حتى وقتٍ قريب، كان يُعتقد بأن حضارات أمريكا اللاتينية قد سبقت أوائل الحضارات فى العالم، فقد نشأت الحضارة الأنَديَّة (نسبة إلى جبال الأنديز) بتَجَمُّع السكان الأصليون فى قرى صغيرة، وكانت حياتهم قائمة على الزراعة والصيد، ولكن عام 1994م أزاح أحد الاكتشافات الأثرية الستارعن خمسة آلاف عام من الحضارة فى (كارال-Caral) ذاك الذي أوقعها فى المحور الزمني إلى جانب حضارة بلاد الرافدين، والحضارة المصرية، والهندية، والصينية، وحضارة أمريكا الوسطى، تلك الحضارات التي كانت منارات الثقافة فى العالم قديمًا.
كارال –والتي تقع شمال جمهورية بيرو- هى مهد أقدم حضارات أمريكا اللاتينية (قبل الإنكا)، حتى أنه عام 2009م أدرجتها منظمة اليونيسكو على قائمة تراث البشرية. قامت هذه الحضارة على الزراعة والصيد؛ فقد اشتهروا بزراعة القطن وتُشير الاكتشافات الأثرية إلى وجود خيوط ملابس ومنسوجات قطنية، كما برعوا أيضًا في صناعة الأعمال الخزفية.
ومنذ اللحظة الأولى، حرص صٌنَّاع هذه الحضارة على تشييد المبانى والمدن بطرقٍ خاصة، مستخدمين المواد النباتية فى المباني، والأهرامات المُدرَّجة، والأفنية الدائرية والنصف دائرية، وكان اختلاف حجم المبانى علامةً على الفروق الطبقية بين السكان.
اهتموا أيضًا بالموسيقى، في حين ظهرت بعض الحيوانات عندهم رموز دينية، أنها كانت مُعاصرة للحضارة المصرية القديمة وقِدمها من قِدم الأهرامات المصرية.
كانت أهراماتها العظيمة تُمثل أهمية بالغة بالنسبة للحكام؛ فكانت مركز لمختَلف الأنشطة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، كما كانت رمزًا ومركزًا للقوة والحكم، تمارَس فيها الشعائر الدينية التى تضمن –
وفقًا لمعتقداتهم- بقاء واستقرار الدولة. أبرزهم سبعة أهرامات كبيرة مُحاطة بعدة أهرامات صغيرة بمجموع 32 هرم ولكنها اندثرت. وعلى الرغم من الرونق والبريق الذين لا تزال
كارال تحتفظ بهما؛ حيث تمت المحافظة عليها بشكل استثنائي -رغم مرور السنين- إلا أن انقضاء خمسة آلاف سنة على تشييدها قد عرّضها لعوامل الطبيعة التي أدت إلى تآكلات في أبنية المدينة. كما أن الرياح المستمرة التي تهب من سفوح جبال الأنديز تركت أثرها على الموقع.
كانت لدى سكان كارال خبرة بالمحاصيل الزراعية وجودتها، وكانت لديهم معرفة بهندسة الري؛ هذا الذى كان واضحًا فى القنوات المائية التى شيَّدوها، وأساليبهم فى تخزين المياه، وتسميد التربة، وصناعة الأدوات الخاصة بالزراعة. تم العثور على منسوجات قطنية -كما ذكرنا من قبل- حيث كانوا يقومون بزراعة القطن، كما برعوا فى المجال الفلكي، ووضْع التقويم، حيث تم العثور على حجر فى الساحة الرئيسية للمدينة كان يُستخدم كمَرصد فلكى.
برع أهل كارال في الطب، والرياضيات، واستخدموا الكيبو (Quipu):
وهو نظام للحساب والتسجيل، استخدموه فى تسجيل عدد العمال والسكان وفى قطاعات مختلفة من الدولة، وهو عبارة عن حبل رئيسي غير معقود، به مجموعة أحبال من الصوف أو القطن المعقودة بالحبل الرئيسى بها أكثر من عُقدة تختلف فى أشكالها وألونها وأحجامها، تُشير الألوان وطريقة لف الحبل إلى القطاعات، والعُقد تشير إلى الكمية والعدد، أما الأحبال الخالية من العقد تشير إلى العدد صفر، ويوجد الكثير من الكيبو بمختلف أشكالها وأحجامها من البسيط إلى الأكثر تعقيدًا وإلى الآن محفوظ 750 كيبو بالمتاحف.
بعد الاحتلال الإسبانى، ظل استخدام الكيبو قائمًا فى النظام الإداري وفي الكنيسة حتى عام 1583م حيث تم مَنعه، في عام 2005م الأثريون على أقدم كيبو يعود لحضارة الواري (ما قبل الإنكا)، و يقوم حاليًا الباحثون والأثريون بدراسة وبحث 700 كيبو من بينهم مجموعة تم العثور عليها فى إحدى المقابر بحالة جيدة وستكون هذه فرصة لمعرفة الكثير من أسرار البيرو القديمة.
يُذكر أن الأبحاث أظهرت أن سكان كارال كانوا ينتمون إلى نظام اجتماعي مُنظم بدرجة عالية مع فوارق طبقية واضحة المعالم أنتجت أكثر التقاليد الاجتماعية والثقافية تطورًا في زمنهم. حصد المزارعون المحاصيل مثل: اليقطين، والذرة، والبطاطا الحُلوة، والكوسى، والفلفل الحار، والقطن باستخدام أقنية الري من نهر سوبي. وكان الفنانون يعزفون على آلات مصنوعة من عظام البجع والنسور، وصنعوا الأبواق من عظام اللاما والألبكة ،وفي أحيان كثيرة كانت مزينة بالنقوش المزخرفة بالطيور والقِردة من الأمازون. كما تمَّ اكتشاف أدلة على تجارة واسعة بالروبيان والرخويات من ساحل البيرو الموجود ضمن حدود المدينة.
استخدموا تقنية الشيكرا فى تشيد المبانى (تقنية الشيكرا: هى عبارة عن لفات من الأنسجة النباتية بها مجموعة أحجار ويتم وضع هذة اللفات فى أرصفة المبانى والمعابد، منفصلة عن بعضها إلى حد ما، وبهذه الطريقة تحافظ على توازن المبنى، وعند حدوث زلزال أو هزة أرضية تتحرك هذه اللفات والتى تمثل أساس البناء، ولكن بطريقة محدودة وتظل الأحجار داخل اللفة وتنتقل حيث تُكون نقظة توازن جديدة فكانت وظيفتها مضادة للزلازل والهزات الأرضية.
أخيرًا، وبعد خمسة آلاف عام من الحضارة، هجر السكان مدينة كارال بالكامل وبطريقة سريعة دون معرفة واضحة بأسباب هذه الهجرة التى حدثت عام 1200 قبل الميلاد.
وبفضل المنحة المقدمة بقيمة 800 ألف دولار من صندوق السفراء الأمريكي للحفاظ على التراث الثقافي في العام 2009م، يبدو مستقبل مدينة كارال أكثر إشراقًا. باستخدام هذا التمويل، تم إعداد المشروع الأثري الخاص لكارال- سوبي، وهو خطة للوقاية والمحافظة الدائمة على كارال. يركز هذا المشروع على ترميم كارال، وفي الوقت نفسه على تدريب فريق من السكان المحليين المهتمين بالمحافظة على الموقع للحفاظ عليه في المستقبل. وبما أن وجود متخصصين في المواقع الأثرية المبنية من الحجارة والطين يعد أمرًا نادرًا في البيرو، فقد نظَّم مشروع ترميم كارال ورشات عمل ميدانية لتدريب الموظفين المحليين على التقنيات اللازمة. وتأمل السفارة الأمريكية أنه من خلال تدريب العاملين المحليين على تقنيات المحافظة، فإنها لا تدعم فقط مستقبل كارال، إنما مواقع أثرية أخرى في المنطقة.
المصادر:
إعداد: Riham Ebraheem
مراجعة: Fady Ramsis
تصميم: Ahmed Mohamed