خطأ جاليليو الفادح

يعرض جاليليو التيليسكوب على دوق البندقية، ليوناردو دوناتو، 1754

إن سقطت شجرةٌ في غابةٍ ولم يكن ثَمَّ أحد ليشهد سقوطها، أيكون لسقوطها صوتًا ودويًّا؟
هذا سؤالٌ طالما صحبته جلبة ونقاشات فلسفية حادة، حتى أتى (جاليليو–Galileo)، عرَّاب العلم الحديث، بإجابةٍ قاطعةٍ له في القرن السابع عشر. شَكَّل جاليليو جاليلي، أو بالأحرى منهجه في إجابة السؤال، الأسسَ الفلسفية للرؤية العلمية للعالم التي ما تزال سائدةً حتى يومنا هذا. وهذه الرؤية تحمل في قلبها الداء الذي يشلها وتقطع الطريق على أن يصير الوعي علمًا.

من اللحظات الفارقة في الثورة العلمية تلك التي بَيَّن فيها أن الرياضيات وُجِدَت لتكون لغة العلم الجديد، ليكون له لغة لا تعترف إلا بالكمِّي المحض، وقد نوقش هذا الطرح طويلًا فيما لم تلق التحقيقات الفلسفية التي سلمت جاليليو لهذه النتيجة الزخمَ ذاته من النقاش.

ظل الناس قبل زمن جاليليو  يرون أن العالم المادي مفعمٌ بالخصائص؛ فعلى كل سطح ترى لونًا يميزه، ولكل طعام مذاق، وهناك الروائح السارية عبر الهواء، ولكن هذه الخصائص كلها لا تقدر على التعبير عنها بلغة رياضية محضة، يمكنك أن تجرب وضع معادلة رياضية لطعم صوص البابريكا الحار لتتحقق.

شَكَّلَ هذا (استحالة التعبير عن هذه الخصائص رياضيًا) تحديًا لآمال جاليليو بالغة الطموح في التعبير عن العالم المادي بصورة رياضية، وكان حله لهذا التحدي أن يبتدع نظرية جديدة تمامًا للواقع، نبذ فيها وجود تلك الخصائص عن الواقع؛ إذ هي إلَّا في وعي المراقب؛ وبهذا تصبح حُمرَةَ الطماطم ليست في سطحها الذي نراه، بل في وعي الرائي، وكذلك طعم صلصة البابريكا الحار في وعي المتذوق.

نعود الآن للمثال المطروح في البداية لنطبق عليه نظرة جاليليو، فنجد أن دوي سقوط الشجرة في الغابة لم يكن موجودًا في الغابة، بل في وعي المراقب، فإن غاب المراقب غاب وعيه وكان غياب الصوت.

إذن، فقد جَرَّد جاليليو، كما وضحنا سلفًا، العالم المادي من خصائصه، فلم يبق منه إلا الخصائص ذات الطبيعة الكمية البحتة كأبعادها وشكلها وموضعها وحركتها وما إليها من خصائص سهل تصويرها في هيئة رياضياتية، حتى أضحى العالم في نظره مفلوقًا إلى قسمين:

1- عالم مادي فيزيائي ذي خصائص كمية بحتة، وهو مجال العلم وميدانه.

2- الوعي بخصائصه، وهو خارج عن نطاق دراسة العالم.

سمح هذا التقسيم بقيام الفيزياء الرياضية؛ فبنزع الخصائص (الكمية) من مجال الدراسة، أخلى المجال لدراسة ما يمكن التعبير عنه رياضيًّا فقط، وعليه نخلص إلى أن علم الطبيعة، كما أراد له جاليليو، لم يكن قط معنيًّا بوصف العالم بأكمله، بل كانت تنحية كيفية وعينا بالعلم من مبادئه.

ولكن، ما علاقة نقاشات القرن السابع عشر هذه بالدراسة العلمية المعاصرة للوعي؟
هناك إجماعٌ على أن الوعي يمثل تحديًا مهمًّا للعلم المعاصر؛ فبالرغم من التقدم الهائل الذي يحرزه العلم بخصوص المخ وفهمه، ما زالت (العلائق بين تلك الإشارات الكهروكيميائية المعقدة وعالمنا الذاتي الذي نعي به الألوان ونميز به الأصوات والروائح والطعوم  غامضة).

وبالرغم مما يلقى هذا التحدي من اهتمام، نجد بعض الباحثين يروْن في أساليب البحث المعتمدة في فهم المخ طريقةً مثلى للتغلب على هذا التحدي؛ وبرهانهم في ذلك النجاحات المستمرة في تفسير العالم المادي من حولنا، وأن لهذه النجاحات أن تبث فينا ثقة، حسب اعتقادهم، بحتمية فك لغز الوعي يومًا ما.

أرى أن هذا النمط الشائع في التفكير مغروس بسبب إساءة فهم تاريخ العلم، فنحن على حق إذ نحفل بإنجازات العلم المادي، ولكننا نغفل أنه نجاحه ما كان إلا نتيجة لتصميم جاليليو إياه بهذه الكيفية التي تستبعد دراسة الوعي. فلو كان لجاليليو أن يسافر زمنيًا إلى وقتنا ونمى إليه جدالنا حول مسألة تفسير وفهم الوعي عبر مفاهيم العلم المادي لكان قوله: بالطبع ستعجزون؛ فقد صممت هذا العلم المادي للبحث في الكميات، لا الكيفيات. وحقيقة اجتياز العلم المادي لأشواطٍ طويلةٍ بنجاحٍ مُبهر إذ ينحي الوعي لا تعطي وجاهة للظن بأنها قد تحقق القدر ذاته من الإنجازات في مضمار فهم الوعي.

ونحن هنا لا ننكر على العلم المادي الدور الذي يلعبه في دراسة الوعي، فقد أحرز علماء الأعصاب تقدمًا هائلًا في رسم خرائط الربط بين النشاط الدماغي من جهة وما يختبره الوعي ويدركه  كما أدرك جيوليو تونوني خطوة عملاقة من خلال نظرية المعلومات المتكاملة (Giulio Tononi’s Integrated information Theory) التي تقترح أن الوعي بأمر دائمًا ما يلازم تزامن حزمة من المعلومات المتكاملة معًا (في الدماغ) وهذا الطرح يمكن من التعبير عن النشاط الدماغ، ومن ثم الوعي، بصورة رياضية، غير أن دراسة تلك التزامنات والعلائق لا تمثل نظرية حقيقية موضوعها الوعي.

الغاية أن نجد أسلوبًا لفهم تلك الروابط التي يكشف عنها علماء الأعصاب؛ أن نفهم كيف يتزامن وجود احتمالية قصوى لمعلومات متكاملة وهي الخصيصة الكمية مع الخصيصة الكيفية؛ أي الوعي بالفكرة التي تمثلها تلك الاحتمالية.
يقف تمثلنا لرؤية جاليليو للعالم حاجزًا بيننا وبين الحل؛ فوعينا له محددات هي الخصائص الكمية التي ندركها من صوت ولون ورائحة ومذاق؛ تلك الخصائص المُشكِّلة لكل لحظة نعي فيها العالم.

هذه الخصائص، كما أسلفنا، لا يتحقق لنا ضمها للصورة الكمية للعالم المادي. فهم جاليليو للعالم المادي على هيئة كمية لا غير يردعنا من ضم الخصائص الكيفية للأخرى الكمية في صورة واحدة تعكس العالم المادي ولا يبقى في مقدورنا سوى محاولة ربط تلك العلائق.

يرى المتشائمون، بناءً على هذه المعطيات، استحالة دراسة الوعي علميًا وأنه سيبقى مجالًا غامضًا أبدًا، وهنا أختلف معهم، فلدي اعتقادٌ بإمكانية تحقيق علم يدرس الوعي وهذا العلم لن يتأتى قبل إعادة النظر في ماهية العلم؛ فالعلم عند جاليليو قاصر عن اكتشاف هذا المجال، مما يوجب علينا السعي لفهم أوسع للمنهج العلمي، يتجاوز نظرة جاليليو، ويدقق النظر في الخصائص الكمية للعالم المادي بما يتجاوز ما تمليه المراقبة والتجربة، بالإضافة إلى النظر في الوعي بصفته الكيفية التي يدرك أحدنا بها العالم من خلال إدراك مشاعره وتجاربه.

لا يرجى في هذا الصدد ما دون ثورة تصحيح، ولا أظن إلا أنها قد بدأت بالفعل وأني بدأت أبسطها في كتابي الجديد؛ (خطأ جاليليو: أسس علم جديد للوعي- Galileo’s Error: Foundations for a New Science of Consciousness)، فقد بدأ العلماء في وضع أساسات المنهج الجديد للوعي ودراسته، وهذه خطوة جليلة ذات أثر، فتعديل منظورنا بلا شك سيبعث أفكار ويطرح نتائج جديدة فالوعي كامن في أصل الهوية البشرية، وهو ما ينبت القيمة في كل موجود حولنا وبالتالي لن تعيد هذه الثورة تشكيل فهمنا للعالم المادي فقط، بل ستتجاوزه إلا إدراك معنى وجودنا نحن البشر.

 

المصدر

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي