لفترةٍ طويلة من الزمن، اُعتبِرَ القمر عالمًا بلا ماء. ولكن في السنوات الأخيرة، أظهرت دراساتٌ أجريت لسطح القمر أن بعض أجزائه مثل الفوهات الكبيرة على قطبي القمر التي لا يصل إليها ضوء الشمس تحتوي على آثارٍ لكمياتٍ كبيرة من الماء.
وفي هذا الأسبوع، نُشِرت دراستان جديدتان في مجلة “Nature Astronomy” ألقتا مزيدًا من الضوء على إمكانية احتواء القمر على كمياتٍ من الماء في أماكن غير متوقعة.
يعد توقيت هذا الاكتشاف جيدًا لناسا ووكالات الفضاء الأخرى التي تخطط في الوقت الحالي لإطلاق بعثات بشرية لاستكشاف سطح القمر، وحتى إنشاء المستعمرات القمرية. فبعد كل شيء، حيث توجد المياه يمكن أن تتواجد الحياة، حتى ولو كانت هذه الحياة ما تزال تتطلب بدلات فضائية ومساكن مضادة للإشعاع.
إشارة قوية محتملة لوجود مياه في الأماكن المعرضة للشمس على سطح القمر
تم الاستدلال على وجود مياه على سطح القمر من البيانات التي جمعها مرصد الستراتوسفير لدراسة الفلك بالأشعة تحت الحمراء (صوفيا) التابع لوكالة ناسا. هذا المرصد عبارة عن طائرة بوينج 747SP معدلة ويحتوي على عدسة تلسكوب يبلغ قطرها 2.7 متر. تطير الطائرة المعدلة في طبقة الستراتوسفير حتى لا يؤثر بخار الماء المتواجد في الغلاف الجوي على أرصاد صوفيا.
في أواخر أغسطس 2018، استخدم فريق تقوده الباحثة كاسي هونيبال -وهي زميلة برنامج ما بعد الدكتوراة في وكالة ناسا في مركز جودراد لرحلات الفضاء وباحثة في جامعة هاواي- أجهزة الأشعة تحت الحمراء المثبتة على مرصد صوفيا لدراسة سطح القمر المضاء بضوء الشمس. ركزت أرصادهم على منطقة في خطوط العرض الجنوبية المرتفعة بالقرب من فوهة القمر الكبيرة كلافيوس، التي كشفت بدورها عن انبعاثٍ قويٍّ للأشعة تحت الحمراء بطول موجي ستة ميكرون (ميكرومتر)، هذا الانبعاث يماثل الانبعاث الناتج من جزيء الماء.
ذكرت هونبيال وزملاؤها الباحثون في ورقتهم البحثية الجديدة أنهم لا يعلمون أي مادة أخرى قد تظهر خاصية الانبعاث الطيفي عند طول موجي 6 ميكرون بخلاف جزيء الماء. ويقترح المؤلفون أنَّ الماء المُفتَرض يخُزَّن على الأرجح في زجاج بركاني طبيعي أو بين حبيبات مجهرية من الغبار الصخري.
يمكن أن يوفر أيٌّ من السيناريوهين السابقين حمايةً من درجات الحرارة الشديدة والظروف شبه الفراغية على سطح القمر، مما يسمح للماء بالتواجد.
ولكن فيما يتعلق بكيفية وصول الماء إلى سطح القمر في المقام الأول، فلا يوجد أحدٌ متأكد من كيفية وصوله، ولكن التفسير الرئيسي هو أنَ الماء يمكن أن يكون قد تشكل من جزيئات الأكسجين والهيدروجين الذين تحرروا من الصخور القمرية بواسطة تصادمات النيازك الصغيرة مع سطح القمر.
وقالت هونيبال:
«إن استخدام صوفيا هو نهج جديد وفريد لدراسة القمر، ولكنها ليست المرة الأولى للمراصد الأرضية أن تلاحظ انبعاثًا بطول موجي 6 ميكرون؛ ففي عام 1969 احتوت أرصاد عالمي الفلك (جي. آر. هانت) و(جيه. دبليو. سالزبوري) الملتقطة بواسطة البالون على نفس الخاصية الطيفية، ولكن لم يشر العالمان إلى هذا الاكتشاف في ورقتهم البحثية، وبدلًا من ذلك، ركزوا على توصيف المعادن على سطح القمر. ربما لم يكونوا يعرفون أنهم قد توصلوا إلى اكتشاف ضخم.»
كوب نصف ممتلئ
حصلت هونيبال وزملاؤها على وقت إضافي لمتابعة أرصادهم على مرصد صوفيا.
تقول هونيبال:
«نأمل أن نرصد معظم أجزاء القمر لوصف سلوك الماء. فهل يختلف وجود الماء على السطح على مدار ساعات النهار القمرية مع اختلاف دائرة العرض؟ ستمنحنا دراسة باقي أجزاء سطح القمر على فهم مصادر المياه ومعرفة أين توجد».
وهذا بدوره يمكن أن يخبر العالم عن مدى فائدة هذه المياه المكتشفة حديثًا، والتي قد يتأكد وجودها في يوم من الأيام. سيكون استخراج الماء مباشرًا إذا كان الماء موجودًا على أسطح حبيبات الصخور؛ سيحتاج المرء فقط إلى جرف تربة القمر وتعريضها لدرجة حرارة معتدلة. ولكن إذا كان الماء محبوسًا قي زجاج، فيجب إذابته لتحرير الماء من أجل تجميعه، وهي عملية تتطلب طاقة كبيرة جدًا.
تقول هونيبال:
«ليست لدينا حاليًا فكرة جيدة عمَّا إذا كانت كمية المياه التي نراها بواسطة صوفيا تستحق عناء إذابة الزجاج. ومع ذلك، إذا كانت كمية الماء كبيرة بما يكفي، فقد يكون خيار إذابة الزجاج أفضل من الحصول على الماء من الأماكن المظلمة دائمًا، وهي بيئات قاسية ويصعب العمل فيها».
يقول جاك شميت -عالم الجيولوجيا والذي كان أيضًا من ضمن طاقم أبولو 17، وهو العالم المتخصص الوحيد الذي سار على سطح القمر-:
«إنَّ قياسات صوفيا من الممكن ألا تشير بالفعل إلى جزيئات الماء الحقيقية، ولكن من الممكن أن تشير إلى شيء أكثر هشاشة».
وكشفت الدراسات السابقة أن البروتونات القادمة من الرياح الشمسية يمكنها امتصاص الإلكترونات من المواد الموجودة على سطح القمر عند اصطدامها بسطح القمر، مكونة الهيدروجين الذري الذي يتفاعل بعد ذلك مع ذرات الأكسجين الموجودة في صخور السيليكات لصنع جزيء الهيدروكسيل، وهو جزيء يحتوي على ذرة واحدة من الهيدروجين وذرة واحدة من الاكسجين.
تقول هونيبال:
«إن الانبعاث الطيفي بطول موجي 6 ميكرون لا يتوافق مع الانبعاث الطيفي لجزيء الهيدروكسيل».
وبغض النظر عن المادة الكامنة وراء إشارة صوفيا، يقول شميت إنه باستخدام الكيمياء الأساسية يمكننا الحصول على الماء من المواد القمرية الجافة. ويضيف:
«يؤدي تسخين الثرى الحامل للهيدروجين إلى عدة مئات من الدرجات المئوية إلى تفاعل بعض ذرات الهيدروجين مع الأكسيجين في صخور السيليكات لإنتاج الماء تقريبًا في أي مكان على سطح القمر».
ظلال صغيرة وإمكانيات طائلة
ألقت ورقة بحثية أخرى جنبًا إلى جنب مع دراسة صوفيا في مجلة Nature Astronomy مزيدًا من الضوء على ارتفاع عدد المناطق المظلمة بشكل دائم على سطح القمر والمعروفة باسم الحفر الباردة. وتتسم تلك الحفر الباردة بدرجات حرارة منخفضة للغاية تمكنها من تجميد المياه وحبسها بداخلها إلى أجل غير مسمى، مما يسمح لها بالتراكم إلى كميات كبيرة عبر الزمن الجيولوجي.
ولقد درس العلماء مثل هذه المناطق القمرية لعقود طويلة من الزمن لاحتمالية وجود الماء فيها، لكن كان دائمًا تركيز العلماء على الحفر الباردة الكبيرة الموجودة داخل الفوهات الكبيرة على قطبي القمر. وعلى العكس، تعمل الدراسة الأخيرة على توسيع نطاق أحجام الحفر الباردة المدروسة حتى قطر 1 سم.
وجد فريق عالم الكواكب بجامعة كولورادو بولدر بول هاين بعد تحليلهم الصور عالية الدقة التي التقطتها مركبة الاستطلاع القمرية التابعة لناسا، أن مثل هذه الحفر الباردة الصغيرة أكثر انتشارًا من الحفر الكبيرة المدروسة جيدًا بالقرب من قطبي القمر. وترفع الدراسة الحديثة إجمالي مساحة سطح القمر القادرة على حبس المياه إلى ما يقرب من 40 ألف كيلومتر مربع، أي ما يقارب ضعفي مساحة مدينة ويلز الإنجليزية.
يقول هاين:
«إن الحفر الباردة الصغيرة المكتشفة حديثًا هي الأكثر عددًا على القمر، وهي أكثر وفرة بآلاف المرات من الحفر الباردة المدروسة سابقًا، وإذا كانت جميعها مليئة بالجليد فقد تكون هذه كمية كبيرة، ربما أكثر من مليار كيلوجرام من الماء».
وأضاف هاين أنه لتقييم المحتوى الفعلي من الجليد بشكل صحيح، فلا بد من أخذ عينات من الحفر الباردة بواسطة روبوتات أو رواد الفضاء.
ويقول:
«إن الأمر المثير حقًا بشان الحفر الباردة الصغيرة هو أنه يمكن الوصول إليها بسهولة أكبر، مما يزيد من كفاءة عمليتي الاستخراج واستخدام الماء للأغراض العلمية والاستكشافية».
وفي الواقع يمكن أن يكون هذا الانتشار لخزانات الجليد المحتملة الصغيرة في متناول البعثات المستقبلية، لأنها موجودة في المناطق التي يمكن لرائد فضاء الذي يغمره ضوء الشمس أن يصل إليها بشكل آمن ومريح واستخراج الجليد بسهولة أكبر.
في الوقت الحالي وللحكم بشكل أكبر على قيمة الحفر الباردة الصغيرة، سيستخدم هاين وزملاؤه كاميرا عالية الدقة تسمى بنظام التصوير القمري بالأشعة تحت الحمراء، والتي ستسافر إلى القمر في أوائل عام 2022 في أول مهمة هبوط قمرية في القطب الجنوبي التابعة لناسا. وستلتقط الكاميرا صورًا عن قرب للحفر الباردة الصغيرة لأول مرة وستقيس درجات حرارتها.
الحقيقة الأرضية
يقول إيان كروفورد، خبير القمر في بيركبيك، جامعة لندن:
«مع أن الدراسات الأخيرة تعد بأخبارًا مبشرة ولكن لا تزال الصورة الكبيرة للقمر كما هي».
من الواضح أنه كلما كان الوصول إلى المياه أسهل على القمر، زادت فرص استخراجه من الموقع واستخدامه فورًا لدعم الجهود الاستكشافية. وفي نهاية المطاف يمكن أن يؤدي تطوير المياه القمرية كمصدر إلى بدء اقتصاد خارج كوكب الأرض، حيث ستصبح المياه مادة أولية مربحة لوقود الصواريخ وغيرها من المواد الاستهلاكية الثمينة. في الوقت الحالي.
ويضيف كروفورد:
«القياسات المباشرة مطلوبة بشكل عاجل لتأكيد الاستنتاجات المبنية على قياسات الاستشعار عن بعد».
كما أشار آنجيل أبود-مدريد، مدير مدرسة كولورادو للمناجم في مركز موارد الفضاء في جولدن، كولورادو إلى أن أهم خطوة حاليًا هي الحصول على القياسات مباشرة من سطح القمر.
يقول:
«ما نحتاجه الآن هو لمس سطح القمر وجمع حقائق مفصلة عن سطحه، التأكيد لن يكون فقط على وجود جليد مائي ولكن معرفة تشكيله وتركيزه وتوزيعه ووفرته، وهذا أمر لابد منه للمضي قدمًـا في خطط الاستكشاف الحالية واستخدام الموارد».