رحلة داخل العقل البشري – الحلقة الثالثة

a2

|||

تخيل أنك في منتصف الليل وحيدًا في المنزل وغارقًا في نوم عميق، وفجأة وإذ بطرق مفاجئ شديد على الباب! فتستيقظ فزعًا، وتشعر كما لو أن قلبك سينفجر من شدة الفزع، فتقفز سريعًأ إلى الباب ممسكًا مفك البراغي في يدك لتطعن به ما يقابلك في الظلام، لا يهم إذا كان الذي يطرق ملاك يبكي على بابك أو جارك الذي أتى طالبًا اقتراض بعض البازلاء، حقًا لا يهم! فقد سمعت تلك الضوضاء وعقلك المفزوع قام بإطلاق سيل جليدي من المواد الكيميائية، وكل ما يدور بعقلك حاليًا هو الرغبة في الهروب أو الدفاع عن نفسك، كل هذا الذي حدث في لمح البصر ما هو إلا مجرد لعبة لتلك المواد الكيميائية في دماغك!

إن عقولنا وأجهزتنا العصبية والمواد الكيميائية التي ينتجها هي عبارة عن نظام متكامل يعمل بدقة وتميز عالٍ، على الرغم من اعتقاد البعض أن العمليات العقلية منفصلة عن العمليات الكيميائية في أجسامنا، لكن في الواقع أن مزاجنا وأفكارنا وكل ما يجول في خاطرنا الآن هو نتاج لهذه التفاعلات الكيميائية! وكما يحب أن يخبرنا علماء النفس دومًا أن: «كل عملية سيكلوجية هي في الأصل عملية بيولوجية».

لذلك دعنا نتعرف على كيمياء الجسم، وكيف يؤثر في تفكيرنا وأحاسيسنا ومشاعرنا، وسنبدأ بأصغر أجزاء الجهاز العصبي وهي «الخلية العصبية-Neuron».

الخلية العصبية هي وحدة بناء الجهاز العصبي، وتشترك في نفس البناء التركيبي لجميع خلايا الجسم، لكنها تمتلك سيال كهروكيميائي يوصل الرسائل لبعضها البعض، عقلك وحده مصنوع من بلايين الخلايا العصبية، ولكي نفهم كيف نفكر أو نحلم أو نقوم بأي عملية عقلية يجب أن نفهم أولًا كيف تعمل تلك الموصلات.

في الواقع أنت لديك أنواعًا مختلفة من الخلايا العصبية في جسمك، يتراوح طولها من بضعة ملليمترات في عقلك، إلى خلايا طويلة كالتي توجد في رجلك، وبغض النظر عن طول الخلية العصبية، فإنها تشترك في نفس التركيب، وهو: جسم الخلية، ومحور عصبي، وتشعبات، حيث أن:

– جسم الخلية «soma»:هو أهم جزء في الخلية، يوجد فيه النواة والحمض النووي والميتوكندريا والريبوزومات وغيرها من مكونات الخلية، وإذا مات جسم الخلية تموت الخلية العصبية كلها.

– التشعبات: تشبه أفرع الشجر، حيث تستقبل الرسائل وتُخبِر بعضها البعض بها، هم المنصتون الذين يهمسون لجسم الخلية ما يسمعونه من الخارج من إشارات عصبية.

– المحور العصبي: هو المتحدث، وهو عبارة عن سلك طويل ينقل الإشارات الكهربية من جسم الخلية إلى الخلايا العصبية الأخرى أو الغدد أو العضلات، ويحاط المحور بطبقة دهنية تسمى «ميالين-myelin sheath»، وهي بمثابة عازل للكهرباء؛ حيث تزود سرعة التوصيل، وإذا تحلّلَ هذا الغلاف يقل نقل الإشارات العصبية، فيما يعرف بمرض «التصلب المتعدد-multiple sclerosis»، منتهيًا بفقدان التحكم في العضلات نهائيًا.

تقوم الخلايا العصبية بنقل الإشارات العصبية الآتية من المدخلات الحسية، حيث تقوم التشعبات بالتقاط الإشارات وتحفيز الخلية العصبية؛ حيث تقوم بإطلاق شحنة كهربية خلال المحور باتجاه نهايتها والخلايا المجاورة، حيث أن نقط التواصل بين الخلايا العصبية تسمي «التشابكات-synapses»، وبالرغم من وجود أقل من واحد على مليون بوصة بين هذه التشابكات، إلا أنها لا تلامس بعضها البعض، وتسمى تلك الفجوة «بالفجوة التشابكية-the synaptic gap».

وباختصار ما يحدث عند نقل الإشارة العصبية يكون كالتالي:

عند مرور الإشارة الكهربية عند نهاية المحور العصبي يقوم بتحفيز النواقل الكيميائية، والتي تقفز عبر الفجوات التشابكية مسافرة عبر الفجوات -كالقٌبلات الطائرة- حتى تهبط في أماكن المستقبلات في الخلية العصبية المُستقبِلة، هذه النواقل الكيميائية هي عبارة عن موصلات عصبية تعمل بنفس طريقة «المفتاح في القفل»، لكنها لا تستقر للأبد في الخلية العصبية المُستقبِلة؛ فهي سرعان ما تختفي حيث يتم امتصاصها خلال عملية تسمى «إعادة الامتصاص-reuptake». وهكذا تتم العملية حيث تتواصل الخلايا العصبية مع الموصلات العصبية، حيث تقوم بدورها في الإحساس والحركة والتعلم والتذكر والنوم وكل شيء نقوم به تقريبًا.

بعض تلك الموصلات العصبية يجعلنا نشعر بالتحسن، مثل: «إِنْدُورْفِينات-endorphins»، والتي تنطلق في الدم بعد الجري عدة أميال، أو عند الوقوع في الحب، أو أكل قطعتك المفضلة من الحلوى. في الواقع نحن لدينا أكثر من مائة نوع من المُوَصِّلات العصبية المختلفة، بعضها محفز وبعضها الآخر مثبط، فعلى سبيل المثال: «نور أدرنالين- Noradrenaline » واحد من أشهرها، و التي تساعدنا على الانتباه واليقظة، «جلوتامات- glutamate» هو نوع آخر من الموصلات مسئول عن الذاكرة، لكن الكثير منه يسبب نوبات الصرع والصداع النصفي، ولهذا السبب بعض الأشخاص حساسين للمونوصوديوم جلوتاميت «MSG» الموجود في بعض الأكلات.

ومن ناحية أخرى، فإن الموصلات العصبية المثبطة تعمل على خفض احتمالية إنطلاق الخلايا العصبية إلى العمل، وأشهرها «GABA»، وكذلك «سيرتونين-serotonin» الشهير المسئول عن تعديل المزاج والجوع والنوم، فالكميات القليلة منه في المخ مرتبطة بالاكتئاب، ولذلك بعض أنواع مضادات الاكتئاب تعمل على رفع معدلات السيرتونين في الدماغ.

ومن الأمثلة الأخرى للموصلات العصبية: «أستيل كولين-Acetylcholine»، الذي يحفز حركة العضلات ويؤثر فى التعلم والذاكرة، ومن الأمراض المرتبطة بنقص الأستيل كولين مرض «ألزهايمر»، وأيضًا الموصل العصبي «دوبامين-Dopamine» مرتبط بالتعلم والحركة والمشاعر السعيدة، والكميات المتزايدة منه مرتبطة بمرض «الفصام-schizophrenia»، وكذلك السلوك الإدماني والقهري.

لذلك الموصلات العصبية يمكن تشبيهها بساعي البريد الذي يعمل لدى الجهاز العصبي، لكنهم ليسوا الموصلين الوحيدين؛ حيث أنهم في منافسة مع جهاز الغدد الصماء، والذي يطلق الهرمونات التي تعمل كموصلات عصبية في الدماغ مؤثرة في المزاج والساعة البيولوجية واليقظة، ويقومون أيضًا بتنظيم معدلات الحرق، وتراقب جهاز المناعة ومعدلات النمو، ويساعد في عملية التكاثر الجنسي والشهية والانجذاب والغضب وغيرها.

بينما تعمل الخلايا العصبية والتشابكات العصبية بسرعة عالية، لكن يعمل جهاز الغدد الصماء ببطء وهدوء؛ حيث تطلق الغدد الصماء الهرومونات في الدم ومنه ينتشرون في الخلايا خصوصًا في المخ، ومع أن الجهاز العصبي وجهاز الغدد الصماء متشابهان في أن كليهما ينتج الموصلات الكيميائية، لكنهم يختلفون في سرعة أداء أعمالهم، حيث يمكن تشبيه الجهاز العصبي بشخص يريد أن يبلغك رسالة فيرسل لك رسالة نصية في الحال، ويمكن تشبيه جهاز الغدد الصماء بشخص يريد أن يبلغك رسالة أيضًا لكنه يقوم بكتابة رسالة ورقية بالقلم ويضعها في ظرف ويكتب العنوان ثم يقوم بغلق الظرف ويضعها في صندوق البريد! لكن السرعة ليست دائمًا أفضل، وجسدك سوف يتذكر الرسالة الورقية لمدة أطول من الرسالة النصية، وهذا يفسر لماذا نستغرق وقتًا لنهدأ بعد نوبة غضب أو شجار.

يشمل جهاز الغدد الصماء:

1- غدّتين فوق كظرية: تقعان فوق الكليتين، ويفرزان الأدرنالين الشهير بحالة الهروب أو الشجار، وينظم أيضًا معدل ضربات القلب وسكر الدم وضغطه معطيًا الجسم طاقة عالية ليقاوم أو ليهرب.

2- البنكرياس: يقوم بإفراز هرموني الأنسولين والجلوكاجون المسئولان عن تنظيم معدل السكر في الدم.

3- الغدد الدرقية والجاردرقية: الموجودين في الرقبة من الأمام، واللتان تفرزان الهرومونات التي تنظم معدلات الحرق في الجسم ومستوى الكالسيوم في الدم.

4- الخصيتين في الرجال: يفرزان هرمون تيستوستيرون.

5- المبايض في النساء: يفرزان هرموني الأستروجين والبروجستيرون.

كل هذه الغدد الصماء هامة بالطبع ، لكن يحكمها جميعًا غدة واحدة تسمى «الغدة النخامية» الموجودة في الدماغ، وهي تفرز أيضًا هرمون النمو، وهرمون «أوكسيتوكسين-Oxytocin» أو ما يطلق عليه هرمون الحب، ولكن الغدة النخامية يتحكم فيها أيضًا رئيس أعلى منها يسمى «تحت المهاد-hypothalamus» الموجود في الدماغ أيضًا.

إليك هذا المثال لتفهم كيف يعمل الجهاز العصبي وجهاز الغدد الصماء معًا عند الاستجابة للمؤثرات الخارجية:

إذا اقتحم أحد منزلك الآن بينما أنت تجلس بهدوء تقرأ هذا المقال؛ فإن أول شيء سيحدث هو أن المدخلات الحسية التي استقبلتها من خلال عينيك وأذنيك عبر الجهاز العصبي تُطلق إشارة سريعة من تحت المهاد لتصل سريعًا للغدة النخامية، والتي ترسل إشارة في أقل من لمح البصر للغدتين فوق الكظرية لتفرزا هرمون الأدرنالين، والذي ينطلق لبقية جسمك ثم لعقلك، والذي يدرك بعدها بقليل أن الذي اقتحم المنزل ما هو إلا أخاك الصغير كان يعبث معك قليلًا ويريد إخافتك، لذلك يأخذ عقلك وقتًا ليهدأ ثانية ويدرك أنه ليس خطرًا حقيقيًا.

 

 

ترجمة: ماريا عبد المسيح Maria Abd Almasseh

مراجعة: Mohammad Marashdeh

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

المصدر: Crash course

http://sc.egyres.com/SHe2q

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي