إنني لن أتحدَّث بطبيعة الحال عن عبَّاس العقَّاد كما خلقهُ الله؛ فالله جلَّ جلاله أولى بأن يُسأل عن ذلك.. ولن أتحدَّث بطبيعة الحال عن عبَّاس العقَّاد كما يراهُ الناس؛ فالناس هم المسؤولون عن ذلك.. ولكن سأتحدَّث عن عباس العقاد كما أراهُ.
وعبَّاس العقَّاد كما أراهُ -بالاختصار- هو شيٌء آخر مُختلف كلُّ الاختلاف عن الشخص الذي يراهُ الكثيرون من الأصدقاء أو من الاعداء.. هو شخصٌ أستغربه كلَّ الاستغراب حين أسمعهم يصفونه أو يتحدَّثون عنه حتى ليخطر لي في أكثر الأحيان انهم يتحدَّثون عن إنسانٍ لم اعرفهُ قط، ولم ألتق بهِ مرةً في مكان.
فأضحك بيني وبين نفسي وأقول: ويلٌ للتاريخ من المؤرِّخين! أقولُ ويلٌ للتاريخ من المؤرِّخين؛ لأنَّ الناس لا يعرفون من يعيش بينهم في قيدِ الحياة ومن يسمعهم ويسمعونه ويكتب لهم ويقرؤونه، فكيف يعرفون من تقدَّم بهِ الزمن ألف سنة، ولم ينظر إليهم قط، ولم ينظروا إليه؟
فعبَّاس العقَّاد هو في رأي بعض الناس مع اختلاف التعبير وحُسن النية، هو رجلٌ مُفرط الكبرياء.. ورجلٌ مُفرط القسوة والجفاء، ورجلٌ يعيش بين الكتب ولا يباشر الحياة كما يباشرها سائر الناس، ورجلٌ يملكه سلطان المنطق والتفكير ولا سلطان للقلبِ ولا العاطفةِ عليه.. ورجلٌ يصبح ويمسي في الجدِّ الصَّارم؛ فلا تفترّ شفتاه بضحكةٍ واحدة إلا بعد استغفار واغتصاب!
هذا هو عبَّاس العقَّاد في رأي بعض الناس.. وأقسم بكل ما يُقسِم به الرجل الشَّريف أن عبَّاس العقَّاد هذا رجلٌ لا أعرفهُ، ولا رأيتهُ، ولا عشت معهُ لحظةً واحدة، ولا التقيت به في طريق.
العقاد متحدثًا عن نفسه
إنه أديب، ومفكر، وصحفي، وشاعر، وفيلسوف، ومؤرخ، ومترجم، وعضو سابق في مجلس النواب المصري، وأحد صُنّاع الأدب العربيّ الحديث، وعضو في مجمع اللغة العربية، لم يتوقف إنتاجه الأدبي بالرغم من الظروف المؤلمة التي مر بها؛ فقد كان يكتب ويترجم المقالات ويرسلها إلى الصحُف، ويُعد العقَّاد أحد أهم كُتاب القرن العشرين في مصر، وقد ساهم بشكلٍ كبير في الحياة الأدبية والسياسية، وأضاف للمكتبة العربية أكثر من مائة كتاب في مختلف المجالات.[1]
يُقال أن معنى العقَّاد: هو المشتغل بصناعة الحرير، وأصلها إن جده الأكبر -من جهة والده- ويُدعى: إبراهيم، كان يشتغل بمصنع حرير في مدينة دمياط، وانتقل منها إلى المحلَّة الكبرى وهي مركز صناعة الحرير، وأوشك هذا اللقب ان يتحول من العقَّاد الى الصَّوَّاف في عهد جده -أبو والده-؛ حيثُ إنه نشأ من جيل المتعلمين على البرنامج الذي كانوا يعدّون به الموظفين في ذلك الوقت، وكان مُتقدِّم في الحساب؛ فـ عُيِّنَ صوَّافًا بمُديرية دِفنة واشتهر هناك باسم: إبراهيم الصَّوَّاف، وأحيانًا بـ: إبراهيم العقَّاد، إلى أن نُقِلَت المُديرية من دِفنة إلى أسوان، وتخلَّى عن الوظيفة، وعاد إلى اسمه مرة أخرى.. العقَّاد.[2]
نشأة عباس العقاد: انبثاق الإبداع من الاختلاف
وُلِدَ العقَّاد ونشأ في مدينة أسوان عام 1889م، في أيام (حملة الدراويش)، والتي كانت أسوان مركزها، مما جعله يعتاد الخطر في كل ساعة ومنذ نشأته؛ لأنهم كانوا يتلقّون الإنذار بقدوم الجيش من جهة الصحراء.
(حملة الدراويش): هي حملة عسكرية قامت تحديدًا بيوم 3 أغسطس 1889م بقيادة عبد الرحمن النجومي؛ ليصبح خليفة على مصر والسودان.
ويقول انه استفاد من هذه النشأة شيئين. أولًا: الاستعداد الكامل لمواجهة الخطر في كلِّ وقت. وثانيًا: القدرة على الإحاطة بالنقائض في مظاهر العيشة ومظاهر الحضارة؛ فهو كان يرى الآثار القديمة التي تُمثِّل حياة المصريين القدماء، ويعيش حياة مُحافِظة جدًا؛ حتى أنه لو رأى أمه في الطريق لا يعرفها -وهذا دليل على شدّة الاحتشام في الملبس حتى أنه لا يكاد يظهر منها شيء، ويرى في الشوارع والفنادق أحدث مظاهر الحضارة الأوروبية التي تملأ أرجاء المُحافظة بألوف من السائحين من كافة أنحاء العالم التي كانت تحتفل بهم المدينة بأكملها لقدومهم.[2]
الجمالُ هو الحُريَّة، فالإنسان عندما ينظر إلى شيءٍ قبيح تنقبض نفسه وينكبح خاطره، ولكنه إذا رأى شيئًا جميلًا تنشرح نفسه ويطرد خاطره، إذن فالجمال هو الحُريَّة، والصوتُ الجميلُ هو الذي يخرج بسلاسه من الحنجرة ولا ينحاش فيها، والماءُ يكون آسنًا لكنه إذا جرى وتحرَّك يصبح صافيًا عذبًا، والجسمُ الجميلُ هو الجسم الذي يتحرك حُرًّا فلا تشعر أن عضوًا منه قد نما على الآخر، وكأن أعضاءه قائمة بذاتها في هذا الجسد.
الشيخ محمد عبده: التنبُّؤ بعبقرية عباس العقاد
وقد حدثَ أن الشيخ محمد عبده قد تنبَّأ له بأنه سيكون كاتبًا عظيمًا عندما زار أسوان، وكان يوم درس الإنشاء عند العقَّاد، فقام أستاذه محمد فخر الدين بأخذ كراسة الإنشاء من العقَّاد وعرضها على محمد عبده، وكان موضوع الإنشاء عادةً يقوم حول المُفاضلة بين شيئين كـ: الذهب أو الحديد، الحرب أو السِّلم، القوة أو الضعف.. وكانت عادته دائمًا اختيار أضعف الطرفين وأسوأهم للدفاع عنه، ويحاول أن يقوِّيه بحججه وأسلوبه الخاص. وكان الموضوع في ذلك اليوم عن: «الحرب أو السلام». وسأله يومها: «كيف تُفضِّل الحرب؟» وشرع الشيخ بذِكْر أضرارها وعواقبها، فأخذ يستمع ويناقشه ويدافع عن الحرب؛ وكانت حُجَّته أنها تُظهِر المُضحِّي من الجبان، وتقضي على الضعفاء، وتبرز الأبطال، وتجدد حركة النشاط في المجتمع، وتُبقي على الصالحين. ولم يشعر أبدًا أنه أمام رجلٍ يهتز له الشرق الأوسط من غزارة علمِه. فابتسم الإمام محمد عبده، ووضع يده على كتفه وقال للشيخ محمد فخر الدين:
إن أجدر هذا أن يكون كاتبًا بعدُ.
وظلَّت هذه العبارة في خاطر العقَّاد لم ينساها قط، بل حفظها عن ظهر قلب كما هي، بإيماءات محمد عبده، ونظراته، ولهجته، وبضمِّ الدال في: (بعدُ) عوضًا عن التسكين. إلى أن سمعَ خُطب سعد زغلول، فرآه دائما يقف على الحركة لا على السكون، واستدلَّ على ذلك بعبارة: «سكِّن تسلم»، أي اختم بالسِّكون وكُن في مأمن من الوقوع في الخطأ النحويّ. واطمئن العقاد لصلاح منطق هذه المدرسة والتي هي ذاتها مدرسة الشيخ محمد عبده، والتي تقي من الكثير من الأخطاء الإعرابية. وكان لها أثر كبير في نفس العقَّاد.[2]
فهمتُ شيئًا يُسمَّى المُستقبل، فلم أعرف لي أملًا في الحياةِ غيرَ: «صناعة القلم»، وقد نُكِبَ هذا البلد المِسكين بداءِ الاستبداد القديم، ولقد حاربت الطُغيان وحاربت الفوضى، حاربت مذاهبَ الهَدْمِ والبغضاء، حاربتُ الأحزابَ وحاربت الملوكَ وحاربت المستعمرين، لقد حاربت جميع هؤلاء، فالتقى على مُحاربتي أُناسٌ من جميعِ هؤلاء، والحمدُ لله على عداوة هؤلاء، ووقانا الله شر الرضى من هؤلاء.
عباس العقاد وبداية الرحلة
سافر إلى القاهرة لأوَّل مرة لإجراء الكشف الطبيّ عندما توظَّف في الحكومة، ولم يمكث فيها أكثر من أربعة أيام، ثم عاد إليها مرات بعد انتقاله من قِنا والتي كانت موطن وظيفته الأولى، ومن قِنا إلى الزقازيق، وكان يحضر إلى القاهرة كل أسبوع؛ إما لشراء الكتب من المطبوعات الحديثة، أو لحضور التمثيل في ضوء الشيخ سلامة حجازي.
وقال عن القاهرة أنها كانت في طور نهضة، وكانت مُهتمَّة كثيرًا بالشِّعر والخطابة، ولم يكُن يمرُّ أسبوع دون الاجتماع في حديقة الازبكية؛ للاستماع إلى خطيبٍ من الخُطباء في الأدب والسياسة والاجتماع. وكان إلى جانب ذلك يستمع إلى أساتذة الصحافة كـ: مصطفى كامل، وعلي يوسف، وأبو شادي. وبعض البارزين كـ: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم. ولكنّه لم يكُن ينتمي إلى هذه المدرسة؛ أولًا: لاختلاف السن. ثانيًا: لأنه شعر أنها تُخالف المدرسة التي يتّجه إليها والتي تشبه الأدب العربي القديم كـ: المُتنَبِّي، وغيره. والذي أكَّد أنها تُمثِّل الأدب الصَّحيح.
وقد دفعه التشابه للالتقاء بأمثاله كـ: إبراهيم عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري ويوسف السباعي وكانوا يتبادلون الآراء ويقرأون ويكتبون سويًا.[2]
لستُ أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرًا في تقدير الحساب.. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياةً واحدةً، وحياةٌ واحدةٌ لا تكفيني، والقراءة -دون غيرها- هي التي تُعطيني أكثر من حياة؛ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العُمق.
عباس العقاد والبحث عن الشغف
وكان العقَّاد يريد أن يتم دراسته في المدرسة الحربية؛ وكان ذلك لاهتمامه بالحروب والدفاع عن بلدته أسوان، ثم اكتشف مُتأخرًا أن انجذابه للشِّعر هو سبب عزوفه عن الحربية، فقرر إكمال دراسته في مدرسة الزراعة؛ لأنها المدرسة التي تعنى بالنباتات والطيور، وهو كان مُغرم بكل ما يخص الأمور النباتية وكان يهوى تعقُّب الطيور. ثم أشار أحد أقاربه على والده أن يقوم بتوظيفه؛ لأن العائلة بأكملها موظَّفين، وكان للأمر غرضًا ماديًا أيضًا يهدف إلى تأمين حياته. فاقتنع والده بذلك؛ فإنه إن بقى في الوظيفة ثلاث سنوات سيتزايد راتبه بمُعدَّل جيد حتى يبلغ نفس المرتب الذي كان سيتقاضاه بعد تخرّجه من كلية الزراعة؛ فرأى أنهما سيان، وعزم على توظيفه سريعًا.
وبعد توظيف العقَّاد اكتشف أن حياة الوظيفة لا تلائمه مُطلقًا، واستقال قبل إتمام السنة. ثم اشتغل في وظائف عدة كـ: التلِّغراف، واستمرَّ بها ستة أشهر فقط. ثم استقال، وعزم على ترك الوظائف نهائيًا.
اتّجه بعد ذلك إلى الصَّحافة، وكانت أول صحيفة يعمل بها هي: (صحيفة الدستور اليومية)، وأحبَّ حياة الأدب والأدباء وخاصةً بعد نفوره من حياة الموظَّفين الرتيبة.
وكتبَ أول كتاب له بعنوان: «خُلاصة اليوميَّة»، وهو كتاب يضم مذكّراته اليومية التي اعتاد على تدوينها، ويضم ملاحظاته وبعض تعليقاته على كل كتابٍ قرأه، وكان سبب كتابة هذا الكتاب أنه ظنَّ في ذلك الوقت أن الموت يقترب منه؛ حيث داهمه المرض حينذاك، وخال له أنه لن يعيش حتى يحقق حلمه ويؤلف كتابًا، وهو كان يطمح إلى مستقبلٍ أدبي، فأراد أن يترك أثرًا قبل أن تنتهي حياته بإصدار هذا الكتاب، فأرسله إلى صديقٍ له في القاهرة، وأوصاه إذا حدث له شيء أن يقوم بنشر هذا الكتاب، ولكنه شُفيَ بعد أشهر، ونشر الكتاب بنفسه. وظلَّ الكتاب مغمورًا ما يقرب الثمان سنوات، حتى ذاعَ صيت العقَّاد، وحُفر اسمه في تاريخ الأدب، وانتشرت أعماله ومؤلفاته، فباع الكتاب -كتاب خلاصة اليوميات- آلاف النُسخ.
إذا فاجأني الموت في وقتٍ من الأوقات، فإنني أصافحه و لا أخافه بقدر ما أخاف المرض، فالمرض ألمٌ مُذِل لا يُحتمَل، لكن الموت ينهي كل شيء
وظلَّ على هذا الحال حتى سن الأربعين، فكان يرى أنه لا يصلح للحياة الزوجية؛ فهو سياسيّ في المقام الأول، وكانت له حياة صعبة مليئة بالمُطاردة والعزلة والعكوف على الكتابة والانغماس في القراءة، ولكنه لم يكن أبدًا ضد الزواج، ولكنه كان يرى أن الأمر بالنسبةِ له متوقَّف على الزوجة؛ فهو يحتاج مُعينًا وسندًا له، وليس مُجَّرد عالة.
وخلاصة التجارب كلها في الحب أنك لا تحب حين تختار، ولا تختار حين تحب، وأننا مع القضاء والقدر حين نُولَد وحين نحب وحين نموت
وصرَّح أن أهمّ سبب لارتباطه الوثيق ببيته، ألا وهو كتبه. فالعائق الوحيد الذي يقف حائلًا بينه وبين تغيير المنزل لمنزل أكبر وأرقى هو صعوبة ترتيب مكتبته -والتي تحوي أكثر من ثلاثين ألف كتابًا- مرةً أخرى بالكيفية التي اعتادَ عليها، وأنه لا يثق في أن يوكِّل هذا الأمر لسواه، وإذا قام به بنفسه فسيستغرق قرابة الستة أشهر، الوقت الذي يُمكِّنه من قراءة وكتابة وإنتاج الكثير، وذلك عنده بالطبع أجدر بكثير.[2]
عمل عباس العقاد الأكثر عبقرية
وقد ألَّف العقَّاد أكثر من مائة كتاب، ولعلَّ أشهرهم هي «مجموعة العبقريات الإسلامية»: وهي سلسلة من المؤلَّفات قام بتأليفها المُفكِّر عباس محمود العقاد وتضم الخلفاء الراشدين والمسيح. العبقريات ليست سردًا للأحداث التاريخية أو لأحكام الإسلام، إنما عبقرية النبيّ مُحمَّد، وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، هي إظهار للعبقرية العربية التي أنجبت هذه الشخصيات، و أن العبقرية ليست حِكرًا على أمة من الأمم. ومن ناحية أخرى، فإنه لم يكتب تاريخًا للأشخاص أو الوقائع فحسب.. بل كل كان يصب الفِكَر في قوالب كتبه مُحلِّلًا لأحداث ومواقف الشخصيات التي يتناولها عن طريق معالجته ومناقشته لأمَّهات الكتب التاريخية ومراجعها الكبرى.[3][4]
معارك عباس العقاد الأدبية
وفي حياة العقاد معارك أدبية جعلته نَهِمًا للقراءة والكتابة، منها: معاركه مع الرافعي وموضوعها فكرة إعجاز القرآن، واللغة بين الإنسان والحيوان، ومع طه حسين حول فلسفة أبي العلاء المعري، ومع الشاعر جميل صدقي الزهاوي في قضية الشاعر بين الملكة الفلسفية العلمية والملكة الشعرية، ومع محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في قضية وحدة القصيدة العضوية ووحدتها الموضوعية ومعارك أخرى جمعها عامر العقَّاد في كتابه: «معارك العقاد الأدبية».[3][4]
نقد عباس العقاد للشِّعر الحُر
وكان العقَّاد يرى أن صعوبة الأوزان العربية واعتبارها حائلًا دون الشِّعر وموضوعاته المتنوعة واستبداله بما يُسمِّى «الشِّعر الحُر» هو وهمٌ لا أساس له من الصّحة، ولم يترك العقَّاد هذه النقطة المُهمة قبل أن يقيم عليها أكثر من دليل: إحداهما من التاريخ، والأخر يعتمد فيه على تطور الأدب العربى في العصر الحديث.
أما الدليل التاريخي الأول فيقول فيه إن شعراء الفارسية والعبرية والأوردية قد اختاروا أن ينظموا بلغاتهم فى أوزان العروض العربية وفضّلوهاعلى أوزانهم القديمة؛ وذلك لسهولتها، وجمال وقعها على الآذان والنفوس، وهو يبسط هذا الدليل التاريخي وكأنه يسخر ممن يشكون صعوبة الأوزان العربية؛ فيذكر شعراء العامية في القصص والملاحم، كما يذكر أناشيد الأعراس والمآتم.
أما الدليل الثاني الذى اعتمد فيه العقَّاد على مُراجعة التطوُّر الأدبيّ في العصر الحديث، فقد اعتمد فيه على جانبين: أحدهما إيجابي، والآخر سلبيّ. فأما الجانب الإيجابي فقد تمثَّل فى اتّساع الشِّعر العربي بأوزانه وقوافيه لنظم المسرحيات والموضوعات المتعددة ولترجمة الإلياذة ولغيرها من الملاحم. أما الجانب السلبيّ فقد تمثَّل في ثلاث تجارب من الشعر المُرسَل وقف عندها العقَّاد لثلاثة من أعلام الأدب العربيّ الحديث وهم: توفيق البكري، وأمين الزهاوي، وعبدالرحمن شكري. وقد صدّر العقَّاد الحديث عنهم بقولهِ:[3][4]
والثابت فى تجربة الناظرين في تعديل الأوزان منذ ستّين سنة أن إلغاء القافية كل الإلغاء يفسد الشعر ولاتدعو إليه الحاجة
وأخيرًا يواجه العقَّاد الداعين إلى إلغاء الأوزان والقوافي بأن موقفهم هذا لا يأتي من جانب سليم، ولا يؤدي إلى غاية سليمة، ولايدعو إلى ذلك فى رأى العقَّاد إلا العاجزون عن نَظْم مارسه شُعراء العامّة فى القصص والملاحم والأفراح والمآتم.
وإذا كان هؤلاء يعجزون عن ذلك بهذه الصورة ولا تُمكِّنهم ملكاتهم من أن يكونوا مثل هؤلاء، فلا خيرَ لفنِ الشعر منهم، ولا فيما يقولون، وهُم بالنثرِ أولى، والنثرُ أولى بهم.
اللحظات الأخيرة في حياة عباس العقاد
في 13 مارس 1964م،اسيقظ عبَّاس العقَّاد بمنزله بمصر الجديدة، وجلسَ على الكرسي المُجاور لسريره مُناديًا عبد العزيز ابن شقيقه الذي حضرَ مُسرعًا ليطلب منه العقَّاد أن يُوقِظ أخيه عامر، وما إن خرجَ الشاب عبد العزيز إلى صالة الشقة لينادي والده عامر، سمعَ صوت ارتطام بالأرض.. حيثُ أسرعا إلى غُرفة العقَّاد ليجدوه سقطَ من على كرسيه ليرتطم بسجادة أرض غرفته، فأسرعَ عامر بالاتّصال بالدكتور عليان طبيب العقَّاد الخاص الذى طلبَ منه إعطائه حُقنة (كورامين) فورًا حتى يحضر، وخلال عشر دقائق كان الدكتور عليان بالمنزل، ولكن الوقت كان قد مضى، فقد توفيَ العملاق عبَّاس محمود العقَّاد بجلطةٍ لم يحتملها قلبه وهو في سن الـ 75 عامًا، بعد رحلة طويلة في الأدب والشِّعر والكُتب والنقد والحياة.
فلسفة حياة في بضعة سطور: غِناك في نفسِك، وقيمتُك في عملِك، وبواعثُك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرًا، تحمد عاقبته بعد كل انتظار
المصادر
- aljazeeradoc. “عبقرية العقاد.”https://bit.ly/2vkX1ZG YouTube, YouTube, 25 Aug. 2016,
- “حوار عباس محمود العقاد مع أماني ناشد كاملاً. https://bit.ly/2LWIuxj ”YouTube, YouTube, 19 June 2016,
- العقاد عباس محمود.أشتات مجتمعات في اللغة والأدب. نهضة مصر, 1995.
- العقاد عباس محمود.اللغة الشاعرة. نهضة مصر, 2011.
كتابة وإعداد: هبة خميس
مراجعة علمية ولُغوية: آلاء مرزوق
تحرير: زياد الشامي