سارة تيزديل.. شاعرة تكتب من النجوم

GettyImages-2695897-56f924793df78c784192e75a

كانت سارة تيزديل من أوليات النّساء الأمريكيّات اللّواتي حظين بمكانةٍ رفيعةٍ في الشّعرِ الأمريكيّ. أسرت بشعرها قلب الجمهور ونالت اعترافًا من نقّاد فترتها بعذوبة كلماتها ورهافة إحساسها. وحين تقرأ شعرَ تيزديل تأخذك كلماتها لعالمٍ خياليٍّ سماويٍّ قادمٍ من موطن النّجوم، ولا بدّ أن تلمسك أحد أبيات قصائدها إن لم تفعل قصيدةٌ كاملةٌ؛ فهي تغوص بتعبيراتها في أحاسيس النّفس المتناقضة بجمالها وخوفها وحزنها.

طفلةٌ ضعيفة

صورة للشاعرة سارة تيزديل في طفولتها
صورة للشاعرة سارة تيزديل في طفولتها

فلأجمع نفسي من نفسي ثانيةً
فلأجعل من أنفسي المتناثرة نفسًا واحدةً
أدمجها إلى كرة بلّورٍ لامعةٍ
لأرى فيها القمر والشّمس السّاطعة

فلأجلس كالعرّافة، منكبّةً لساعاتٍ
أشاهد الحاضر ذاهبًا والمستقبل آتٍ
وصور النّاس مراوغةٌ صغيرةٌ وفي عجلةٍ
ذهابًا وإيابًا بالعُجْب مضطرباتٍ

عرّافة البلّورة – سارة تيزديل (ترجمةٌ شعريّةٌ: أحمد مجدي)

ولدت سارة تيزديل في ولاية ميزوري الأمريكيّة في أغسطس عام 1884 لعائلةٍ ثريّةٍ، وكانت أصغر الأطفال في أسرتها ولديها ثلاثة إخوةٍ. أحبّتها أختها الكبرى «ماري» وعُدّت الأقرب لها من بين إخوتها وقدّمت لها العناية بشكلٍ دائمٍ. ومنذ صغرها بدت سارة طفلةً هزيلةً ومعتلّة الصّحّة باستمرارٍ، مناعتها ضعيفةٌ وسرعان ما تلتقط الأمراض المختلفة، ما جعل والديها يحرصان على تعليمها منزليًّا. ولم تحظَ بالتّواصل والاقتراب مع أقرانٍ مقاربين لها في السّنّ إلّا في بداية العاشرة من عمرها.

ولأنّها كانت مدلّلةً أيضًا لم يجعلها والداها تقوم بأيّ أعباءٍ منزليّةٍ حتّى وصفت نفسها بـ«الزّهرة في عالمٍ كادحٍ». ساهمت الوحدة الّتي أحاطت بها منذ الصّغر في اتّجاهها إلى القصص والحكايات كأداةٍ للإمتاع والتّسلية. وأضحت تتأمّل الجمال من حولها وتخطّ خواطرها وأفكارها عن العالم حولها وأحلامها كفتاةٍ، وتسكب كلَّ ذلك على الورق.

السطوع الأدبي

حُبّ سارة تيزديل للجمال كان باديًا في وقتٍ مبكّرٍ حتّى لاحظت والدتها هذه السِّمَة في ابنتها، وهو ما جعل الشّاعرة في باكورة شبابها تصبح عضوًا في جماعةٍ إبداعيّةٍ للنّساء الموهوبات، أطلقت على نفسها اسم «بوترز – Potters». وعن الجماعة الإبداعيّة انبثقت مجلّةٌ مطبوعةٌ يدويًّا أُطلق عليها اسم «بوترز ويل – The Potter’s Wheel» وفيها نشرت سارة أوائل قصائدها.

ولم يختلف مسار سارة تيزديل الأدبيّ عن بدايتها، ففي عمر الثّالثة والعشرين قصّت سارة شريط إنتاجها الشّعريّ حين أصدرت كتابها الأوّل «قصائد سونيت إلى دوسي وقصائد أخرى – Sonnets to Duse and other poems» في عام 1907، وكان ديوانها الّذي تلاه هو «هيلين طروادة وقصائد أخرى» إنتاج عام 1911. ويقولُ النّقّاد أنّ قصائد تيزديل تتميّز بكونها غير معقّدةٍ، ولكنّها مليئةٌ بلغةٍ سحريّةٍ ومشاعر مثيرةٍ. وكتب واحدٌ من مراجعي الكتب عن ديوانها الصّادر في 1917 «أغنيّات حبٍّ»، واصفًا سارة تيزديل بأنّها «أوّلًا وأخيرًا ودائمًا مغنّيّةٌ.»

يا جميلةً قد امتلأت دمعا
حيث كروبٌ مرّت حفرت أثرا،
أصلّي ﻷن تمنحيني نعمةً:
أن أرى وجهك؛ البهاء والحزنا
أرى -قبل أن يذهب ويَخْفَى
وبأملنا وخوفنا يعصف عصفا
إلى حضن موتٍ لا يعرف شبعا-
شوقًا فيه ظلّ سِنينًا لا يهدا.
حزنك نقيٌّ لا يحمل امتعاضا
فتحتَ شلّال شَعرك والظّلمة قاسيةٌ
تكمن قوّةٌ تحلّق وتغنّي دوما
وكذا صمت فمك التّعِبِ ليس يأسا.
ربّما ﻷنّا أشياء تدعو اللّه جُبنا
يحبّ اللّه صمته بين بني اﻷرض اصطفاءا.

إلى إلينورا دوسي (1) – سارة تيزديل (ترجمةٌ شعريّةٌ: أحمد مجدي)

وكتبت تيزديل خلال فترة حياتها القصيرة سبعة دواوين شعريّةٍ، حازت على إعجاب العامّة بسبب شِعرها ذي الصّبغة الغنائيّة الجيّدة. وعبّرت سارة في أشعارها عن المرأة وتغيّرات منظورها ورؤيتها عن الجمال والحبّ والموت، وكانت قصائدها غنيّةً بالموسيقى والعاطفة النّقيّة والصّدق. ويؤكّد النّقّاد أنّ شهرتها في عصرها تعود لإخلاصها في التّعبير عن الجمال.
ورسمتْ كثيرٌ من قصائد تيزديل منعطفات حياتها المتغيّرة، وما يطالها من تطوّراتٍ تطرأ على نظرتها للحياة منذ خَبُرت الحياة وهي فتاةٌ صغيرةٌ مُحاطةٌ بالحماية الزّائدة في إس تي لويس بميزوري وحتّى أيّام نجاحها لتصير كاتبةً ذات اسمٍ كبيرٍ في نيويورك ونهايةً باكتئابها وخيبة الأمل الّتي غلّفت حياتها في أواخر أيّامها.

غلاف كتاب أغنيات الحب لسارة ديزديل.
غلاف كتاب أغنيات الحب لسارة تيزديل.

وفي عام 1914 تزوّجت سارة تيزديل من إيرنست فيلسينجر الّذي كان أحد معجبيها ومحبّي أشعارها، وانتقلت معه إلى نيويورك في 1916 لتنطلق إلى دائرةٍ أدبيّةٍ أكثر اتّساعًا ورحابةً. وهناك أصدرت ديوانها «أغنيّات حبٍّ» في 1917 وحازت به على جائزة كولومبيا للشّعر في عام 1918، الّتي صار اسمها بوليتزر حاليًّا، وجائزة جمعيّة أمريكا للشّعر. وصارت سارة تيزديل أوّل امرأةٍ تحصد جائزة البوليتزر الشّعريّة بمسمّاها القديم.

ويقول النّقّاد أنّ الدّواوين الثّلاثة الأخيرة بعد «أغنيّات حبٍّ» هم الأفضل في المسيرة الشّعريّة لسارة. وهي «لهيبٌ وظلالٌ»، و «ظُلمة القمر»، و«نجوم لليل». وكان «ظُلمة القمر – Dark of the Moon» هو أكثر ما أظهر حساسيّتها اللّغويّة. ووصف نقّادٌ في عصرها كتابها «لهيبٌ وظلالٌ» بأنّه قفزةٌ لتيزديل، وعبّرت فيه عن فلسفة الحياة والموت وتطوّرت فكريًّا منذ نشر كتبها الأولى، وصارت أكثر نضجًا.

انطفاءٌ وذبول

أحسّ الرّبيع بعيدًا.. بعيدا
عطر براعم وأوراق، باهتًا بعيدا
آهٍ للرّبيع فكيف جَرُؤ يحلّ
بعالمٍ بات حزينا..
حزنًا عميقا؟

تصير الشّمس إلى الشّمال
ويلمع نجمٌ في مساء اﻷيّام الطّوال
كيف يتسكّع ضوء النّهار
حتّى يقتتل الرّجال..
ما انفكّ القتال؟

في الأرض يصحو العشب صحوا
فسيعلو مع النّسيم ويهبط موجا
أما يستحي أن يتمايل
على القبور رقصا..
قبورٍ جديدةٍ أخرى؟

تحت اﻷغصان حيث ألف العشّاق الفوت
ستذرف أزهار التّفّاح أنسامًا حَوَت
وما نفع العشّاق الآن وقد
فرّقهم الموت..
الرماديّ الموت؟

الرّبيع في زمن الحرب – سارة تيزديل (ترجمةٌ شعريّةٌ: أحمد مجدي)

ولم يدَع المرض سارة تيزديل، ورغم هروبها من ضعفها وصحّتها الّتي كانت تسوء بالشّعر والكلمات، فإنّ المرض كان أقوى من محاولاتها. وبدأت سارة في نهاية حياتها في استعادة ذكريات طفولتها عن المرض وازدادت صحّتها سوءًا، حتّى أُصيبت بالالتهاب الرّئويّ المزمن، الّذي لم يؤثّر على صحّتها الجسديّة فقط، بل العقليّة أيضًا. كما أنّ حياتها الشّخصيّة لم تسر على ما يرام، فقد انفصلت عن زوجها فيلسينجر في عام 1929 وأصبحت أكثر وحدةً.

خبر انتحار سارة تيزديل في صحيفة 1933.
خبر انتحار سارة تيزديل في صحيفة 1933.

وصارت سارة أكثر اكتئابًا وأظلمت الدُّنيا في عينيها، ولم تعد تبصر جمالًا في ما حولها. وفجأةً في يومٍ شتويٍّ بشهر يناير، أقدمت على الانتحار فتناولت عددًا من الأقراص المنوّمة. ونقلت الصّحف خبر انتحار سارة تيزديل في التّاسع والعشرين من يناير عام 1933 وهي تبلغ من العمر تسعةً وأربعين عامًا.

ورغم التّهميش الّذي تعرّضت له سارة فيما بعد، فقد أعاد لها النّقّاد الغربيّون في القرن الحادي والعشرين الاهتمام المستحقّ بتناول شعرها في الدّراسات والأبحاث، بل تحدّثوا عن قصائد أهملها النّقّاد السّابقون مثل قصائدها عن الحرب العالميّة الأولى.

خاتمة

ربّما أُعيدت قراءة سارة تيزديل وأشعارها في أمريكا خلال العصر الحاليّ، نظرًا لرغبة الباحثين في تسليط الضّوء على مجهودات الشّاعرات خلال القرن العشرين. لكنّ تيزديل كانت شاعرةً مرهفة الحسّ، وعبّرت بشعرها الغنائيّ عن نظرتها للحياة، الّتي ستمسّ القارئ لشعرها في كلّ بيتٍ.

 

 

 

شارك المقال:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي