رواية «كل الأسماء»: بين الحياة والموت

bigstock-live-and-dead-tree-29484293

كل الأسماء|سجل المحفوظات|رواية كل الأشياء||

«كل الأسماء» (All the names)، هي رواية للكاتب البرتغالي الحاصل على جائزة نوبل للأدب (جوزيه ساراماجو – José Saramago). رواية مكتظة بشخصيات بلا اسماء: فـ من بين مدير المحفوظات العامة، ونائبيه، وموظفي السجل، والطبيب، والممرضة، والسيدة القاطنة بـ الطابق الأرضي، راعي الغنم، حرّاس المقبرة العامة، وشخصيات أخرى يُشار إليها جميعًا بأوصافها أو مناصبها دون ذكر أسمائها، شخصٌ واحدٌ أضفى له الكاتب اسمًا؛ هو الموظف من الدرجة المتواضعة بالسجل المدني؛ (جوزيه) الذي يعمل كـ كاتب مهمته تسجيل بيانات المواليد والوفيات وحالات الزواج.
(جوزيه)؟ نعم هو في الحقيقة اسم متداول وشائع جدًا في البرتغال، وهو في الحقيقة بمثابة لمحة ضمنية بـ كون البطل شخصية اعتيادية تقليدية جدًا.
وبالطبع (جوزيه) هو اسم الأديب والروائي جوزيه ساراماجو؛ ربما تنبع التأملية الحالمة لـ ساراماجو بشأن الهوية المجهولة للأحياء والأموات من واقعة انتسابه لاسمه- جوزيه- من خلال خطأ تصادفي للموظف الذي قام بتسجيل ميلاده عام 1922.

كل الأسماء
غلاف رواية كل الأسماء

قد ينتابك شعورٌ بالاختناقِ والقشعريرة بينما تطالع الصفحات الأولى من الرواية، ومن المُرَجَح أن المدينة الكئيبة المضمحلة التي تدور بها أحداث الرواية هي العاصمة البرتغالية لشبونة، على الرغم من عدم وجود معالم في الرواية تشير إلى هوية المدينة. الشخصيات في الرواية لم يُجَردوا فقط من أسمائهم، لكن لم يتم الإشارة إلى سماتهم وملامحهم الظاهرية أيضًا، فنحن لا نعرف حتى كيف يبدو جوزيه.

من المؤكد أن خيال ساراماجو متأثرٌ بـ (فرانز كافكا- Franz Kafka)، حيث تظهر سمات التكنيك الـ كافكاوي في طريقة الوصف الدقيق للسجل المدني ومُستودَع السجلات. في السجل المدني، تُحفظ وثائق المتوفين منذ وقت طويل بالقربِ من مكاتبِ الكَتَبة الذين يمررون أقلامهم على عجلةٍ بلا اكتراث؛ فيما تُحفظ سجلاتُ المواليد وحالاتُ الزواج في مكانٍ مترامٍ عن مكاتبهم، في مكان مظلمٍ داخل المبنى؛ ولربما على الراغبين في الاطلاع على مستندات الأحياء أن يأخذوا معهم خيط أريادني* لعلهم يستطيعوا العودة من غياهب الظلمةٍ حيثُ النور من جديد.

ينكب الكتبة على نسخ البيانات بدقة واضعين نصب أعينهم أخلاقيات المهنة، ومن بينهم جوزيه الخجول والذي يبدو كأبله، غير أنه على وشك البدء بمغامرة جسورة!

لدى جوزيه هواية ينغمس بها حين لا يكون منكبًا على عمله وهي جمع القصاصات الصحفية الخاصة بالمشاهير؛ وفي أحد الأمسيات حاول أن يجتاز مكانًا محظور بالسجل لكي يكمل قصاصاته ببعض من وثائق المواليد والزواج؛ وبينما يجمع وثائق شخصياته يجد بينها وثيقة لامرأة مجهولة التقطها عن طريق الخطأ، ولسبب غير معلوم يبدأ جوزيه بتعقب هذه المرأة. في البداية تتطور الأحداث ببطء مما يُشعر القارئ بثقلها؛ ربما نتيجة لولع ساراماجو بالتأملات  والتي غالبًا ما تكسب رواياته رونقًا خاصًا إلا أنها تضفي عليها ثقلًا. يظهر ذلك مثلًا في سؤاله المستنكر حول قلة مستعمرات الفئران التي تتغذى على أوراق سجل المحفوظات ثم يستطرد في ترجيح السبب في ذلك إلى أن تلك الكائنات «سيكون عليها أن تنام في ظروف صعبة من ندرة الماء وانخفاض الرطوبة في الجو، في نظام جاف كهذا، يجد المرء نفسه عالقًا حيث وقع اختيار القدر عليه أو أتى به حظه العاثر. مما يسبب لتلك الكائنات هزالاً شديدًا مع آثار سلبية للغاية على عملية التكاثر لديهم». ويبدو ساراماجو كما لو أنه يصعب الأمر على قارئه؛ حيث يعرض رواياته في فقرات طويلة ذات عبارات طويلة مرصوصة ومثقَلة بالجُمَل الاعتراضية. وقلّما يستخدم علامات الترقيم: فعلامات الاستفهام والنقطتان والفاصلة المنقوطة مثلًا لا وجود لهم في الرواية، فيما اكتفى باستخدام الفاصلة والنقطة.

كل الأسماء
الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو، (16 نوفمبر 1922 – 18 يونيو 2010)

ثم تبدأ أحداث الرواية أخيرًا في التسارع؛ فتبدأ ملاحقة جوزيه الغامضة -والتي ربما لا معنى لها- أن تحمله على أخذ المزيد من المجازفات الأخطر والتي تتمادى لحد الوصول إلى سرقة وتزييف بعض الوثائق، تبدو الرواية وكأنها نسخة عبثية من رواية «الجريمة والعقاب» (Crime and Punishment)، أو رواية «القلب الواشي» (The Tell-Tale Heart)؛ فـ جوزيه لم يحقق أبدًا الهدف الغامض المُبهَم من هوايته، ولكن من خلالها تطورت شخصيته إلى الهوس البطولي بينما تطورت بيئته الحياتية أيضًا إلى طبيعة متكلّفة وأكثر جنونية.

بين وقت وآخر في الرواية يناجي جوزيه سقف غرفته كما لو أنه عين الله أو شخصية حكيمة توحي له بحلول، ومع ذلك يصاب بخيبة أمل حيال الطبيعة الابتذالية الغالبة على ذلك الحديث. حتى يقوده بحثه أخيرًا إلى المقبرة العامة حيثُ أجواؤها الجنائزيةُ المهيبة ومظهرها القوطي، وإذا أخذنا في الاعتبار مخاوف دون جوزيه المرضية، فقد أنتجت هذه العوامل توليفة من أعظم عبارات ساراماجو وتوصيفاته؛ فالمكان:

بكسائه الأخضر الذي يغطي أجزاءً متفرقةً منه، تتخلّلهُ بعضُ الأزهارِ والنباتاتِ الشائكة، وكذا الأشجارُ الباسقةُ التي تضربُ جذورُها عميقًا فتزيلُ الأضرحةَ وترتفعُ بـ قليلٍ من العظامِ في مشهدٍ مُريع

ففي هذه المقبرة يتخيل جوزيه «الهيئة المشؤومة للموتِ يجزُ الأرضَ بمنجَلِهِ المُلطَّخ بالدماءِ حتى يُذعِن الموتى ويستسلموا لسلطَتِه». لكن بدلاً من الموت يقابل جوزيه راعيًا للغنم محاطًا بهالة من الوقار، حيث يقوم هذا الراعي بتغيير أرقام شواهد القبور؛ حتى ينالُ كلٌ من الموتى نصيبَهم العادل من الحِداد.

وفي هذه المدينة، يبقى الموتى بمعزل عن الأحياء، فـ للأحياءِ متاجرهم ومكاتبهم التي يترددون عليها، بينما يبقى الموتى أسرى قبورِهم، وفي السجل المدني لا حاجة هنالك لعزل الموتى عن الأحياء؛ فقد ألهمت مغامرة جوزيه هذه رئيس المحفوظات، فقرر أنه من الآن فصاعدًا ستخالط وثائق الأحياء نظيرتها الخاصة بالموتى. وفي ذُروة الرواية يتقرر اتباع نظام جديد للحفظ في سجل المحفوظات.[1]

المغزى من الرواية غامض، فلا يعرف جوزيه الهدف من مغامراته ولا ما يسعى إليه حقًا أهو الحب، أم ربما معنى للحياة، وقد يكون الأمر برمته نتيجة للفراغ والرتابة اللذان تخضع لهما حياته وبالنسبة لشخص منضبط وملتزم بالتعليمات مثله كان يبالغ حيال مغامراته أو خرقه للقوانين.

الرواية ترجمتها إلى الإنجليزية (جول كوستا-Jull Costa)، وترجمها إلى العربية صالح علماني.

لتجميل الرواية اضغط هنا

هوامش:

*خيط أريادني: ((Ariadne’s thread (logic) الخيط الذي أعطته أريادني لـ ثيسيوس واستعان به ليتمكن من الخروج من المتاهة (أسطورة إغريقية).
* «الجريمة والعقاب»: رواية للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي.
* «القلب الواشي»: قصة قصيرة للكاتب الأمريكي (إدغار آلان- Edgar Allan).

________________________

ترجمة: مريم ناصف
مُراجعة علمية ولُغوية: آلاء مرزوق
تحرير: زياد الشامي

المصدر:
1- النيويورك تايمز

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي