تعدُّ الكائنات وحيدة الخليَّة مثل البكتيريا وبعض أنواع الفطريَّات والطَّلائعيَّات، الَّتي تتغذَّى بشكلٍ أساسيٍّ على الدَّياتومات والأميبا والبكتيريا والطَّحالب، من أبسط الكائنات الحيَّة تكوينًا، حيث تتكوَّن من خليَّةٍ واحدةٍ فقط تؤدِّي جميع الوظائف الَّتي يحتاجها الكائن الحيُّ؛ بينما تستخدم الكائنات عديدة الخلايا العديد من الخلايا المختلفة. وفي جميع الأحوال تحتوي أيُّ خليَّةٍ على هياكل خلويَّةٍ متخصِّصةٍ وعضيَّاتٍ تعمل معًا بهدف توفير العناصر الغذائيَّة، وإنتاج الطَّاقة، وصنع البروتينات اللَّازمة للكائن الحيِّ.[1] ولطالما أثارت الكائنات وحيدة الخليَّة كثيرًا من التَّساؤلات الَّتي حيَّرت علماء الأحياء. فمثلًا، كيف يمكنها التَّحرُّك في الاتِّجاه المنشود رغم أنّها لا تملك دماغًا أو جهازًا عصبيًّا؟ كيف يمكنها السِّباحة نحو الغذاء اللَّازم لها باستخدام ذيولٍ صغيرةٍ سوطيَّة الشَّكل؟
حلُّ لغز الكائنات وحيدة الخليَّة
تمكَّن أخيرًا فريقٌ من الباحثين في جامعة ڨيينَّا للتِّكنولوجيا من الإجابة على هذا التَّساؤل من خلال محاكاة هذه العمليَّة باستخدام الحاسبات الآليَّة. قام الباحثون بحساب التَّفاعل المادِّيِّ بين نموذجٍ لكائنٍ بسيط التَّركيب للغاية وبين بيئته. كانت هذه البيئة عبارةً عن سائلٍ ذي بنيةٍ كيميائيَّةٍ غير موحَّدةٍ، وتحتوي على مصادر غذائيَّةٍ غير موزَّعةٍ بالتَّساوي. وكان الكائن المحاكي للكائن الحيِّ وحيد الخليَّة يتكوَّن من ثلاث كتلٍ متَّصلةٍ ببعضها البعض بواسطة عضلاتٍ مبسَّطةٍ، وجُعل الكائن قادرًا على معالجة المعلومات المتاحة عن الغذاء في بيئته بطريقةٍ بسيطةٍ للغاية، ثمَّ يمكن تعديلها بعد ذلك باستخدام خوارزميَّات التَّعلُّم الآليِّ، وتحسين معالجة الكائن الافتراضيِّ للمعلومات في العديد من الخطوات التَّطوُّريَّة.
كانت نتيجة عمليَّة المحاكاة كائنًا حاسوبيًّا يتحرَّك باحثًا عن الغذاء بطريقةٍ مشابهةٍ جدًّا لنظرائه البيولوجيِّين من الكائنات الحيَّة وحيدة الخليَّة الحقيقيَّة، ممَّا ساعد العلماء على فهم آليَّة حركة الكائنات وحيدة الخليَّة والَّتي تلخَّصت فيما يلي:
الانجذاب الكيميائيُّ
لاحظ الباحثون بمعهد الفيزياء النَّظريَّة بجامعة ڨيينا للتِّكنولوجيا أنَّ الكائن يتحرَّك دائمًا إلى حيث تقوده الكيمياء، كما يمكن للبكتيريا استخدام مستقبلاتٍ لتحديد الاتِّجاه الَّذي يتزايد فيه -على سبيل المثال- تركيز الأكسجين أو المغذِّيات، وتؤدِّي هذه المعلومات بعد ذلك إلى حركة البكتيريا في الاتِّجاه المطلوب، وهذا ما عُرف بالانجذاب الكيميائيِّ (Chemotaxis).
شبكةٌ صغيرةٌ من الإشارات والأوامر
بينما يمكن تفسير سلوك الكائنات الحيَّة الأخرى عديدة الخلايا من خلال التَّرابط بين الخلايا العصبيَّة، فإنَّ الكائن أحاديَّ الخليَّة لا يحتوي على خلايا عصبيَّةٍ، وفي هذه الحالة لا يمكن للكائن سوى القيام بعمليَّة معالجةٍ بسيطةٍ للغاية داخل الخليَّة. وحتَّى الآن لم يكن من الواضح للعلماء كيف يمكن أن تكون هذه الدَّرجة المنخفضة من التَّعقيد كافيةً لربط الانطباعات الحسِّيَّة البسيطة، مثل ربط أجهزة الاستشعار الكيميائيَّة بالنَّشاط الحركيِّ المطلوب.
والمفاجئ أنَّ العلاقة بين هذه الانطباعات الحسِّيَّة، والنَّشاط الحركيِّ للكائن وحيد الخليَّة يمكن وصفها رياضيًّا بطريقةٍ مشابهةٍ لشبكة الخلايا العصبيَّة. وهذا ما أظهره نموذج الذَّكاء الاصطناعيِّ المحاكي للكائن أحاديِّ الخليَّة على الحاسب الَّذي أعدَّه الفريق. فنحن نجد في الكائن أحاديِّ الخليَّة أيضًا ثمَّة روابط منطقيَّةٍ بين عناصر الخليَّة المختلفة تسمح بتشغيل الإشارات الكيميائيَّة الَّتي تؤدِّي في النِّهاية إلى حركة الكائن الحيِّ بطريقةٍ معيَّنةٍ.
استخدم الباحثون هذه العناصر والطَّريقة الَّتي يؤثِّر بها بعضها على بعضٍ، كما استخدموا خوارزميَّةً جينيَّةً بمساعدة التَّعلُّم الآليِّ أحدثت تغيُّراتٍ طفيفةً في استراتيجيَّة حركة الكائن على مدى أجيالٍ من الكائن الحيِّ وحيد الخليَّة. أي أنَّ تلك الكائنات أحاديَّة الخليَّة الَّتي نجحت في توجيه حركتها إلى حيث توجد الموادُّ الكيميائيَّة المطلوبة لغذائها بشكلٍ أفضل سُمح لها بالتَّكاثر، بينما الكائنات الَّتي كانت أقلَّ نجاحًا تلاشت. وبالتَّالي، ظهرت بهذه الطَّريقة بعد عدَّة أجيالٍ شبكة تحكُّمٍ تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ التَّطوُّر البيولوجيَّ سمحت لكائنٍ افتراضيٍّ وحيد الخليَّة بتحويل التَّصوُّرات الكيميائيَّة إلى حركةٍ مستهدفةٍ بطريقةٍ بسيطةٍ للغاية وبدوائر بدائيَّةٍ جدًّا.
حركةٌ متذبذبةٌ عشوائيَّةٌ ولكن بهدفٍ ملموسٍ
تظلُّ آليَّة حركة الكائنات وحيدة الخليَّة بعيدةً كلَّ البعد عن حركة أفراد المملكة الحيوانيَّة الأكثر تطوُّرًا، إذ نجدها حركة تذبذبٍ عشوائيَّةً بيد أنَّها تقود في المتوسِّط إلى الاتِّجاه المنشود في النِّهاية.
أثبتت عمليَّات المحاكاة الحاسوبيَّة، والمفاهيم الحسابيَّة المنشورة مؤخَّرًا في مجلَّة وقائع الأكاديميَّة الوطنيَّة الأمريكيَّة للعلوم (PNAS) أنَّ الحدَّ الأدنى من التَّعقيد لشبكة التَّحكُّم يكفي بالفعل لتنفيذ أنماط حركةٍ معقَّدةٍ نسبيًّا. وإذا أُخذت الظُّروف المادِّيَّة في الاعتبار بشكلٍ صحيحٍ، فإنَّ آليَّةً داخليَّةً بسيطةً بشكلٍ ملحوظٍ تكون كافيةً لإعادة إنتاج تلك الحركات المعروفة من الطَّبيعة بالضَّبط كما حدث في نموذج المحاكاة.[2][3]