مفهوم الذكاء العام وعلم الأعصاب
يقول ألبرت أينشتاين: «الإشارة الحقيقة على الذكاء ليست المعرفة، وإنما التخيل»، وقد ألهمت هذا الاقتباس الكثيرين. ولكن من وجهة نظر علم الأعصاب، ما هي حقيقة الذكاء وما الذي يختلف ويؤثر في مُعدل الذكاء من فرد إلى آخر؛ هذا ما سنطلع عليه بشكل بسيط في السطور القليلة القادمة؛ ومن خلالها سنجيب على بعض الأسئلة، منها:
ما هو تعريف الذكاء؟
وهل يرتبط معدل ذكاء الفرض بحجم دماغه؟
ما هي بعض العوامل المؤثرة في اختلاف مقيسًا الذكاء بين الجنس البشري؟
تعريف الذكاء:
التعريف الشامل للذكاء العام (General Intelligence – g)، والذي اتفق عليه 52 باحثًا في هذا المجال أنه هو القدرة العقلية العامة على التفكير، وحل المشاكل، والتفكير المُجرد، وفهم الأفكار المُعقدة، وسرعة التعلم، والقدرة على التعلم من خبرات الآخرين. إنه ليس القدرة على تعلم كتاب فحسب أو تعلم مهارة أكاديمية صغيرة أو القدرة على الأداء بشكل جيد في الامتحانات، ولكن يعكس مفهوم الذكاء قدرة أعمق وأوسع على فهم المحيط خاصتنا من خلال فهم الأفكار والمنطقية في فهم الأشياء والقدرة على اكتشاف ما يلزم فعله. وبُناءً على هذا التعريف فإن الذكاء يُمكن أن يُقاس أو مقاييس الذكاء تقوم بذلك بشكل جيد. (1) ولكن بشكل عام فإن المشاكل التي تُواجه أدوات قياس الذكاء العام تكمن في مشكلة تحديد الأجزاء الكامنة وراء هذا المفهوم وتحديد تركيبهم. (2-4)
وبناءً على هذا التعريف فإنه يمكن قياس مُعدل ذكاء الفرد عن طريق اختبارات قياسية (standardized tests) يتم على أساس نتيجتها التنبؤ بقدرات ونتائج اجتماعية عريضة للفرد، مثل: الإنجازات التعليمية، والأداء الوظيفي، والصحة، وكذلك أيضًا طول العمر. (5)
وتمكنت عمليات التصوير العصبي لوظائف وتركيب الدماغ من دعم وجود شبكة بين الفصين الجبهي والجداري تُسمى “frontoparietal network ” أو الشبكة الجبهية الجدارية مرتبطة بشكل كبير بتحديد مُعدل ذكاء الفرد. وقد وُجد أيضًا أن هذه الشبكة مسؤولة عن الوظائف المعرفية للمخ المرتبطة بالإدراك والتخزين في الذاكرة قصيرة المدى واللغة. (5)
ولكن هل يختلف فعلًا مستوى الذكاء من شخص لآخر؟! في تقرير جمعية علم النفس الأمريكية (The American Psychological Association) عن الذكاء، أقر التقرير بالآتي: «يختلف الأشخاص من حيث قدرتهم على فهم أفكار مُعقدة، والتأقلم بشكل فاعل مع البيئة، والتعلم من الخبرات، والمُشاركة في الأشكال المُختلفة من التفكر، والتغلب على العقبات عن طريق التفكير.» (6)
نظرية الطبقات الثلاثة:
لأكثر من قرن حاول علماء علم النفس تطوير المئات من الاختبارات لتكون أداة قياسية في تحديد وقياس الذكاء البشري مع اختلاف درجة موثوقية هذه الاختبارات وصلاحيتها للتطبيق. (7) وقد سمحت القياسات الناتجة عن هذه الاختبارات بوضع تصنيف للقدرات المعرفية الصغيرة والكبيرة (minor and major cognitive abilities). وكان أحد هذه التصنيفات التصنيف الذي وضعه العالم جون كارول (J.B. Carroll) وسُمي هذا التصنيف بنظرية الطبقات الثلاثة للذكاء، وقد وُضعت هذه النظرية بعد إعادة تحليل أكثر من 400 مجموعة بيانات للآلاف من العينات من 20 دولة مختلفة حول العالم. (8-9)
وُضعت هذه النظرية بناءً على دراسة تحليلdة لعوامل الارتباط للمتغيرات الفردية (correlation of individual-difference variables) من خلال بيانات تم تجميعها من الاختبارات النفسية والدرجات المدرسية وتقييم الكفاءة. وتقوم النظرية على أساس نموذج ثلاثي الطبقة حيث تكون كل طبقة مسؤولة عن الاختلافات في العلاقات المتبادلة بين عوامل الطبقة التي تليها. والطبقات مقسمة على أساس تمثيل قدرات معرفية ضيقة، وواسعة وعامة.
الطبقة العليا من هذا النموذج الثلاثي -هرمي الشكل- عبارة عن عامل يُمثل الذكاء العام ويُسمى بالعامل (g). يوفر هذا العامل (g) مؤشرًا لدرجة الصعوبة التي يُمكن للفرد التعامل معها أثناء اختبارات الاستقراء، والتفكير، والتخيل، وفهم اللغة. وفي الطبقة الثانية العديد من عوامل القدرات المعرفية الواسعة منها: الذكاء المائع (fluid intelligence)، والذكاء المبلور (crystallized intelligence)، والذاكرة العامة، والاستقبال الحسي والبصري، والقدرة على الاسترجاع والسرعة الإدراكية. وفي أسفل الهرم توجد الطبقة الأولى حيث القدرات المعرفية الضيقة (Narrow Cognitive Abilities) كالاستقراء، ومعرفة المفردات، والذاكرة الترابطية (Associative memory)، والقدرة العامة على التفريق بين الأصوات، والطلاقة الفكرية.
وقد أظهرت التحليلات نتيجتين مهمتين:
- أن قيمة العامل (g) تُكون أكثر من نصف الاختلافات في الاختبارات والوظائف المعرفية.
- أن هناك قدرات معرفية مختلفة ومحددة يمكن قياسها وتحديدها، من ضمنها النطاقات المعرفية للغة والذاكرة والتعلم، والإدراك البصري، ومعالجة المعلومات؛ وعلى أي حال فهناك أكثر من 60 وظيفة معرفية محددة أو ضيقة يمكن قياسها.
وتقوم الاختبارات الحالية، ومنها كأفضل مثال (Wechsler Adult Intelligence Scale -WAIS)، بقياس العامل (g) بجانب الكثير من القدرات المعرفية والمهارات المُحددة. وفي هذا المقياس – WAIS – تكون هناك أجزاء نسبة العامل فيها كبيرة كجزء مفردات اللغة، وأجزاء أخرى يكون فيها العامل أقل قيمة كالجزء الخاص بـ (Digit Symbol). (10-11)
الذكاء البشري والدماغ:
بناءً على 37 دراسة تمت بين عامي 1988و2007، قام العالمين جانك وهاير (Jung and Haier) بوضع نظرية تُسمى (Parieto-Frontal Integration Theory – PFIT) (12)، وتَعتبر هذه النظرية أن الذكاء مرتبط بكيفية تكامل مناطق مُعينة من المخ لتكوين التصرفات الذكية. وتصف النظرية أربعة مراحل يتم من خلالها معالجة المعلومات، وهي: (5)
- تقوم المناطق القذالية والصدغية (Occipital and Temporal areas) بمعالجة المعلومات الحسية: حيث تقوم مناطق مثل (Extrastriate cortex) والتلفيف المغزلي (fusiform gyrus) بالتقاط وتوضيح والتعرف على المدخلات الحسية البصرية؛ بالإضافة إلى منطقة فيرنيك (Wernicke’s area) لتحليل وتوضيح تركيب المدخلات الصوتية.
- تكامل تجريد المعلومات الحسية عن طريق المناطق الجدارية (Parietal areas)، ومنها: التلفيف الزاوي والفصيص الجداري العلوي.
- تتفاعل المناطق الجدارية مع الفص الجبهي في المرحلة الثالثة من معالجة المعلومات، ويكون هذا التفاعل هو الكامن وراء علميات حل المشاكل والتقييم واختبار النظريات.
- تقوم القشرة الحزامية الأمامية (anterior cingulate) باختيار ردة الفعل المناسبة ومنه ردات الفعل الأخرى ما يتم تحديد الحل المناسب في المرحلة الثالثة من المعالجة.
وفي الصورة التالية تظهر المناطق المرتبطة بمعالجة البيانات وبالتالي عملية مستوى الذكاء والمرحلة المسؤولة عنها كل منطقة.
ويرتبط أيضًا بعملية تحديد مستوى ذكاء الفرد عوامل ومناطق أخرى في الجهاز العصبي كتركيز بعض النواقل العصبية مثل الدوبامين والقشرة البيضاء. (5)
هل الدماغ الأكبر تعني مستوى ذكاء أعلى؟! (13)
طُرح هذا السؤال على الصفحة الإلكترونية لمركز علوم الأعصاب التابع لجامعة ستانفورد، وكانت الإجابة كالآتي:
” يُعتبر هذا السؤال سؤلًا مثيرًا للجدل؛ فالعلاقة بين حجم الدماغ ومستوى الذكاء بين البشر أو الفصائل الحية الأخرى لم يتم حسمه بشكل واضح. يحب البشر أن يعتبروا أنفسهم ملوكًا لمملكة الحيوان من حيث حجم الدماغ مقارنة بحجم الجسم والقدرات المعرفية الهائلة. لوكن في الواقع فإن حيوانات أخرى كالفيلة أو الحيتان لديها أدمغة أكبر من البشر؛ ونحن كبشر لدينا نفس النسبة بين حجم الدماغ والجسم كتلك التي بين دماغ الفأر وجسمه.
ولأنه سيكون ضد طبيعتنا إذا اعترفنا بهزيمتنا كبشر؛ فقد قام العلماء بإنشاء قياس ثالث لحجم الدماغ يُسمى (encephalization quotient) أو مُعامل التدمغ، وهو النسبة بين كتلة الدماغ الحقيقية وكتلة الدامغ المتكهنة لحيوان ما استنادًا على الافتراض أن الحيوانات الأكبر تتطلب مادة دماغية أقل بالنسبة إلى حجمهم مقارنة بالحيوانات الصغيرة. وبالفعل فإنه تِبعًا لهذا المقياس فإن البشر لديهم أكبر معامل تدمغ يُساوي (7.5) وهو أكبر بكثير من ذلك الذي يملكه الدولفين (5.3) والفأر (0.5).
ولكن هل يعني امتلاكك لدماغ أكبر أن مستوى ذكائك أعلى؟ ستجيب بعض الدراسات بنعم. مكن التصوير بالرنين المغناطيسي العلماء من مقارنة حجم الدماغ لبعض البشر وسعوا لربط هذه القياسات بمُعدل الذكاء الذي يمتلكه هؤلاء البشر.
أظهرت تحاليل التلوي الإحصائية لـ 26 دراسة مختلفة أن مستوى الترابط بين حجم الدماغ ومستوى الذكاء يتراوح بين مدى (0.3-0.4). ومؤخرًا أظهرت الدراسات الجينية (genome-wide association study) على أكثر من (20000) عينة بشرية اكتشاف جين مرتبط بتحديد مستوى ذكاء الفرد. تبعًا لنتائج الدراسة فإن الاختلاف في جين (HMGA2)، وهو المسؤول عن تكوين البروتين الذي ينظم نسخ الحمض النووي ونمو الخلية، يرتبط بزيادة الحجم الداخلي للجمجمة ومعدل الذكاء أيضًا.
ولأكون صادقًا فإني أجد هذا الترابط مشوش إلى حد ما. من الواضح أنه يوجد ماي يؤثر في مستوى الذكاء أكثر من حجم الدماغ وإلا كان ألبرت أينشتاين العالم الفذ وذو حجم الدماغ المتوسط غير محظوظ. من المهم أن نفكر حول كيفية تعريفنا للذكاء وأن نضع في حسباننا أن الدراسات المذكور سابقًا تُظهر ترابط بين حجم الدماغ نتيجة الفرد في اختبار معدل الذكاء (IQ Test). وعلى الرغم من أن هذا الاختبار هو الأكثر استخدامًا على مر التاريخ، لكنه لا يمكن على أي حال أن يقيس كل جوانب الذكاء البشري ولا أن يكون وسيلة عرض ثابت لكل القدرات المعرفية للأفراد.
…لحسن الحظ، فإنه يمكن كشف معلومات أكثر عندما ننظر إلى الدماغ بتفاصيل أدق، ويعتقد الكثير من العلماء الآن أن تعقدي التركيب الخلوي والجزيئي للارتباطات العصبية أو نقاط الاشتباك العصبي (synapses) هي المُحدد الحقيقي للقدرة الحسابية للدماغ. هذه النظرة مدعومة أيضًا بالنتائج التي تُشير أن معدل الذكاء مرتبط بشكل أكبر بحجمي الفص الجبهي والمادة السنجابية (gray matter) واللذان يحتويان على أعداد أكثر كثافة من أجسام الخلايا العصبية ونقاط الاشتباك العصبي، وذلك أكثر من ارتباطه بالحجم الكلي للدماغ. وهناك بحث آخر يُقارن بين البروتينات الموجودة عند نهايات الاشتباك العصبية في الكائنات الحية المختلفة، يُشير إلى أن مكونات نقاط الاشتباك العصبي على المستوي الجزيئي تمتلك تأثيرًا ضخمًا على معدل الذكاء خلال التاريخ التطوري للكائنات.
لذا فإنه على الرغم من كون امتلاك دماغًا كبيرًا يُعتبر تنبؤًا بامتلاك معدل ذكاء أكبر، فإنه على الأرجح يعتمد معدل الذكاء بشكل أكبر على إلى حد تتواصل الأجزاء المختلفة من الدماغ البشري مع بعضها البعض بشكل فاعل.”
المصادر
- Gottfredson, L. S. Mainstream science on intelligence: an editorial with 52 signatories, history, and bibliography. Intelligence 24, 13–23 (1997).
- Hunt EB. Human Intelligence. Cambridge, UK: Cambridge University Press. In press.
- Johnson W, Bouchard, T. The structure of human intelligence: It is verbal, perceptual, and image rotation (VPR), not fluid and crystallized. Intelligence. 2005; 33:393–416
- McGrew K. CHC theory and the human cognitive abilities project: standing on the shoulders of the giants of psychometric intelligence research. Intelligence. 2009; 37:1-10.
- Colom, R., Karama, S., Jung, R. E., & Haier, R. J. (2010). Human intelligence and brain networks. Dialogues in Clinical Neuroscience, 12(4), 489–501.
- Neisser U, Boodoo G, Bouchard TJ, et al. Intelligence: knowns and unknowns. Am Psychol. 1996; 51:77-101.
- Jensen AR. Bias in Mental Testing. New York, NY: Free Press; 1980.
- Carroll JB. Human Cognitive Abilities. A Survey of Factor Analytic Studies.Cambridge, UK: Cambridge University Press; 1993.
- Carroll JB. The higher-stratum structure of cognitive abilities: Current evidence supports g and about 10 broad factors. In Nyborg H, ed. The Scientific Study of General Intelligence: Tribute to Arthur R. Jensen. Amsterdam, the Netherlands: Pergamon. 2003:5–21.
- Colom R, Abad FJ, García LF, Juan-Espinosa M. Education, Wechsler’s Full Scale IQ, and g. Intelligence. 2002; 30:449-462.
- Colom R, Thompson, PM. Understanding human intelligence imaging the brain. In Chamorro-Premuzic T, Furnham A, von Stumm S, eds. Handbook of Individual Differences. London, UK: Wiley-Blackwell. In press.
- Jung RE, Haier RJ. The parieto-frontal integration theory (P-FIT) of intelligence: Converging neuroimaging evidence. Behav Brain Sci. 2007; 30:135–187.
- https://neuroscience.stanford.edu/news/ask-neuroscientist-does-bigger-brain-make-you-smarter
إعداد: أحمد شلبي
مراجعة وتدقيق: إسلام سامي