ومن الواضح أن هوكينج منتمي للقائلين بالجبرية، مثله مثل ديكارت وليبتنز ولوك وهيوم وهوبز وغيرهم.
فكر ليبتنز في أنه توجد دائما أسباب كافية في طبيعة وشخصية كل فرد منا تحدد لنا أي قرار قد نتخذه، وعليه لن نكون أحرارا أبدا لأن أفعالنا في كل لحظة محكومة بطبيعتنا التي أتت إلينا في الماضي، وأعتقد أيضا أن أفعالنا يحكمها بالفعل نوع من الضرورة الرياضية وكأنها عجلة في آلة. ومع ذلك قد نشعر أننا أحرار عندما نستمتع بعمل ما وفي الحقيقة نحن مكرهون ومجبرون على أدائه: إن الحجر المقذوف في الهواء قد يشعر بالحرية لو أمكنه نسيان اليد التي قذفت به.
ولو ضربنا مثلا شبيها للمثل الذي ضربه هوكينج من اختياره لدارسة الفيزياء بدلا من الطب وعلى غير رغبة أبيه، ولو افترضنا مثلا أن إنسانا عاديا فكر في ماضيه وصرح بأنه لو عاد للشباب من جديد لاختار مهنة مختلفة، قد يصر على انه حر في اختياره، لكن ما يقصده غالبا هو لو كانت لديه من الخبرة في الثامنة عشر التي عنده في سن الخمسين لتصرف على نحو أفضل، لكن هذا ليس دليلا على الحرية لأن هذا الإنسان العادي لو اضطر للاختيار من جديد فسوف يعيد الموقف بنفس الطريقة ونفس الأحداث، ولن يزعم لنفسه حرية التصرف بدافع النزوات الخالصة، بل حرية الانقياد إلى أقوى الدوافع، إنها حرية التفاحة التي شاهدها نيوتن أثناء سقوطها نحو الأرض بدلا من الاتجاه ناحية القمر لأن الأرض جذبتها بقوة اكبر من القمر، وهذه ليست حرية من أي نوع، بل إنها جبرية خالصة. وفي هذا السياق يقول ديفيد هيوم لو أنه اتخذ قرارا مختلفا لوجب أن يكون إنسانا مختلفا.
ولعل الإنسان يزعم لنفسه حرية الاختيار حتى في الأمور التافهة كاختيار قهوة بالحليب بدلا من القهوة السادة، وربما كانت عادته أن يطلبها على نحو معين يتخيله بعيدا عن الجبرية، لكن علم النفس هنا يخبره أنه حتى في ذلك خاضع لأقوى الدوافع مهما كانت الدوافع هذه ضعيفة، لأنه غالبا محكوم بـ «قانون تداعى المعاني»، وهو أن لون القهوة سواء كان الأبيض الممزوج بالحليب أو السادة الداكن ربما كان له ذكرى ما سيئة كانت أو حسنة استدعيت في وقت تحضيره لها فأجبر على اختيار معين دون الآخر. وكثيرا ما يرد في الكتب عند الحديث عن المؤثرات في الإنسان وتكوينه، ماهي ؟
أهي عوامل البيئة الخارجية؟
أم هي طبيعة الإنسان الداخلية؟

وعليه كان فرويد يرد معظم السلوك الإنساني إلى غريزة فكأنما قال : «إن الإنسان هو صنيعة فطرته الداخلية.»
غير أن بافلوف وواطسون وغيرهما من السلوكيين ، ردوا السلوك الإنساني إلى الطريقة التي تكونها له في الرد على المؤثرات الخارجية، وكأنهم يقولون :«إن الإنسان نتاج بيئته وما فيها من عوامل ومؤثرات.»
وجاء هنري سيدوجويك في كتابه «مناهج الأخلاق» فقال :إن موضوع المناقشة في الجدل حول حرية الإرادة كما يفهمه هو: هل يتحدد تصرف الإنسان تماما في أي لحظة بشخصيته والمؤثرات الخارجية بما في ذلك حالته الجسمية التي تؤثر عليه عند تلك اللحظة ؟ أو هل تقوم دائما إمكانية اختياري التصرف بالأسلوب الذي احكم عليه بأنه معقول وسليم، مهما كانت أفعالي وخبراتي السابقة ؟ فالذى يقصده سيدجويك بأن أفعالنا محددة بأحكامنا، وأحكامنا محددة بشخصياتنا والمؤثرات الخارجية عليها وهو ما يؤدي إلى الجبرية.

إعداد: Emad Elsaeid
مراجعة وتدقيق: Mohammed Ayman Hamad​
#الباحثون_المصريون #ستيفن_هوكنج #حرية_الارادة

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي