وقائع الحكم الفارسي لمصر: من الفرار إلى الثورة

MAIN_PersianEgypt

|

 

القرن الخامس قبل الميلاد، كان العالم حينها إزاء العديد من التحولات المصيرية إثر صراعات واحتكاكات كثيرة وقعت آنذاك، ففي حوالي 553 ق.م دعا الملك الفارسي كورش (Cyrus II) إلى التمرد على حكم الميديين وخاض ضدهم عدة معارك استولى في إثرها على عاصمتهم إكبتانا وأعلن نفسه ملكًا للفرس في 546 ق.م بعد أن أزاح سلفه الميدي أستياجيس، وانتقل الحكم بذلك إلى الأسرة الفارسية الأخمينية التي تطلعت بدورها إلى التوسع لحد كبير.1

آثارت تلك المساعي الفارسية الكثير من القلق بأرجاء العالم القديم، وكمحاولة وقائية لرد هذه التطلعات الفارسية مبكرًا تحالف كلًا من كرويسوس ملك ليديا و نابونيد -المعروف باسم نبوخذ نصر- عاهل بابل وأحمس الثاني حاكم مصر لمهاجمة مدينة برثيا التابعة للإمبراطورية الأخمينية وإحباط التقدم الفارسي إلا أن كورش تمكن من التصدي لذلك الهجوم بل وتوجه بشكل مباغت نحو ساردس العاصمة الليدية وتمكن من الاستيلاء عليها، ثم تساقطت بقية الأمم تباعًا سواء من خلال الحرب أو بالاستسلام المباشر حتى أخضع كورش جُل العالم القديم تقريبًا.1

الغزو الفارسي على مصر:

باستسلام الفينقيين كانت أسيا قد سقطت إكلينيكيًا بيد الفرس ولم يبق في المواجهة دولة أخرى سوى مصر، ثم وبوفاة الملك كورش اعتلى ابنه قمبيز (Cambyses II) العرش من بعده، وفور قضائه على الإضطرابات والمؤامرات التي حدثت عند توليه الحكم بدأ بالتجهيز لغزو مصر -التي كانت تعيش فترة متعثرة في تاريخها-  وتحقيق خطط والده بالهيمنة على المنطقة بأسرها.

ويروي هيرودوت –والذي يعتبر المرجع الرئيسي لأحداث تلك الفترة- بأن الفرس قد تمكنوا من الدخول إلى مصر بسهولة عبر الصحراء الشرقية حيث نصحه أحد الجنرالات المرتزقة المنشقين عن الجيش المصري ويدعى فانيس هيلكارناسوس (Phanes of Halicarnassus) بالاستعانة بالبدو كمرشدين له في الصحراء، فضلًا عن مساندة جماعة من اليهود الذين يدينون بالولاء للفرس منذ فك كورش أسرهم بعد دخوله إلى بابل.2

وبعد اجتيازهم للصحراء قرر الفرس إقامة معسكرهم بالقرب من المعسكر المصري عند البيلوسيوم «الفارما» والتي كانت تعتبر بمثابة بوابة لمصر على الحدود الشرقية –حوالي 30 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من بورسعيد حاليًا- إلى جانب كونها منطقة حيوية كموقع تجاري هام ونقطة بداية للبعثات المصرية المتجهة إلى أسيا، وبأي حال لم يتمكن الجيش المصري المتكون في أغلبه من المرتزقة الإغريق من التصدي للفرس، وأضطر الملك المصري بسماتيك الثالث حينذاك إلى الإنسحاب والتراجع بشكل غير منظم لم يمكنه من حماية المواقع الاستراتيجية المؤدية إلى فروع النيل وبالتالي إلى قلب مصر، وهكذا انتهز قمبيز الفرصة وتعقب الجيش المصري إلى منف وحاصرها.2

ويذكرُ الدكتور سليم حسن في الجزء الثاني عشر من موسوعة مصر القديمة عن المؤرخ الإغريقي بوليانوس بأن قمبيز قد لجأ إلى نوع من الحيلة لشل مقاومة المصريين في الحصار، حيث أمر بأن تجمع القطط والكلاب وبعض الحيوانات التي يقدسها المصريون وسيقت في مقدمة الجيش الفارسي فخشي بذلك المصريون من استخدام السلاح ضد ما يمثل آلهتهم. وهكذا سقطت العاصمة منف بيد الفرس، وكان الملك بسماتيك الثالث قد تمكن من الفرار في البداية إلا أنه تم القبض عليه بعد فترة قصيرة ونقل إلى سوسا مقيدًا بالسلاسل كأخر حاكم مصري يحكم مصر حتى منتصف القرن العشرين، وأصبحت مصر ولاية فارسية بشكل رسمي.4

مصرتحت الولاية الفارسية:

تُعد فترة الحكم الفارسي لمصر من بين الفترات الأوسع جدلًا في التاريخ المصري القديم، حيث تعرضت للتشويه والتحريف الكبير من قبل الكتاب اليونانين والحملات الدعائية المعادية للفرس في الفترات اللاحقة، وبما أن هيرودوت وغيره من الكتاب اليونانين ظلوا لأوقات طويلة المرجع الوحيد تقريبًا لتاريخ هذه الحقبة فقد نشأت طبقًا لذلك العديد من التصورات المبالغة عن الوجود الفارسي بمصر، فاعتمدت هذه كتابات في أغلبها على روايات الكهنة وأفراد الشعب في حين أهملت المصادر التاريخية الموثوقة لذلك فقد تسربت إليها الكثير من الخرافات والأساطير.4

وكان قمبيز الملك الفارسي الأول الذي يدخل فاتحًا إلى مصر لذلك فقد حاول الاستفادة قدر الإمكان من الأخطاء التي اقترفها الآشوريون خلال حكمهم لمصر، لهذا فقد حاول التقرب وخلق نوع من الودّ والارتباط مع المصريين وذلك باتخاذه للألقاب الفرعونية والاهتمام بالديانات والطقوس المصرية، حتى أن المؤرخ المصري مانيتون نسب إليهم الأسرة السابعة والعشرين بدءًا بالملك قمبيز. وقد سجلت المصادر التاريخية المصرية عدة محاولات للتوسع التدريجي في ممارسة المراسم واعتناق العادات والتقاليد المصرية، إضافة إلى عمله على وضع نظام لتأريخ أحداث عهده في مصر حيث أعتمد هذا النظام على اعتبار أن دخول الفرس إلى مصر قد حدث في فترة أسبق على تاريخ وقوعه الحقيقي أي منذ أصبح قمبيز ملكًا على فارس وهكذا أرخ للأحداث التي وقعت بعد فتح مصر، وهو ما لم يستنكره المصريون وقتها حيث كان قريبًا لنظام التأريخ المصري آنذاك.4

وفي المقابل تشير بعض الدلائل إلى اقترافه للعديد من الأعمال الوحشية تجاه المصريين، منها قيامه بإخراج جثة الملك أحمس الثاني وإحراقها على خلفية مراسلات سابقة بينهما، أو طعنه للعجل أبيس المقدس ودفنه اللاحق في السرابيوم، أو حتى قيام جنود الفرس بنهب الذهب والفضة والأحجار الثمنية من بعض المعابد المصرية بطيبة، ونقله الصناع المصريين لتشييد القصور الضخمة في برسبوليس وسوسا وميديا.3

واقتفى الملك دارا (Darius I) خطوات سلفه قمبيز في سياساته تجاه المصريين تقريبًا، فاعتمد درجة من المواءمة بين الشدة واللين كلًا بقدر ما، وعمل على إثبات مدى إعتزازه بفرعونيته، فعندما وصل إلى مصر كان المصريون يقومون بالطقوس الجنائزية للعجل أبيس الذي ولد في عهد قمبيز فأمر دارا بمنحة قدرها مائة ألف تالنت من الذهب للكلاف المخصصة لخدمة أبيس الجديد، كما أمر باستكمال العمل على الخطة التي وضعها أحمس الثاني لإعادة جمع القوانين وتنظيمها  مما خلق حالة من الرضا العام بين المصريين في حينها، وكان دارا كذلك صاحب الفضل في إنشاء معبد هيبس الضخم الذي خُصص لعبادة الإله أمون بالواحة الخارجة، كما أهتم بنواحي الإصلاح والتنمية في الجوانب التجارية والزراعية فأدخل زراعة بعض المحاصيل إلى مصر مثل السمسم وبعض الحبوب الأخرى.4

أما سياسة اكزركسيس (Xerxes I) ابن دارا وخلفه في الحكم فلم تتسم بذات القدر من الحكمة، حيث تجاهل مشاركة المصريين عاداتهم ومراسمهم ووضع البلاد تحت إدارة أخيه أخمنيس الذي أعتمد الشدة والعنف في سياسته تجاه المصريين، وصادر العديد من أملاك المعابد، وأصبحت معاملة المواطنين من جانب الفرس أكثر قسوة.4

ويبدو من الإشارات والدلائل السابقة مدى التناقض والتضارب التاريخي الذي اكتنف هذه الفترة، إلا أن مما يمكن إقراره من خلال المصادر التاريخية هو البُعد عن المغالاة والقسوة في تصدير هذه الصور المبالغة عن الحكم الفارسي لمصر، وأن التجاوزات التي وقعت في معظمها سواء من البطش بالمصريين في بدايات عهده أو ما وقع من اعتداءات على المعابد والحد من امتيازاتها كانت شائعة خلال تلك الحقبة الزمنية ككل لترهيب الشعوب المهزومة وإحباط مقاومتها.

تاريخ الثورات المصرية ضد الإحتلال الفارسي:

تأخرت وقائع أولى الثورات المصرية حتى عهد الملك دارا، حيث عملت الاصلاحات التي تمت في الفترات السابقة على تهدئة الأمور في البلاد لحد ما، إلى أن تورط الفرس بحرب المدن الأيونية الثائرة والتي انتهت بهزيمة الفرس في موقعة مارثون 490 ق.م بعد مساندة آثينا، حينها شعر المصريون بضرورة المجاهرة بالثورة حيث دفع انشغال الفرس بالحرب إلى تسخير المصريين في قطع أحجار وادي الحمامات وإعادة حفر القناة التي تربط النيل بالبحر الأحمر، وفرض الضرائب الباهظة وذلك لتموين الحاميات الفارسية آنذاك.4

وفي أثناء هذه الصراعات بين الفرس واليونان تجرأ المصريون بالثورة، الأمر الذي أغضب دارا وجعله يتوعد المصريين بالعقاب الشديد إلا أنه مات قبل أن يتحقق له ذلك، وعلى الرغم من عدم الإشارة بشكل مباشر لوقائع تلك الثورة بالمصادر التاريخية في حينها إلا أنه يتضح من خلال بعض التضمينات بأن الثوار كانوا يهاجمون مراكز الإمداد ومستودعات التموين الخاصة بجند الحاميات الفارسية في البلاد، كما توحي بوجود أزمة اقتصادية في البلاد وأن أعمال السلب والنهب كانت سابقة على الثورة العامة.4

وبتولي اكزركسيس للحكم في مصر تمكن من قمع هذه الثورة واستعادة السيطرة الفارسية على مصر بشكل كبير وكان ذلك حوالي 484 ق.م، وظلت قبضة الفرس محكمة على مصر طوال فترة حكمه حتى مات 465 ق.م وخلفه ابنه ارتكزركسيس الثاني.4

أخذت وتيرة المعارك بين الفرس واليونان تتصاعد بشكل هيستيري؛ الأمر الذي ترتب عليه كساد اقتصادي كبير بالإضافة إلى الخسائر العسكرية المباشرة، فقد عمل الفرس على تجنيد المحاربين المصريين للقتال لصالح الفرس في الحرب، وبعد الهزيمة في معركة سلاميس أغتيل الملك اكزركسيس على يد قائد حرسه مما حفز المصريون على الثورة والتمرد مرة أخرى. وكان قائد الثورة في هذه المرحلة هو الملك ايناروس (Inaros II) والذي يُعتقد بأنه كان ابنًا لابسماتيك الثالث أخر ملوك الأسرة السادسة والعشرين.4

وبانضمام بقية القوى الوطنية المبعثرة حينها في أنحاء الدلتا بقيادة أمير أخر يدعى أميرتايوس (Amyrtaeus) إلى ايناروس وجبهته وقعت أولى المواجهات المباشرة مع الفرس في بابريمس، حيث هُزمت القوات الفارسية وفرّت تجاه منف بعد أن قتل أخمينس الوالي الفارسي على مصر في المعركة، ولم يتعقبهم ايناروس مباشرة إلى منف لكنه ترقب حتى يؤمن جبهته من الخلف، بالإضافة إلى تدعيم موقفه السياسي بالتحالف مع حاكمي آثينا وبرقة، وبذلك تمكن الثوار من فرض سيطرتهم على كافة مناطق الدلتا.4

وعلى إثر تلك الخطوات قام الثوار بحصار مدينة منف بمساعدة من الجيوش الأغريقية، وتمكنوا من اقتحام جزء منها إلا أن الفرس تحصنوا بالجزء الأخر من المدينة وأقاموا المتاريس وقاوموا الهجمات لمدة ثمانية عشر شهرًا حين تمكنت الجيوش الفارسية من التخلص من الحصار واستعادة السيطرة على البلاد مرة أخرى، وأخذ ايناروس أسيرًا في سوسا حيث أُمر بإعدامه هناك. 4

في حين تمكن أميرتايوس رفيق ايناروس من الفرار إلى جزيرة البو التي اتخذها مركزًا له حيث احتفظ باستقلاله، وعمل هناك على التجهيز للعودة مرة أخرى بمعاونة من اليونان إلا أن الهدنة التي أُعلنت بين الفرس واليونان بعد معاهدة كالياس قد أفسدت خططه بالثورة مرة أخرى. 4

الثورة الكبرى والاستقلال عن الفرس:

منذ وقوع الحرب البيلوبونيزية بين آثينا وآسبرطة 341 ق.م وبدأ الهدنة المشتركة مع الفرس فَقَدَ المصريون أي أمل في  الحصول على المساعدة اليونانية للتخلص من الفرس، وفي هذه الأثناء أغتيل الملك اتكزركسيس وخلفه دارا الثاني الذي كان على العكس من أسلافه غير مؤمن بالتسامح الديني، وحاول فرض عقيدته التي تقوم على عبادة النار في شتى الأقاليم المصرية الأمر الذي استتبع غضب المصريين حتى تحرجت الأمور واقتضت الثورة. 4

وفي حوالي 410 ق.م اندلعت الثورة في كافة الأقاليم المصرية وإن كانت أكثر نشاطًا بالانحاء الشمالية من البلاد، وقد كان قائد هذه الثورة هو أميرتايوس الثاني الذي يرجح أنه ابن بوزيريس ابن أميرتايوس الأول، واشتدت الثورة حتى تكللت بالنجاح في طرد الفرس وتحرير البلاد وقيام الأسرة الثامنة والعشرين. 4

 ترجمة: محمد أمين

مراجعة: عمر بكر 

تدقيق : محمد سيد الجوهري

#الباحثون_المصريون

المصادر:

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي