إن كل المادة الموجودة في الكون ظهرت لأولِ مرةٍ في حدثٍ بدأ منذ 13.7 مليار سنة. أُطلقَ على هذا الحدث اسم «الإنفجار العظيم- The Big Bang»
ما هو الإنفجار العظيم؟
لكي نستطيع التحدُّثَ عن الإنفجار العظيم، يتوجب علينا أن نفهم ظاهرةً فيزيائيةً معروفة باسم «الإنزياح الاحمر- Redshift».
تخيل معي أن تقف على أحد الأرصفة في الشارع، وهُنالك سيارةٌ تمر أمامك بسرعةٍ عالية. إن ما ستلاحظهُ أثناء مرور السيارة واقترابها منك هو أن صوتها عالٍ، لكن بعدما تمر من أمامك مبتعدةً يبدأ صوتها في الانخفاض تدريجيًا.
هذا التأثير يُدعى «تأثير دوبلر- Doppler Effect»، ويحدث هذا التأثير لأن تردد صوت السيارة frequency يزداد بينما تقترب منك، ويقل بينما تبتعد عنك.
التردد هو مقياس تكرار حدث دوري في وحدةٍ وقت مُعينة. فعلى سبيل المثال، في الساعات القديمة كان هنالك بندولًا يتحرك ذهابًا وإيابًا كما في الصورة التالية:
إذا انطلق هذا البندول وعاد مرة، ثم ذهب وعاد مرة أُخرى في ثانية واحدة، فذلك يعني أن تردد البندول 2 هرتز، والهرتز هي وحدة قياس للتردد [مثلما أن الثانية هي وحدة قياس للوقت والمتر وحدة قياس للمسافة] ولو ذهب البندول وعاد ثلاث مرات في الثانية الواحدة فذلك يعني أن التردد 3 هرتز، ولو ذهب وعاد 4 مرات في ثانيتين، فذلك يعني أن وحدة التردد هي ناتج قسمة 4 على 2، أي 2 هرتز، وهكذا..
ما الصوت إلا موجاتٍ مثلها كمثل موجات المياه الناتجة عن إلقاء حجرٍ في ماءٍ راكد. تخيل الآن أنك بدلًا من إلقاء حجر وضعتَ قلمًا أو عصا في المياه وحركتها في اتجاه مُعين في خط مُستقيم، ستلاحظ تلك الموجات قريبة من بعضها البعض في الاتجاه الذي تحركت نحوه العصا أو القلم، وهذا الجُزء هو الذي يُصبح فيه التردد عاليًا. ستلاحظ أيضاً موجاتٍ بعيدة عن بعضها البعض في الاتجاه المُعاكس، وهذا الجُزء هو الذي يُصبح فيه التردد مُنخفضًا.
نفس الأمر يحدث مع الصوت. فبينما تقترب منك السيارة، تكون الموجات الصوتية التي بينك وبين السيارة قريبة بعضها من البعض فيزداد التردد وبالتالي تسمعُ صوتًا أعلى، وبينما تبتعد عنك السيارة تكون الموجات التي بينك وبينها مُتباعدة فيقل التردد، وبالتالي تسمع صوتًا مُنخفضًا.
النقطة المُهمة، هو أن نفس هذا التأثير يحدثُ مع الضوء، ليس فقط مع الصوت. فإذا كان هُنالك ضوءٌ يقترب منك سيزداد التردد، وإذا كان يبتعد سيقل تردد الضوء.
إن ازدياد أو قلّة تردد الضوء يُغير من لونِ الضوء، فلو كانت أُعيننا أكثر حساسية للضوء وأكثر قدرة على تمييز الألوان، لكنا رأينا الضوء الذي يقترب منا يميل للون الأزرق [وهو ما يدعوه العُلماء باسم الإنزياح الأزرق] وبينما يبتعد منّا كُنّا سنرى لونه يميل للأحمر، وهو ما يدعوه العُلماء باسم الإنزياح الأحمر.
فما علاقة هذا الموضوع بالإنفجار العظيم؟
في عام 1929 كان هنالك عالم فلك أمريكي يُدعى «إدوين هابل- Edwin Hubble»، كان هابل ينظر من لمجرات السماء عبر تليسكوب، ولاحظ شيئًا جميلاً للغاية غيّر نظرتنا للكون فيما بعد، وهو أن المجرات التي شاهدها من خلال التيسكوب كان لونها يميل للوردي والأحمر من خلال التليسكوب. لو كُنت مكانه، وها أنت ذا الآن تعرف تأثير دوبلر وظاهرة الإنزياح الأحمر، ماذا كُنت لتستنتج؟
لو كان استنتاجك أن المجرات تبتعد عنّا، فلك مِنّي التهاني على هذا الاستنتاج الصحيح. فقد كشفت مُلاحظات إدوين هابل أن المجرات البعيدة تبتعد عنّا، وكلّما كانت المجرة أبعد كلما كانت ذات سرعة أكبر.
في ضوء تلك المُلاحظة، أيمكنك أن تخرج باستنتاج آخر؟
هابل استنتج أنه لو كانت المجرات تبتعد عنّا الآن، ومازالت مُستمرة في التباعد، فبالتالي، في فترة ما من الزمن، كانت كل تلك المجرات قريبة منّا جدًا ومُجتمعة بشكل قريب جدًا من بعضها البعض!
أول من اقترح نظرية الإنفجار العظيم، كان عالم الفيزياء «جورج لوميتغ- Georges Lemaître» في العام1927،وكان اكتشاف هابل أول دعمٍ لنظرية الإنفجار العظيم من خلال المُلاحظة.
إقترح لوميتغ بأن توسّع الكون كان كالإنفجار من منطقةٍ كانت حرارتها وكثافتها مُرتفعتين جدًا، وأن الكون مُستمر بالتوسع إلى اليوم. فيما بعد، استطاع العُلماء [من خلال قوانين الفيزياء والقوانين الرياضية لظاهرة الإنزياح الأحمر] حساب عمر الفترة التي كانت فيها كل المادة موجودة معًا، واتضح أن عُمر الكون 13.7 مليار سنة. هُنا علينا أن نضع في اعتبارنا ملاحظةً مُهمة جدًا، وهي أن المادة ليست هي التي تتحرك مُبتعدة عن بعضها البعض، بل إن الكون نفسه هو الذي يتمدد ويتوسع مُسببًا ما نراه من انزياح أحمر.
لتبسيط الأمر، تخيل أنك رسمت نُقطتين على بالون- Balloon، وبدأت بنفخه، وبينما تنفخ في البالون يكبر حجمه، والنقاط التي عليه تبتعد عن بعض، ليس لإنها هي التي تتحرك على سطح البالون، ولكن لأن البالون نفسه يتمدد.الأمر نفسه ينطبق على الكون، فالسبب الأساسي في الإنزياح الأحمر هو تمدد الكون نفسه، المكان نفسه هو الذي يتوسع، هذا لا ينفي ان المجرات والمادة تتحرك في الكون بطبيعتهم، ولكن السبب الأساسي في الإنزياح الاحمر الذي نراه على الغالبية العُظمى من المجرات في الكون هو تمدد الكون نفسه. وإذا كان الكون لا يتمدد لكان من المُتوقع أن نرى بعضاً من المجرات لونه أحمر والآخر أزرق، ولكن وجود الغالبية العُظمى باللون الأحمر هو ما قاد لاستنتاج تمدد الكون.
لا تستطيع نظريةُ الإنفجار العظيم وصف الكون بشكلٍ دقيقٍ في الثواني الأولى من عمره، لكنها على الأقل تستطيعُ وصفَ الأحداثِ التي تَلت الإنفجار العظيم حتّى اليوم بدقةٍ كافية، واليوم تُعتبر نظرية الإنفجار العظيم هي النظرية الأساسية التي يقوم عليها علم الكونيات Cosmology.
«الأصول»
في اللحظات الأولى بعدَ الإنفجار العظيم، كانت حرارة الكون وكثاقته مُرتفعتين للغاية، ومع مرور الوقت بينما يتوسع الكون ويتمدد، بدأت كثافته ودرجة حراته تقل وتبرد، مما جعل من السهل لوحدات البناء الأساسيةِ للمادة أن تتكون. وحدات البناء الأساسية للمادة تلك هي أجسامٌ قمّة في الصغر، ونطلق عليها «الجُسيمات الأولية» وهي الكواركات والإلكترونات.
ما هي الكواركات وما هي الإلكترونات؟
كل المادة التي نتكون منها أنا وأنت وأي شيء حولنا، تتكون من أجسام صغيرة جدًا تُدعى «الذرات- Atoms»، والذرة مُكونة من نواة تدور حولها إلكترونات. الذرة جسمٌ مُتعادل كهربيًا، بينما الإلكترونات لها شُحنة سالبة، وبالتالي فإن نواةَ الذرة يجب أن موجبة الشحنة لتكون الذرة مُتعادلة كهربيًا كما هي عليه. إذاً فالإلكترونات إحدى المكونات الأساسية للذرة، وهي ذات شحنة كهربية سالبة.
تتكون النواة من بروتوناتٍ مُوجبة الشُحنة ونيوتروناتٍ مُتعادلة كهربيًا، لذا فوجود بروتوناتٍ مُوجبة الشُحنة في النواة هو ما يجعل النواة مُوجبة الشُحنة.
الإلكترونات لا تتكون من أشياء أصغر منها، لذلك تنتمي لفئة «الجُسيمات الأولية- Elementary Particles»، بينما تتكون البروتونات والنيوترونات من أجسام أصغر منها، ولذلك يندرجون تحت فئة «الجُسيمات المُركبة- Composite particles»، فمم تتكون البروتونات والنيوترونات؟
تتكون البروتونات والنيوترونات من الكواركات، وتلك الكواركات لا تتكون من شيء، إذاً فهي جسيم أولي كالإلكترون أيضاً.
تلك هي الجُسيمات الأساسية التي بدأت في التكوّن بعد الإنفجار العظيم، وبعد مرور ملايين الأجزاء من الثانية، تجمّعت الكواركات لتبدأ في تكوين البروتونات والنيوترونات، وبعد مرور دقائق تجمَّعت البروتونات والنيوترونات فتكونت النواة.
كُلما برُد الكون كلما حدثت الأمور بشكلٍ أبطأ، فلقد احتاجت الإلكترونات حوالي 380 ألف سنة ليُكونوا مداراتٍ حول النواة، ويُشكلوا لنا أول الذرات في تاريخ الكون.
مُعظم تلك الذرات كانت ذراتَ هيدروجين والبقيةُ هيليوم، وذلك لأن الهيدروجين هو أبسط الذرات، فهو يتكون من بروتون واحد وإلكترون واحد، والهيليوم ثاني أبسط الذرات لأنه يتكون من 2 بروتون و2 نيوترون في النواة ويدور حولهم 2 إلكترون، وحتّى اليوم مازال الهيدروجين والهيليوم هما أكثر العناصر انتشارًا في الكون، مما يُعتبر دليلًا آخر على صحة نظرية الإنفجار العظيم.
بعد ذلك بحوالي 1.6 مليون سنة، بدأت قوّة الجاذبية في عملها فجذبت الهيدروجين والهيليوم معًا ليُكوّنا سُحباً ضخمةً من الغاز في الفضاء كما توضح الصور التالية.
من تلك السُحب الكثيفة من الهيدروجين والهيليوم، تُولد النجوم، وهي أجسامٌ غازية ضخمة جدًا مُكونة من الهيدروجين والهيليوم.
الذرات الثقيلة كالكربون والأوكسجين والحديد، تم صنعهم داخل النجوم.
ما يحدث داخل النجم هو أن الجاذبيةَ تكونُ مُرتفعةً جدًا فتتجاذب الهيدروجين مع بعضها البعض بشكلٍ قوي جدًا فيحدث اندماج نووي داخل النجم، وفي الإندماج النووي تندمج ذرات الهيدروجين لتُنتج ذرة أثقل هي الهيليوم، وتفاعلات اندماج أخرى تنتج عناصر أثقل كالكربون والحديد. والإندماج النووي لا يخلق فقط ذراتٍ ثقيلة جديدة، بل ينتج عنه أيضًا طاقةً وضوء وحرارة، ولهذا السبب تضيء النجوم كالشمس.
إن تفاعلات الإندماج النووي عظيمة للغاية، لدرجة أنك تشعر بحرارة وضوء الشمس على بعد 150 مليون كليومتراً بسبب اندماج نووي يحدثُ في قلب هذا النجم العظيم.
بعدَ بضعةِ ملايين وملياراتٍ من السنين، يصلُ النجم لنهاية حياته ويموت. إن حادثة موت النجم من أجمل الأحداث التي يُمكن أن يُشاهدها الإنسان في هذا الكون، فعندما يموت النجم ويصل لنهاية حياته ينفجر، والنجوم العظيمة والضخمة التي تنفجر في نهاية حياتها تُحدث نسميه «المُستعرات العُظمى- Supernovae»، وتكون أشكالها في السماء بديعة الجمال كما افي الصور التالية
عندما ينفجر النجم، تنتشر كلَّ الموادِ والعناصرُ التي كوَّنها النجم أثناءَ حياته في الفضاء، لتعود الجاذبية وتجمع تلك المواد مع بعضها بعضًا فتتكون الكواكب والأقمار والأجسام الفضائية المُعتمة، ومن نفس تلك المواد تتكون الكائنات الحية الأولى لتبدأ رحلة التطور كما هو الحال على كوكب الأرض وذلك من المواد التي صُنعت في قلب النجوم التي ماتت!
في المرة القادمة التي تنظر فيها لنجم في السماء، تذكر ان المادة التي تُكوّنك وتُكوّن كل شيء حولك، كانت سابقاً داخل أحشاء جسمٍ نوراني ضخم مليء بالطاقة والضوء كالذي تنظر له في السماء.
لكن النجوم والمجرات لا تحكي القصة بأكملها، فالحسابات الفيزيائية والفلكية تقترح ان المادة التي نراها ونتكون منها في الكون لا تُشكل سوى (4%) من بقية مُكونات الكون. فجُزء كبير من الكون، حوالي 26% مصنوع من نوع مجهول من المادة يسمى «المادةالمُظلمة-dark matter».
وعلى عكس النجوم والمجرات، فالمادة المُظلمة لا تُصدر أي ضوءٍ أو أي إشعاعات من أي نوع معروف، ولهذا فالعُلماء غير قادرين على معرفة أي شيءٍ عن تلك المادة غير من تأثيرها على المجرات والمادة العادية من خلال الجاذبية فقط.
كما أن هُنالك نوع آخر من الطاقة عُرف باسم «الطاقةالمُظلمة- dark energy»، وهو يُشكل حوالي 70% من كُتلة وطاقة الكون. ونعرف عنها أقل مما نعرفه عن المادة المُظلمة التي لا نعرف عن ماهيتها الكثير بالأساس.
فكرة وجود الطاقة المُظلمة مُعتمدة على أن المجرات تبتعد عن بعضها بعضًا بسرعة مُتزايدة وبصورة لا تسمح بها قوانين الفيزياء العادية، ولذلك يعتقد العُلماء بضرورة وُجود نوع آخر من الطاقة هو ما يدفع الكون إلى التمدد والتوسع بسرعةٍ مُتزايدة بهذا الشكل، ومن هُنا أتت فرضية الطاقة المُظلمة.
سنتكلم عن الطاقة والمادة المُظلمة في الجزء المقبل، وأتمنى أن يكون هذا الجزء قد إعجابكم، وبالطبع مُرحب بأي اسئلة في التعليقات، وشكرًا على القراءة.
إعداد: Michael M. Louis
مراجعة علمية ولغوية: Ahmed Reda