لماذا لم يحظَ «ويليام فوكنر البرازيلي» بنفس الحفاوة العالمية؟

لماذا لم يحظَ «ويليام فوكنر البرازيلي» بنفس الحفاوة العالمية؟

عندما بدأت في ترجمة أعمال (جراسيليانو راموس – Graciliano Ramos) علمتُ شيوع الإشارة له بكونه «فوكنر البرازيلي»، لمَّ؟

يكتب راموس -مثل نظيره (ويليام فوكنر – William Faulkner) – منطلقًا من ركن في بلده يبعد عن الـتأثير المركزيّ الثقافيّ والاقتصاديّ، وفي مكان له شخصيته وعاداته وقيمه وتاريخه ومشكلاته. وحصد الإعجاب لتقنياته الأدبية الرائدة وتسليط الضوء على إقليمه. وبينما تدرك مشاغله من كتاب لآخر، كانت لغته في كل منها كالقاطرة تنقل الأمزجة والحالة النفسيّة التي تٌعَبِّر عنها اللغة نفسها وطبيعة الشخصيات وحدودها امتدادًا للبيئة التي خرجوا من رحمها.

وبهذه الطرق السابقة أثبت راموس أثره القوي: فلم يقتصر تأثيره على قراءة كل برازيليّ تقريبًا لواحدٍ من أعماله في المدرسة، بل حتى الكُتّّاب المعاصرين صدّقوا على أعماله كمرجعٍ لهم. ويقول (باولو سكوت – Paulo Scott) في مقالٍ له في عام 2012 بـ(Asymptote):

«إذا انتقينا مجموعة من الكتاب البرازيليين خلال النصف الأول من القرن العشرين وسألنا أيّ كاتب منهم كان له التأثير الأكبر وأثّر على طرق كتابة الكتاب البرازيليين اليوم، فليس لدي من شك أن اسم جراسيليانو راموس سيكون على رأس هذه القائمة.»

لماذا لم يحظَ «ويليام فوكنر البرازيلي» بنفس الحفاوة العالمية؟
الطبعة الإنجليزية لرواية «ساو بيرناردو» لعام 1975.

وإلى الجانب الجدليّ حول وجود قيمة من المقارنة بين الكتاب، فنقاط المقارنة الخاصة تُقَدِّم فوائد أعظم. وبالتأكيد عندما قرأت للمرة الأولى (ساو بيرناردو – São Bernardo)، الكتاب الذي ترجمته في النهاية، صعقني التّشابُه بين (توماس سوتبين – Thomas Sutpen) الشخصية الطموحة بلا حدود في محور رواية فوكنر «آبسالوم ! آبسالوم!» (Absalom, Absalom) و(باولو هونوريو – Paulo Honório) البطل المقابل له لدى راموس.

وسوتبين في رواية فوكنر رجل غريب في بلدة (يوكناباتاوفا – Yoknapatawpha) يبتاع 100 فدانٍ في تلك البلدة هادفًا لتأسيس سلالته. وفي ساو بيرناردو يخطِّط باولو هونوريو ويساوم لشراء المزرعة التي كان يعمل بها أجيرًا باليوميّة مُسبقًا وصارت الآن بالية؛ وينوي إعادة المجد لها.

كِلا الرجلين كانا من أصول غامضة بالنسبة لنفسيهما -فلم يعرفا تاريخ مولدهما بدقّة على سبيل المثال- وكذلك بالنسبة لنا، فاسم «باولو هونوريو» هو اسم مستعار. وكان كل منهما مدفوعًا برغبته في تحقيق مكاسب ماديّة والاستحواذ على السلطة والثروة. بحذر وإهانات محسوسة وشك ارتيابيّ يصعدون طلبًا للاحترام حتى وإن كانا يعرفان أن الاحترام سيبقى بعيدًا عن قبضتهم. ولهذا فإنهما يعتمدان على ممتلكاتهما وورثتهما لتمثيلهما في المستقبل. وبدلًا من ذلك فإنهما يُعَاقَبان بمأساة، ففوكنر يمزِّق «سوتبين» إلى أشلاء، ولكن «باولو هونوريو» يُنقذ باستفاقة ذاتيّة مثيرة للسخرية.

وصوت سوتبين الشخصي غائبًا من «آبسالوم، آبسالوم»، وبدلًا من ذلك نتعرف على قصته من الآخرين بالتماس مع ما ابتدعه الناس من الادعاءات والتخمينات. وعلى العكس، فـ ـ«باولو هونوريو» يصمم بنفسه كتابًا عن حياته وأعماله، وهي طريقة مختلفة لتحقيق الخلود ولكنها تتساوى مع نظيرتها في الارتياب بشأن نجاحها. فكل شخص لديه مهارة، والكتابة ليست من مهارات السيد باولو. وفي الحقيقة كاد باولو أن يصير أميًّا لولا حادثة ألقت به في السجن وهو مراهق عندما طعن رجلًا بسبب فتاة وقد خرج  مُتعلمًا القراءة والكتابة.

وكما هو منطقي بالنسبة له بدأ مشروعه كرأس ماليّ بقوله «قبل أن أبدأ هذا الكتاب، فكرت أن تقسيم العمل هو الطريق للانطلاق.» جاءت المشكلة أن مساعديه لم يشاطروه نفس الرؤية: فتصورات محاميه الخبير على سبيل المثال أن «الرواية تكمن  في لغة كامويس، مع جمل تسرد من الخلف للأمام.» (وبصراحة هذا ليس توصيفًا سيئًا للنثر على طريقة فوكنر) 

يرد باولو هونوريو «اعتمد عليّ» ولكن حتى صديقه الصحفيّ الذي ظنه طيعًا معه قدم له «فصلين  بلا معنى.» فينفخ السيد باولو صدره قائلًا: «هذا كلام طنان ومزيف وغبي. لا أحد يتكلم بهذه الطريقة.» ويعترض الصحفي قائلًا «لا يمكن للفنان أن يكتب بالطريقة التي يتحدث بها.»  فيندهش هونوريو قائلًا «ولمَا لا ؟» «الأدب هو الأدب يا سيد باولو.» ويشرح من سيصير مساعده بصبر «إذا كتبت بالطريقة التي أتحدث بها، فلا أحد سيقرأ لي.»

يصعب العثور على المساعدة الجيدة، وهي مشكلة متكررة في هذه القصة. فيقرر السيد باولو أن يكتب الكتاب بنفسه، كتابته بنفس الطريقة التي يتحدث بها. وصوته قاسٍ وحازم ولكن وضع الاعتراف الشخصي يسمح له بتلقائية ذاتية نادرًا ما كان يحصل عليها في حياته العادية.

كانت لدى رواية ساو بيرناردو بصيرة وأعادت رسم حدود الأدب البرازيليّ ووضعت راموس في طليعة الحداثة والتي كانت تزدهر بوضوح في المراكز الحضريّة بجنوب البرازيل. وكما حدث مع فوكنر، فإنه استند إلى الثراء الإقليمي الذي كان مخفيًا وغائمًا بالنسبة للغرباء وحتى بالنسبة لأولئك الذين ينتمون لنفس موطنه.

وتزداد المقارنة بين الكاتبين وتتعمق عندما نتجاوز هاتين الروايتين لما هو أبعد. فجاءت رواية فوكنر «الصخب والعنف» (بالإنجليزيّة: The sound and The Fury) مرصعة بإشارات يفهمها فقط الشخصيات من ذوي العرق الأسود، ولهذا كان يعاني الخدم والمستأجرون من معرفة مسبقة لمأساة عائلة (كومبتون – Compton) القادمة بينما كانت العائلة نفسها تساق نحو حتفها. والطبقات الأدبية التي قرأت الرواية ستكون في الغالب غير مبصرة لهذه العلامات تمامًا مثل جماعات البيض ممن بداخل صفحات الرواية.

كذلك فالحوارات والوصوف المستخدمة في رواية ساو بيرناردو ممتلئة بالتعبيرات التي تربك الطبقة الوسطى البرازيليّة وحتى أولئك بداخل الشمال الشرقيّ وهي الطبقة التي يتطلع إليها السيد باولو ولن ينتمي إليها أبدًا. ومثل فوكنر ألزم راموس نفسه بنظرة عالمية ولهجة محليّة لإقليمه المنعزل وطبقاته التابعة له ويخيط كل ذلك في روايته. فكثير من التعبيرات التي أعطاها راموس للسيد باولو لم يُعثر على مثلها في أي من المصادر المطبوعة الأخرى. وفي روايتيّ «الصخب والعنف» و«ساو بيرناردو» فإن نعيق البومة ينذر بالموت.

واكسبت التعقيدات العرقيّة في كل روايات الكاتبين قراءة جادة. فأكثر روايات فوكنر شهرة ترتبط بالعبودية، وبينما لم تكن قضية العرق محركًا لأي من روايات راموس وأحداثها بنفس الطريقة الموجودة لدى فوكنر -(ومن بين حقائق أخرى يمتلك البلدين موقفًا متابينًا من الاختلاط العرقي)- فالشخصيات من ذوي العرق الأسود والـ (ميستزو – mestizo) مرئية وبارزة في النسيج الاجتماعيّ والهرميّ لكتبه.

وكان الشمال الشرقيّ البرازيليّ المحطة الرئيسيّة لتجارة العبيد تحت الحكم البرتغاليّ واستمرّت العبوديّة هناك لمدّة أطول من وجودها في الولايات المتحدة، ولكن موطن راموس كان موقعًا للعديد من التجمعات المستقلة للعبيد الهاربين. وأخيرًا وعلى سبيل المصادفة ترجم راموس كتاب (بوكر تي واشنطن – Booker T. Washington) بعنوان: (النهوض من العبوديّة – Up From Slavery) للغة البرتغاليّة.

لماذا لم يحظَ «ويليام فوكنر البرازيلي» بنفس الحفاوة العالمية؟
غلاف الطبعة الأولى بالبرتغالية من رواية «حيوات جافة».

وبالتأكيد يمكننا تكريس بعض الاهتمام  لفحص رواية راموس الأخيرة «حيوات جافة» (بالبرتغاليّة: Vidas Secas) في مواجهة رواية فوكنر (بينما أرقد محتضرة – As I Lay Dying). فكلا الكتابين تجربة بالغة الشكليّة تتبع العائلات الفقيرة التي ترسلها الخسارة إلى الشارع وتحاول أن تحقق بعض المهام شبه المستحيلة وتجاهد لانتزاع الكرامة من الظروف التي ترفضهم. ويظهر حس السخرية خفيفًا في هذا الكتاب لدى فوكنر ولهذا لن يصير راموس وحيدًا في سخريته اللاذعة.

من أجل كل هذه الأسباب فمن العدل أن يُذْكَر اسم الكاتبين في نفسٍ واحد؛ بسبب انشغالاتهم الجماليّة والموضوعيّة، وبسبب المكانة التي يحوذانها في تطوير الحداثة ببلدهما. ولهذا فمن المهم أن نسأل لمَ حاز فوكنر على الشهرة العالمية بينما كُرس راموس ككاتب إقليمي؟

بدأ فوكنر النشر في  عام 1930 حين كانت الولايات المتحدة تنافس بريطانيا على مركزية عالم الأدب الأنجلوفوني. في بداية الأمر كان البريطانيون يواجهون صعوبة في فهم أسباب بذل كثير من الجهد على كاتب يصعب فهمه. ويقول الناقد (جوردون بريس ستيفينز – Gordon Price-Stephens) أن كثير من النقاد البريطانيين يعتبرون نجاح فوكنر «مصادفة وحُقق على الرغم من غرابة أسلوبه وانحرافات الشكل مما ينهك قراءه.» 

كانوا يظنون أنه يُصعب العمل عليهم خاصة في ضوء تناوله لموضوعات شديدة الحساسية. ولكن يقول (كلينث بروكس – Cleanth Brooks) أن العنف والرذيلة اللتين كانا ينظر إليهما الأمريكيين الشماليين والبريطانيين باعتبار موطنهما في الجنوب صارا فيما بعد جزءًا من مشكلات الولايات المتحدة. وبهذا اتسعت رقعة فوكنر الإقليميّة، فأصبح كاتبًا أمريكيًّا في العصر الأمريكيّ.

وبعد حصوله على جائزة نوبل سافر فوكنر كثيرًا بطلب من وزارة الخارجية. وفي إحدى رحلاته إلى فنزويلا تعاطف مع كتاب أمريكا اللاتينية غير القادرين على إيجاد مساحة أوسع لأنفسهم وقرر تأسيس مشروع الرواية الإيبرو- أمريكية (Ibero-American Novel Project) لإيجاد ونشر أفضل رواية كُتِبَتْ بعد الحرب من كل بلد في أمريكا الجنوبية. كانت المتطلبات الأساسية أن تكون الرواية منشورة بعد عام 1945 ولكن بطريقة ما اُخْتِيرَتْ رواية راموس «حيوات جافة» لتكون الكتاب الذي يمثل البرازيل.

مهدت جائزة فوكنر الطريق لكتاب أمريكا الجنوبية كي يصلوا للشمال، ولكن تشير البرازيلية (دارلين سادلير – Darlene Sadlier) أنه بينما يصنف أصحاب النظريات اليسارية مثل جورج لوكاس فوكنر كـ«نحلاليّ حداثيّ» مثل جويس وكافكا، فالناقد الاجتماعي البرازيلي (جيلبيرتو فريري – Gilberto Freyre) «فرق تفريقًا شديدًا بين كتاب الشمال الشرقي وحداثييّ ساو باولو.» واقترح أن راموس مؤرخ اجتماعي- واقعي للمناطق المشابهة للجنوب الأمريكي في البرازيل أكثر من كونه فنانًا يعيد تعريف شكل الأدب الخيالي. وسار على نهجه آخرون.

 ويقول المترجم المؤثر (صامويل بوتنام – Samuel Putnam) على سبيل المثال أن راموس «يكتب عن الروح الإنسانية الأسيرة، ومشاهده تمامًا مثل شخصياته بجفاف الشمس، وأداته هي التشريح الاجتماعي الأدبي.» وتقترح سادلير تقديم راموس «بعيدًا عن ثنائية الواقعية والحداثة.» وذلك كي نتمكن من الاقتراب من «لغة وأسلوب روايات راموس.» والتي على حد تعبيرها  «فكريًا أحق بإن يشكل الواقعية الاجتماعية الخام.»

وتحث سادلير القراء الأمريكيين لإلقاء نظرة مقربة على رواية «ساو برناردو» وهي الثانية من أعمال راموس الأربعة، والأكثر وضوحًا في إظهار لمَّ لا ينبغي حصره في صندوق الواقعية الاجتماعية الإقليمية الذي يوضع فيه غالبًا. تقول مستخدمة الاسم الأول على عادة البرازيليين «إذا كان هناك كتابًا لجرسيليانو يستحق مزيدًا من الانتباه من جانب النقاد الأمريكيين فهو هذا العمل. فهو يجسد ببراعة كل القضايا التي شغلت النقد الخاص بأعماله، والجدلية بين الواقعية الاجتماعية والحداثة والمزج بين التعقيد الأدبي العالمي والملاحظة الدقيقة لإقليم محدد، والخط الضبابي بين السيرة الذاتية والخيال وهي تضمن مكانة جرسيليانو ككاتب كبير في القرن العشرين.»

وحتى الآن لم يشير أحد إلى فوكنر على أنه جراسيليانو راموس أمريكا الشماليّة. وظنوني أن راموس كان غير محظوظ من جانبين: فقراءه غير البرتغاليين يمكنهم الوصول إليه من خلال نافذة الترجمة، والمترجمين قد يرونه من منظور المعرفة النقديّة المحرّفة السائدة، ويطبقون تلك النظرة على أعماله.

 

 

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي