يُقرن اسم «زينون» الإيلي (المولود عام 490 ق.م) دائمًا باسم أستاذه بارمنيدس، فهو تلميذه والمدافع عنه، وكل ما وصلنا عنه هو حججه الشهيرة والتي كانت في الأصل لإفحام المعارضين لمذهب بارمنيدس. وهو الذي ظلّ مقتنعًا بأفكاره لأنّه اعتقد أنّه بمقدوره أنْ يقلب الطاولة على الآراء المنافسة التي تتحدث عن «المنطق السليم».
وثمة رواية يرويها لنا أفلاطون كيف أنّ بارمنيدس وزينون قد هجرا بلدتهما إيليا قاصدين أثينا؛ لحضور مهرجان «باناثينا الرياضي العظيم» الذي يقام كل أربعة أعوام، وتكون فيه عروض للموسيقى والشعر والرياضة ويخصص لآلهة أثينا. وبينما هما هناك، فإذا هما يلتقيان بسقراط الذي كان صغيرًا آنذاك، فقرأ عليه زينون رسالة كان قد كتبها، فسأله سقراط عن الكتاب ومضمونه، فأجاب زينون بأنّه «كتاب يدافع فيه عن بارمنيدس» ضد من يسخرون منه، وأنّه يرد عليهم فيه مستخدمًا منطقهم نفسه، وكانت عدته في ذلك مجموعة من المفارقات «paradox» غاية في البراعة والحذاقة، في محاولة للتشكيك في رؤى المنطق السليم، بتوضيح أنّ مثل هذه الرؤى قد تقود إلى نتائج غير مقبولة، وقد كان غرضه من ذلك هو إعلاء شأن بارمنيدس، على الأقل بتوضيح أنّ آراء معارضيه ليست بأفضل حالاً من آراء أستاذه.
ينسب إلى زينون مجموعتان من الحجج:
- الأولى، وعددها أربعة تعارض التعدد.
- الثانية، وعددها أربعة أيضًا، ضد الحركة.
المفارقات أو الحجج ضد التعدد:
نتذكر أنّ بارمنيدس قال بالواحد، أي أنّ الوجود واحد لا ينقسم، فليس له من أجزاء، إذن فلا تعدد هناك. ولتأكيد هذه النتيجة لا يبدأ زينون من مذهب بارمنيدس، بل من ادعاء المعترض بأنّ التعدد موجود، أي أنّ الأشياء كثيرة ومتعددة. ويسوق حججا أربعة:
- فلنأخذ الأشياء المتعددة أولاً من حيث الحجم. فأحد شيئين: إما أنّ الحجم مكون من أجزاء لا تنقسم أي منها إلى وحدات متميزة، وإما أنه وحدة متصلة أجزاؤها لا يتميز بعضها من بعض. فأنت في الفرض الأول ستصل إلى اللانهائي في الصغر إلى حد الوصول إلى ما لا حجم له. وفي الفرض الثاني فإنّ الحجم الواحد المحدود سيحتوى على أجزاء لا نهاية لعددها، وسيكون هذا كبيرًا إلى مالا نهاية، ولا هذا ولا ذاك بمقبول.
- ولنأخذها الآن من حيث العدد وسنصل ابتداءً من نفس المقدمة، أي من أنّ الأشياء متعددة أو كثيرة، إلى نتائج متناقضة، إذا كانت الأشياء كثيرة فلا بد أنّ عددها هو لا أكثر ولا أقل، إذن فهي متناهية. ولكن إذا كانت الأشياء كثيرة فإنّها لانهائية العدد، حيث يكون بين كل شيئين شيء آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية، فهذا إذن تناقض.
- أنّه إذا كان هناك بالفعل تعدد، فإنّ كل شيء سيكون متميزًا عن الأشياء الأخرى، وخارجها، وسيقع كل منها في مكان، ولكن هذا المكان يجب أنْ يقع في مكان، وهكذا إلى ما لا نهاية، وهذا غير ممكن.
- الحجة الرابعة هذه، يقال أنّ زينون ذكرها في حوار مع بروتاجوراس: إذا كان هناك تعدد وكثرة بالفعل، فإنّ النسبة بين وزن قنطار من القمح ووزن حبة منه؛ يجب أنْ تنعكس في الفرق بين الصوت الصادر عن وقوع قنطار وعن وقوع حبة؛ فإما أنّ للحبة صوتًا ولكننا لا نسمعه، وإما أنّ صوت القنطار غير حقيقي لكننا نسمعه، ولا هذا ولا ذاك بمقبول.
المفارقات أو الحجج ضد الحركة:
- مفارقة «الملعب» وتمسى أحيانًا «القسمة »: لا يمكنك اجتياز الملعب، إذ لا يمكن اجتياز عدد لا متناهٍ من النقط في زمن متناهي، فلا بد أنْ تجتاز نصف المسافة قبل أنْ تجتاز المسافة كلها، وكذلك لا بد من اجتياز نصف نصف المسافة أولاً، وهكذا إلى ما لا نهاية، لأنّ المسافة تنقسم إلى ما لا نهاية له، وهذا غير مقبول.
- حجة أخيل- البطل شبه الأسطوري المشهور بسرعته- والسلحفاة، فلا يمكن لأخيل أنْ يسبق السلحفاة، إذ لو فرضنا أنّه سمح لها أنْ تتقدمه بمسافة ما، فإنّه لابد أنْ يصل أولاً إلى المكان الذي بدأت منه السلحفاة تسير، ولكن السلحفاة تكون قد تحركت عندئذٍ ويجب على أخيل أنْ يلحقها، وهكذا كلما اقترب منها سبقته، وهو غير مقبول لأنّه يتعين عليه أنْ يمر أولاً بنصف مسافة الطريق، وقبل أنْ يصل إلى منتصف الطريق لا بد له أنْ يقطع ربع مسافة الطريق، ولكي يقطع هذه المسافة أيضًا لا بد له أنْ يقطع مسافة ثمن الطريق، وهكذا دواليك.
- مفارقة السهم. فالسهم المنطلق في الهواء يكون في الحقيقة في حالة من الثبات لا يتحرك، حيث أنّك لو رصدته في كل لحظة من لحظات طيرانه لوجدته يشغل حيزًا من الفضاء يتماثل معه من حيث الحجم، فمثلاً السهم المتحرك الذي يبلغ طوله (12بوصة) يشغل سلسلة من المساحات طول كل منها (12بوصة)، فإنّ أي شيء يكون في حالة سكون إذا كان في مكان مساويًا لحدوده، إذن فالسهم الطائر هو في الحقيقة ساكن وليس متحركا.
- حجة أو مفارقة الصفوف المتحركة (وأحيانًا الملعب)، فلنفرض أنّ هناك ثلاثة صفوف مكون كل منها من وحدات أربع، وأن المجموعة (أ) ثابتة لا تتحرك، ولنفرض أنّ المجموعتين (ب- ج) تتحركان في اتجاه عكسي وفي سرعة واحدة، فإننا سنجد أنّ (ب1) و(ج1) سيصلان في نفس الوقت إلى الجهتين المتضادتين للمجموعة (أ). وهنا يقول زينون (ب4) سيكون قد مرّ أمام كل المجموعة (ج)، و(ج4) أمام كل المجموعة (ب)، هذا في حين أنّ كلا منهما لن يكون قد مر إلا أمام نصف المجموعة (أ)، بينما المجموعة (أ) مساوية لكل من المجموعتين الأخيرتين، وهكذا فإنّ ضعف الزمن يساوي نصفه، وهذا تناقض. هذه كانت الثمان مفارقات التي ابتكرها زينون والتي وصلت إلينا، وإنْ كان هناك بعض المؤرخين قال أنّه لم يتبقَّ لنا من مفارقات زينون سوى تسع على النحو التالي: أربع منهم تتحدث عن الحركة، وثلاث عن فكرة التعددية، وواحدة للرد على فكرة الفضاء، وأخرى توضح أنّ الحواس لا يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق بها، وقد يكون هناك المزيد من المفارقات.
يذكر بلوتارخوس في السيرة الذاتية التي كتبها عن رجل الدولة بريكليس أنّه «كان يومًا تلميذًا لزينون وأنّه قد تعلم منه مجموعة من المفارقات لتفنيد آراء معارضيه للدرجة التي جعلتهم يصابون بالحزن والكدر.. حتى أرسطو يعترف بأنّ زينون هو مبتكر الجدل، وإنْ كان أفلاطون قد رأى أنّ سقراط تعلم منه الجدل أيضًا، إلا أنّه يرى أنّ أسلوب الجدل الذي استخدمه سقراط كان أسلوبًا إيجابيًا يختلف عن أسلوب زينون السلبي، فلم يكن لدى زينون إلا الدفاع عن الحوار الذي يوجد داخل فلسفة أستاذه بارمنيدس. بَيْدَ أنّ التاريخ قد أنصف زينون، وليس بكشف الغطاء عن جوانب الخير في حياته، أو بإثبات صحة النتائج التي توصل إليها، بل باكتشاف جانب الاستفزاز والاستثارة في مفارقاته. وكما كتب عالم الرياضيات الشهير «ألفريد وايتهد 1932» قائلاً: «إنّ محض الإقبال على تفنيد مفارقاته على مدار كل قرن هو دليل على نجاحه الباهر الذي حققه زينون… فلم يدرس أحد فلسفته دون أنْ يحاول تفنيدها، ورغم ذلك يرى الفلاسفة في كل قرن أن آراءه ما زالت تستحق التفنيد..»، فلقد كُتبت لمفارقات زينون لاسيما تلك التي تحدث فيها عن الحركة أنْ تعمر أطول من المفارقات الأخرى التي ذاعت في عهد ما قبل سقراط، فلقد ناقشها علماء الرياضيات وعلماء الطبيعة والفلاسفة بالتفصيل. وقد نفخ برتراند راسل في هذه المفارقات روح حياة في أوائل القرن العشرين. بل إنّها زحفت إلى مجالات أخرى حيث اتسع استخدامها لدرجة أنّها زحفت إلى مجال الأدب والمسرح بدءًا من رواية «الحرب والسلام» لتولستوي والذي استخدم فيها هذه المفارقات لإقامة علاقة تشبيهية ضعيفة بين إدراك الحركة وفهم التاريخ، ووصولاً إلى مسرحية هزلية من أدب القرن العشرين. ولا تثير هذه المفارقات إعجابنا فحسب، بل يقال أنّ تأثيرها لا يزال قائمًا وفعالاً حتى اليوم، فكثيرًا من هذه المفارقات يتضمن حديثًا عن مفهوم «اللانهاية» بطريقة أو أخرى، بل ويميل الفلاسفة والعلماء من مختلف العصور إلى استخدام مفارقات زينون كمشجب يعلقون عليها أفكارهم التي تتناول اللانهاية، منها على سبيل المثال إمكانية تقسيم المكان، والمادة، ومفاهيم الوقت والحركة. وقد دفع زينون المفكرين إلى اقتحام عالم اللانهاية المحموم بالمشكلات، فقد فتح طاقة من جهنم أخذت تقض مضاجع العلماء ومنهم نيوتن بعد ألفي عام، بل لا تزال هذه المفارقات يُستشهد بها في النزاعات المعاصرة بين علماء الفيزياء.
ربما القارئ لا يزال في حيرة من أمره إزاء هذه المفارقات أو بالأحرى الألغاز التي لا تنتهي، ففكرة وجود سلسلة من التقسيمات اللانهائية لم تشرح بشكلٍ وافٍ حتى القرن التاسع عشر، ففي هذا العصر كان نيوتن ولايبتنز قد أحرزا بعض التقدم فيما يتعلق بنوعية مشابهة من هذه الأسئلة باستخدام علم حساب التفاضل والتكامل، وعلى الرغم من أنّ هذا العلم قد أعطى فرصة لبعض العلماء لإجراء العديد من الحسابات عن الحركة والتغير، التي كان من المستحيل إجراؤها في الماضي، فقد ظل الكثير من الأفكار فيه ملتبسًا إلى أنْ جاء العلماء ديديكايند وفايشتراس وكانتور وغيرهم من علماء الرياضيات بالقرن التاسع عشر. ويمكننا أنْ نقول أنّ التأثير الأكبر لأفكار بارمنيدس وزينون هو إثارة الاهتمام ببعض أعمال مفكري القرن الخامس قبل الميلاد أمثال إمبيدوكليس وأناكساجوراس وليوكيبوس وديموقريطس ولا سيما الأخيرين منهم.
صورة زينون في العالم الإسلامي:
فقد نُقل لهم بعض حججه في كتاب الطبيعة، ويورد يحيى بن عدي في تعليقه على كتاب الطبيعة حجة زينون «إنْ كانت الحركة موجودة لزم أنْ يقطع ما لا نهاية في زمان متناهي، لأجل أنّ النقط التي على العظم بلا نهاية».
أما المبشر بن فاتك فيتكلم في كتابه عن حياة زينون ويقدم لنا وصفًا طبيًا لهذه الحياة التاريخية، ثم يورد بعض حكمه وآدابه، ولكنه يعتبره مؤسس المدرسة الميغارية. يقول: «ولكن زينون مبدعًا رأي الشيعة المسماة ماغوريقي» وهذا خطأ. ولكنه يذكر أنّ مذهبه ومذهب بارمنيدس كان «مذهب الغوامض». ويرى عبد الرحمن بدوي محقق كتاب المبشر أنّ الغوامض تعني هنا الديالكتيك، وأنّ هذه الفقرة من كلام المبشر مأخوذة من كلام ديوجانس.
أما الشهرستاني فقد ذكر زينون الأكبر، ثم نسب إليه أقوالاً لا تمت إليه بصلة ومن هذه الأقوال: أنّ المبدع الأول كان في عمله صورة إبداع كل جوهر…