سينما التعبيرية الألمانية

30725125_211514066282313_6903392245865512960_n

||||||||||||||

ما هي التعبيرية؟

التعبيرية «Expressionism» هي اتجاه فني ظهر في الرسم والعمارة والأدب والمسرح وأخيرًا السينما. وقد بلغت التعبيرية أوج ازدهارها بين عامي 1905 و1920، خاصةً في ألمانيا والنمسا.(1)

 

إدفارد مونك – قلق (1894)

   ترجع جذور المدرسة التعبيرية إلى «فنسنت فان جوخ» (Vincent van Gogh) و«إدفارد مونك» (Edvard Munch) و«جيمس إنسور» (James Ensor)، الذين بحلول نهاية القرن التاسع عشر كان كل منهم قد طوّر أسلوبًا شخصيًا في الرسم. إن هؤلاء الرسامين استغلوا الإمكانيات التعبيرية للألوان والخطوط لاستكشاف الموضوعات الدرامية والعاطفية، لتصوير ملامح الخوف والرعب والغرائبية، أو ببساطة للاحتفاء بالطبيعة بأسلوب محتدم يقرب إلى الهذيان. لقد تحرر هؤلاء من التصوير الواقعي للطبيعة من أجل التعبير عن رؤي أكثر ذاتية وخصوصية.(2) وقد نشأت التعبيرية كرد فعل على المدرسة الانطباعية والفن الأكاديمي، حيت تأثرت بشكلٍ كبير بالتيارات الفنية الرمزية في أواخر القرن التاسع عشر.(3)

في الاتجاه التعبيري يسعى الفنان إلى تصوير المشاعر الذاتية بدلًا من الواقع المادي، ويصل إلى هذه الغاية من خلال تطبيق آليات التشويه والمبالغة والبدائية والفانتازيا على العناصر الفنية. بمعنى أشمل، التعبيرية هي أحد التيارات الفنية الرئيسية في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، وتنطبق سماتها في التعبير الذاتي العفوي على نطاق واسع من الفنانين والحركات الفنية الحديثة.(2)

 

التعبيرية في السينما

بحلول نهاية العقد الأول من القرن العشرين صارت التعبيرية اتجاهًا راسخًا في أغلب المجالات الفنية، إلا أنها لم تكن قد تأصلت بشكلٍ تام في مجال السينما التي كانت ماتزال في مهدها. ويُعد فيلم «طالب من براج» (Der Student von Prag) الذي صدر عام 1913 أحد أوائل الأفلام التي تظهر بها بعض من ملامح التعبيرية. إن المزج بين عناصر الاتجاه الطبيعي والملامح الأولى للتعبيرية في السينما في هذا الفيلم يعد استهلالًا بليغًا لما سيتبع من رؤى قاتمة سيطرت على أفلام هذا الاتجاه.(4)

طالب من براج (1913)

      في العشرينيات هيمن الاتجاه التعبيري على السينما الألمانية. أدى هذا إلى تحول السينما الألمانية لتصبح واحدة من أهم السينمات القومية في أوروبا، بل في العالم كله، حيث كانت سينما هوليوود ماتزال تتحسس خطاها في ذلك الوسيط الجديد نسبيًا آنذاك.(5)

 

الأسلوب

تميزت أفلام التعبيرية الألمانية بالاهتمام الشديد بالـ «مِيز ان سين» (Mise-en-scene) –وهو تنظيم كل ما يقع أمام الكاميرا من ديكور، وأماكن الممثلين، وأزياء، وغيرها-، كذلك تميزت بالأجواء المريبة والغامضة.(6) حبكات القصص كانت غالبًا ما تناقش موضوعات مثل الجنون، والهوس وغيرها من الموضوعات ذات الطابع السوداوي.( 5)

أما فيما يخص الخصائص البصرية، فإن الأسلوب البصري لأفلام التعبيرية الألمانية يعد أكثر أساليب الأفلام الصامتة وضوحًا وتميزًا، ويقوم على عدة عناصر، منها: زوايا الكاميرا غير المعتادة، نمط الإضاءة المميز المعروف بالـ«كياروسكورو» (Chiaroscuro) أو «الجلاء والقتمة»؛ وهو عبارة عن تباين شديد بين الضوء والظل في إضاءة المشاهد، الديكور غير الواقعي، الأداء التمثيلي المبالغ فيه ذي الطابع المسرحي، الاستخدام المفرط لمساحيق الزينة. كان الهدف من تطبيق تلك العناصر هو إثارة الغموض والتعبير عن وجهة النظر الخاصة للشخصيات والإحساس بالغربة في العالم الحديث، وتصوير الهذيان والأحلام و الحالات الوجدانية العنيفة.(6)

الكياروسكورو في سينما التعبيرية الألمانية (عيادة الدكتور كاليجاري)

استخدام الظلال في أفلام التعبيرية الألمانية (نوسفيراتو)

أصبحت التعبيرية هي الاتجاه السائد في السينما الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى(5)؛ حيث كانت تنسجم مع مناخ ما بعد الحرب الذي سيطر عليه الارتياب والوحشة وخيبة الأمل.(2) ثمة عدد قليل من الأفلام يمكن وصفها بأنها أفلام تعبيرية ألمانية خالصة، من هذه الأفلام العلامة السينمائية البارزة «عيادة الدكتور كاليجاري» (1920) (Das Cabinet des Dr. Caligari).(7)

 

عيادة الدكتور كاليجاري (1920)

«عيادة الدكتور كاليجاري» هو فيلم رعب يروي قصة منوم مغناطيسي (كاليجاري) يستخدم مساعده، الواقع في حالة دائمة من التنويم، لارتكاب جرائم قتل في القرى التي ينزل بها.(8) أكثر ما يميز هذا الفيلم هو الديكور شديد الغرائبية المستخدم ليجسد ما يدور في نفس البطل، ليعبر عن حالته الذهنية الملتوية. الديكور تم رسمه على لوحات من القماش بدلًا من بنائه، كذلك رُسمت الظلال مباشرةً على الأقمشة.(9) يقول الناقد الأمريكي «رودجر إيبرت» عن الفيلم: «إن الممثلين يسكنون مشهدًا متعرجًا تملأه زوايا حادة وجدران ونوافذ مائلة، وسلالم ذات انحدارات جنونية، وأشجار ذات أوراق مدببة، وحشائش تبدو كالسكاكين».(10) ذلك الأسلوب البصري المشوه يعطي انطباعًا للمشاهد بأنه يرى العالم من منظور رجل مجنون.

 

عيادة الدكتور كاليجاري (1920)

يعد «كاليجاري» أوضح وأشهر مثال لأفلام التعبيرية الألمانية.(5) وقد أحدث هذا الفيلم ثورة في تقنيات السرد الفيلمي بتقديمه تقنيات مستحدثة على هذا الوسيط منها التحول غير المتوقع للنهاية (Twist ending) واستخدام تقنية الاسترجاع السردي (Flashback) في بدايات ظهورها في السينما –عن طريق تأطير القصة بفصل تقديمي وفصل ختامي(11)، وكذلك تقديم تقنية الرواى غير الموثوق به (Unreliable narrator) للغة السرد الفيلمي.(12)

إن أجواء الرعب والخطر والقلق التي تسيطر على الفيلم وشخصياته، بالإضافة إلى التلاعب الدرامي بالضوء والظل واستخدام الديكور الغرائبي صاروا نموذجًا لأفلام تعبيرية ألمانية لاحقة، مثل «الجوليم» (1920) (Der Golem) و«نوسفيراتو» (1922) (Nosferatu)، و«متروبوليس» (1927) (Metropolis)، وكذلك لأفلام الجريمة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية المعروفة بأفلام النوار (Noir films).(8)

 

نوسفيراتو، سيمفونية الرعب (1922)

«نوسفيراتو» هو فيلم رعب أُنتج عام 1922، من إخراج الألماني «فريدريش فيلهيلم مورناو» (F. W. Murnau). قصة الفيلم مقتبسة عن رواية «برام ستوكر» الشهيرة «دراكيولا» (1897). إلا أن صناع الفيلم –نظرًا لأنه كان اقتباسًا غير مرخص- أجروا بعض التعديلات على القصة، فقاموا بنقل الأحداث من لندن في العقد الأخير من القرن التاسع عشر إلى ألمانيا في العقد الرابع من القرن نفسه.(7) كما اختلف اسم الشخصية الرئيسية من «الكونت دراكيولا» إلى «الكونت أورلوك».

 

الكونت أورلوك في نوسفبراتو (1922)

كان المنهج التعبيري الذي اتبعه «مورناو» أقل وضوحًا من سابقه في «كاليجاري»، حيث استخدم فيه ديكورًا واقعيًا، كما لجأ إلى تصوير الكثير من المشاهد خارجيًا.(7) إلا أن «نوسفيراتو» ظل وفيًّا لشاعرية الاتجاه التعبيري وطبيعته الذاتية. الأسلوب الذي اتبعه «مورناو» ليصدم الجمهور ويفزعه كان بسيطًا، لم يعتمد كثيرًا على المؤثرات البصرية المعقدة، و إنما اعتمد على براعته في اختيار التوقيت المثالي للقَطْع، وعلى اللقطات المقربة على وجوه الشخصيات. كان هذا الأسلوب –على بساطته- ثوريًا، حتى إننا مازلنا نرى تأثيره في أفلام الرعب الحديثة.(13)

متروبوليس (1927)

«متروبوليس» هو فيلم خيال علمي أُنتج عام 1927، من إخراج النمساوي «فريتز لانج» (Fritz Lang)، تدور أحداثه في مجتمع مستقبلي قمعي. يحوي الفيلم صورًا ومشاهد من أروع ما تم تقديمه في تاريخ السينما، ويعد «متروبوليس» عملًا رائدًا في أفلام الخيال العلمي.(18)

متروبوليس (1927)

تصميم المدينة في متروبوليس (1927)

يتناول الفيلم رؤية مستقبلية لـ«عصر الآلة»، وتدور أحداثه في مدينة مستقبلية حيث يعمل عمال مقموعون في مصانع ضخمة تحت الأرض، بينما يرفل أصحاب المصانع على سطحها في دَعَة وترف.(9)

متروبوليس (1927)

كان التركيب البصري للفيلم مذهلًا، لدرجة أنه أحدث انقلابًا في مجال تصميم الديكور الفيلمي، وأثر في العديد من أفلام الخيال العلمي اللاحقة، بما في ذلك «بليد رانر» (1982) (Blade Runner) لـ «ريدلي سكوت» (Ridley Scott)، و«برازيل» (1985) لـ «تيري جيليام» (Terry Gilliam).(18)

 

نهاية الاتجاه

قدمت التعبيرية الألمانية العديد من الأفلام منها: «من الصباح حتى منتصف الليل» (1920) (Von morgens bis mitternacht)، «الموت متعبًا» (1922) (Der müde Tod)، «شبح» (1922) (Phantom)، «ظلال» (1923) (Schatten)، «متحف الشمع» (1924) (Das Wachsfigurenkabinett)، «الرجل الأخير» (1924) (Der letzte Mann)، «فاوست» (1926) (Faust)، «إم» (1931) (M)،(6) ولكن بصعود الحزب النازي للسلطة في بداية الثلاثينيات تم منع الفنون الحداثية –ومنها التعبيرية- في ألمانيا باعتبارها فنًا «منحلًا»، وهكذا فر العديد من الفنانين التعبيريين إلى الولايات المتحدة وبلدان أخرى.(2) إلا أن التعبيرية الألمانية خلّفت وراءها إرثًا عظيمًا كان له أثرًا واسعًا على العديد من الأفلام منذ ذلك الحين وحتى الآن.

تأثير التعبيرية الألمانية

من الأنواع الفيليمة التي تأثرت بالاتجاه التعبيري بشكلٍ خاص هي أفلام الرعب، وأفلام النوار.(5)(9) فقد هاجر العديد من صناع السينما الألمان إلى الولايات المتحدة وغيرها من البلدان هربًا من الاضطراب السياسي والاضطهاد الديني والمناخ المعادي لحرية التعبير في ألمانيا بعد اكتساب الحزب النازي أراضٍ جديدة على الساحة السياسية وصعوده التدريجي للسلطة.(2)(5)

دراكيولا (1931)

       إن أفلام الرعب تدين بالكثير لأفلام التعبيرية الألمانية، حيث يمكننا رؤية الكثير من عناصر التعبيرية في أفلام الرعب الحديثة من الاستخدام الدرامي للظلال وهيمنة الأجواء المريبة وغير ذلك، وربما كانت أفلام الرعب التي أنتجتها شركة «يونيفرسال» في الثلاثينيات خير مثال على تأثير التعبيرية الألمانية، ومن أبرزها فيلمي «دراكيولا» و«فرانكنشتاين» (كلاهما أنتج عام 1931).(5)

 

تأثر أفلام النوار بالتعبيرية الألمانية – فيلم إني أعترف (1953)

      أما عن أفلام النوار، فقد ظهرت في السينما الأمريكية في بداية الأربعينيات، وقد استلهمت من التعبيرية الألمانية خصائصها البصرية اللافتة وأجواءها القاتمة.(14) تُطوِع أفلام النوار الظلال لتضيف رؤية تشاؤمية للعالم الذي تصوره، تمامًا كما فعلت التعبيرية قبلها بعقود. الشخصيات ذات التركيبات النفسية المعقدة، الحبكات التي لا تسير على خط سردي واحد، الشخصيات النسائية الخطرة؛ كلها عناصر نجدها في أفلام النوار.(5)

سايكو (1960)

      لم يقتصر تأثير التعبيرية الألمانية على أفلام الرعب والنوار فحسب، بل امتد تأثيرها إلى العديد من صانعي الأفلام على مدار تاريخ السينما، من أبرزهم «ألفريد هيتشكوك» (Hitchcock)، بدءًا من أفلامه الصامتة الأولى مثل فيلم «المستأجر: قصة ضباب لندن» (1927) (The Lodger: A Story of the London Fog) وحتى رائعته «سايكو» (1960) (Psycho).(15)(16)

فينسنت (1982) – فيلم تحريك قصير لتيم برتون

إدوارد ذو الأيدي المقصات (1990)

 

إلى يومنا هذا مازلنا نرى التعبيرية الألمانية تلقي بظلالها على إنتاج العديد من الأفلام، كما نرى في أعمال «تيم برتون» (Tim Burton). فمن «إدوارد ذو الأيدي المقصات» (1990) (Edward Scissorhands) و«عودة باتمان» (1992) (Batman Returns)، حتى «العروس الجثة» (2005) (Corpse Bride) و«سويني تود» (2007) (ٍSweeney Todd) يحتفي «برتون» بالتعبيرية الألمانية، سواء كان هذا في العناصر البصرية لأفلامه أو في موضوعاتها.(16)(17)

 

إعداد: داليا سعد
مراجعة وتحرير: آلاء مرزوق
تصميم: محمد الجوهري

 

المصادر

  1. MoMA | Expressionism [Internet]. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/81B7HY
  2. Expressionism | artistic style [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl /UjnT5E
  3. Expressionism Movement, Artists and Major Works [Internet]. The Art Story. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/GHqYk2
  4. Der Student von Prag – Film (Movie) Plot and Review – Publications [Internet]. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/8pJMK5
  5. Crabbe E. The Shadow Of German Expressionism In Cinema [Internet]. Film Inquiry. 2016 [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/1vsGyD
  6. German Expressionism: The World of Light and Shadow – Movie List [Internet]. MUBI. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/Tyx6ZM
  7. 10 great German Expressionist films [Internet]. British Film Institute. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/JSNgRA
  8. The Cabinet of Dr. Caligari | film by Wiene [1920] [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/4GBgo6
  9. German Expressionism [Internet]. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/ULzUnd
  10. Ebert R. The Cabinet of Dr. Caligari Movie Review (1920) | Roger Ebert [Internet]. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/bmxT5s
  11. From Caligari To Hitler | ELLOPOSnet – Page 4 [Internet]. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/nkBaiB
  12. The Cabinet of Dr Caligari – Painting Movies [Internet]. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/xPqtSg /
  13. Snider E. What’s the Big Deal?: Nosferatu (1922) [Internet]. MTV News. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/jAcGMs
  14. film noir | Definition, Movies, & Facts [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/YqAxNj
  15. Even more Hitchcock – latimes [Internet]. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/brqM12
  16. Wybrew P de S Ian Freer, Ally. Movie movements that defined cinema: German Expressionism [Internet]. Empire. 2016 [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/sNDqeB
  17. Tim Burton: A German Expressionism Influence [Internet]. Vimeo. [cited 2018 Apr 5]. Available from: https://goo.gl/9RrzR9
  18. Metropolis | Facts & Summary [Internet]. Encyclopedia Britannica. [cited 2018 Apr 6]. Available from: https://goo.gl/xmCisq
شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي