ذاكرة الكاريكاتير

ذاكرة الكاريكاتير

تُعد ريشة الفنان من أقوى الأسلحة على مر التايخ، وقد يظن بعضٌ أن التاريخ يقتصر فقط على الكتب المدرسية أو اجتهاد بعض المؤرخين، فالتاريخ كائنٌ حي قابل للاجتهاد والتصحيح، وقد يصيبه الوهن والتعب، فهو في حاجة إلى إنعاشِ الذاكرة وتدارك المواقف والأحداث. ويظل الكاريكاتير الحارس الأمين على الذاكرة المنسية، فهو مؤرِّخ أمين لا يدركه هوى شخص أو مصلحة ذاتية، ويكفي النظر إلى رسوم فترة زمنية لنعرف هذه المرحلة من عمر الوطن، وتدرك فيها الزعماء ومواقفهم الوطنية والناس بأحلامهم البسيطة.(1)

 

نبذة عن نشأة الكاريكاتير

«الكاريكاتير» هي كلمة مشتقة من الفعل الإيطالي (caricare) وهي تعني (يبالغ أو يحمل ما لا يطيق)(2)، ورغم اختلاف تعريفات فن الكاريكاتير، إلا إنها جميعًا تشترك في المفهوم الساخر الذي تُحدثه الصورة الكاريكاتيرية لدى المتلقي، ويُعرِّف قاموس أكسفورد كلمة كاريكاتير على أنها اسمٌ يعني تمثيلًا غريبًا أو مثيرًا للسخرية لأشخاصٍ أو لأشياءٍ عن طريق المبالغة في ملامحهم البارزة.(3)

تمتد جذور فن الكاريكاتير إلى آلاف السنين في مختلف الحضارات، وكان معروفًا عند المصريين القدماء واليونانيين والآشوريين.(4)
والباحث في الحضارات المختلفة يكتشف أن الرسوم الساخرة كانت القاسم المشترك وأداةً لتفريغ شحنة الفنان الأول. ولعل الحضارة المصرية هي الحضارة الأغنى والأكثر تطورًا في مجال الرسم الساخر؛ إذ إنها تمتاز عن باقي الحضارات بأن الرسوم التي تعود لها تستمد مواضيعها من الحياة وليس من الأسطورة، وتضفي عليها طابعًا فلسفيًا.(5)

وفي العصر الحديث بدأ الكاريكاتير في الانتشار في هولندا في أوائل القرن السابع عشر، ثم انتقل إلى إنجلترا وفرنسا وإيطاليا. كما بدأ انتشاره في العالم العربي في مصر في مجلة «أبو نظارة» التي أصدرها الفنان المصري يعقوب صنوع عام (1878م)، وكانت له تأثيرات واسعة المدى جعلته يتصدر الفنون الشعبية على الإطلاق. وقد ساعد اقتران الصحافة بالكاريكاتير على ازدهار هذا الفن الجديد.(6)

 

كيف عبر الكاريكاتير عن الحياة الاجتماعية

أول من استعمل الرسم الساخر بهدف النقد كان الفنان الإنجليزي (وليام هوجارت – William Hogarth)،  وله مجموعة كبيرة من السلسلات التي تنتقد في غالبيتها ظواهر اجتماعية سلبية، مثل ظاهرة الانتخابات التي كرَّس لها  سلسلة «الانتخابات» التي نفذها عام (1755م) وهو يصور في إحدى الرسوم مندوبًا يجلس على كرسيٍّ محمولًا على الأكتاف، ويبدو أن المندوب هنا مرفوعٌ ليس ابتهاجًا به وإنما لكي لا يطاله الضرب، وهو يجلس على الكرسي بشكلٍ غير متوازن وعلى وشك السقوط. ويمكن تفسير الرسم بصور مختلفة بناءً على عناصر ثانوية في اللوحة، فمثلًا إذا نظرنا إلى لباس معارضي المندوب نجد أنهم ينتمون إلى طبقة الفقراء بينما يبدو المندوب سمينًا غيرَ قادرٍ على الحركة، لذلك يدور صراعٌ طبقي بين المندوب الذي يمثل أغنياء المجتمع وبين فقراء هذا المجتمع، ويمكن كذلك فهم الصورة على أنها اقتتالٌ عادي بين أنصار المندوب ومعارضيه، وبالتالي فإن هوجارت يرمز إلى طبيعة الانتخبات التي كانت تسير بشكلٍ غيرِ ديمقراطي.(7)

ذاكرة الكاريكاتير
إحدى رسوم وليام هوجارت الخاصة بسلسلة الانتخابات Complete Works, facing p. 127. Scanned image and caption by Philip V. Allingham

عندما نتوقف أمام رسوم الفنان «حجازي» عن الموظفين نستمتع بحالة إنسانية مدركة لطبيعة (الموظف الكسلان، والمرتشي، والمفلس الذي ينتظر آخر الشهر)، استطاع حجازي أن يقدم الإنسان البسيط في تعامله مع موظفين آخر زمن، واستطاعت موظفين حجازي أن تضحكنا وتبكينا على واقع يدق ناقوس الخطر وستظل تاريخًا خاصًا يمكن أن نؤرخ من خلاله لحالة المكاتب البيروقراطية التي يعاني منها الموظف والمتعامل معه.(8)

ذاكرة الكاريكاتير

 

 

«أي تضحية» إحدى رسومات الفنان الإسباني (فرنسسيكو غويا) التي هاجم فيها ظاهرة اجتماعية هي تزويج الفتيات المنحدرات من العائلات الفقيرة لرجال أغنياء رغمًا عنهن بغض النظر عن صفات أولئك الرجال، حيث صوَّر غويا العريسَ مُقوَّس الرجلين أحدب قصير القامة ممسوخ الوجه. أما الفتاة فهي جميلة ممشوقة القوام يقوم أهلها بتسليمها لذلك الرجل.(9)

ذاكرة الكاريكاتير
(يا لها من تضحية! – !What a sacrifice) – (فرنسسيكو غويا)(18)

الكاريكاتير السياسي

يُعد الفنان (توماس ناست – Thomas Nast) الأبَّ الروحي لفن الكاريكاتير والرسوم المتحركة في أمريكا. وبحلول عام (1870م)، قاد ناست حملةً مستخدمًا رسوماته كسلاحٍ ضد الفساد والرشوة للإطاحة بمحافظ نيويورك (تويد) وأعوانه من السلطة. وكانت واحدة من تلك الرسوم باسم «الذين ينتظرون العاصفة»، وصُوِّر فيها تويد وأعوانه على هيئة نسور محيطة بجثة مكتوب عليها «نيويورك»، وقد أزعجت تلك الرسوم تويد كثيرًا لدرجة أنه عرض على ناست رشوة قدرها خمسمائة ألف دولار لمغادرة المدينة، لكن الأخير رفض واستمر في توجيه الأنظار إلى أعمال تويد الذي فَرَّ في النهاية خارج البلاد ليتفادى الملاحقة القانونية، ومع ذلك، فقد تعرفت إليه الشرطة بمساعدة رسوم ناست التي جعلت من وجهه صورةً مألوفة، مما مَكَّن إلقاء القبض عليه دون سابق إنذار.(10) (11)

ذاكرة الكاريكاتير
الذين ينتظرون العاصفة (16)

 

في عام (1754)، نشر (بنجامين فرانكلن – Benjamin Franklin) رسمًا بعنوان “Join, or Die” (الاتحاد أو الهلاك)، يُصوِّر فيها أفعى قُطعت إربًا وهي ترمز إلى المستعمرات الأمريكية.
كان هدف فرانكلين هو توحيد تلك المستعمرات في دولة واحدة في أمريكا لمحاربة فرنسا وحلفائها من الأمريكيين الأصليين وإقناع الحكومة البريطانية بتأييد ذلك الأمر. لم يحقق فرانكلين هدفه، لكن كان للصورة تأثيرٌ قويٌّ ومقنع بشكلٍ كبير، فبعد عدة سنوات في بداية حرب الاستقلال الأمريكية، أعاد المستعمرون توظيف تلك الصورة واستخدموها كرمزٍ لوحدتهم ضد الحكم البريطاني.(13)

ذاكرة الكاريكاتير
(الاتحاد أو الهلاك – Join or Die) (بنجامين فرانكلين) (19)

في 3 سبتمبر (1939م) أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا، وبذلك بدأت الحرب العالمية الثانية رسميًّا. ومن أواخر عام (1939م) إلى أوائل عام (1941م)، سيطرت ألمانيا على مساحة واسعة من أوروبا، واحتلت العديد من الدول من ضمنها فنلندا، وكانت ما تزال في تحالفٍ مع الاتحاد السوفيتي بعد سلسلةٍ من الحملات العسكرية، مما سمح لهتلر أن تكون له اليد العليا في أوروبا.(14)

ذاكرة الكاريكاتير
هتلر متربعًا على عرش القارة الأوروبية(15)

لم يقتصر دور الكاريكاتير على السخرية ولم يتوقف عند كشف قضايا المجتمع أو نقد الأوضاع السياسية فقط بل كان له دورٌ مهم في الحروب لرفع الروح المعنوية وإرهاب الأعداء والسخرية من قدرتهم المزعومة، فخلال الحرب العالمية الثانية فقدت بريطانيا الحلفاء وتحالفت إيطاليا واليابان مع الألمان ووقَّع الاتحاد السوفيتي معاهدة صداقة مع الألمان، وتوالت انتصارات هتلر، فكان من الطبيعي أن تزداد حالة الإحباط ويقوى الشعور بالهزيمة لدى الجنود، وفكَّر تشرشل في حيلةٍ هي استخدام سلاح الكاريكاتير في عمل صورة كاريكاتيرية تسخر من هتلر وجنوده، وبدأت الفكرة تُنَفَّذ، ووزِّعَت المطبوعات على الجنود في كُتيبات وملصقات، فكان لها تأثيرٌ قوي في رفع الروح المعنوية وزيادة الشعور بالرغبة في هزيمة الألمان.(12)

 

في النهاية، لا بد من إيلاء مزيد من الاهتمام لهذا الفن الراقي فهو أكبر بكثير من مجرد مادة للسخرية، فهو حكايةُ شعبٍ وذاكرةٌ للأوطان.

 

المصادر:

  1. كتاب حكايات في الفكاهة والكاريكاتير، أحمد عبد المنعم، ص132
  2. حمادة هلال، 2014، الكاريكاتير: مادة دسمة للسخرية من الساسة قد تصل قوتها لتحطيم شعبيتهم، مجلة الدبلوماسي، ص55، ع75الوصف: الكاريكاتير : [Internet]. [cited 2019 Dec 23]. Available from: http://search.mandumah.com/Record/797166
  3. كتاب حكايات في الفكاهة والكاريكاتير، أحمد عبد المنعم، ص102
  4. حمادة هلال، 2014، الكاريكاتير: مادة دسمة للسخرية من الساسة قد تصل قوتها لتحطيم شعبيتهم، مجلة الدبلوماسي، ص55، ع75
  5. كتاب فن الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى أعمدة الصحافة، د. ممدوح حمادة، ص33
  6. حمادة هلال، 2014، الكاريكاتير: مادة دسمة للسخرية من الساسة قد تصل قوتها لتحطيم شعبيتهم، مجلة الدبلوماسي، ص55، ع75
  7. كتاب فن الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى أعمدة الصحافة، د. ممدوح حمادة، ص79، ص80
  8. كتاب حكايات في الفكاهة والكاريكاتير، أحمد عبد المنعم، ص242
  9. كتاب فن الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى أعمدة الصحافة، د. ممدوح حمادة، ص80،ص81
  10. Thomas Nast [Internet]. Biography. [Cited 2019 Dec 22]. Available from: https://www.biography.com/media-figure/thomas-nast
  11. كتاب فن الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى أعمدة الصحافة، د. ممدوح حمادة، ص187
  12. كتاب حكايات في الفكاهة والكاريكاتير، أحمد عبد المنعم، ص144
  13. Kiger PJ. How an 18th-Century Political Cartoon Went Viral [Internet]. HISTORY. [cited 2019 Dec 23]. Available from: https://www.history.com/news/ben-franklin-join-or-die-cartoon-french-indian-war
  14. World War II. In: Wikipedia [Internet]. 2019 [cited 2019 Dec 23]. Available from: https://en.wikipedia.org/w/index.php?title=World_War_II&oldid=931877663
  15.       Psychopathic Ward – Herblock! | Exhibitions – Library of Congress [Internet]. [cited 2019 Dec 23]. Available from: https://www.loc.gov/exhibits/herblock/psychopathic-ward.html
  16. الأعمال الفنية – السيرة الذاتية – قطاع الفنون التشكيلية [Internet]. [Cited 2019 Dec 23]. Available from: http://www.fineart.gov.eg/arb/cv/Works.asp?Ids=4992&whichpage=2&pagesize=12&fbclid=IwAR2ui-b0F9IxAactBK-F1iUDxJsykvPS3fOplQ1pHRESk_62p04KDKenqCo
  17. Should Argentina now pay the ransom to its hostage-takers? [Internet]. Prime Economics. [cited 2019 Dec 23]. Available from: http://www.primeeconomics.org/articles/99uy86vv12pplaq2qad5jqhb9ww5na
  18. Francisco Goya – What a Sacrifice! [Internet]. [cited 2019 Dec 26]. Available from: https://www.pubhist.com/w14872
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي