على غرار الأبطال الخارقين: البكتيريا داخل مركبات الفضاء
ما الذي يميز الأبطال الخارقين؟ أليست قدراتهم المذهلة على الطيران، أشعة الليزر، والاختفاء؟ حسنًا في رأيي هذه البكتيريا أيضًا خارقة للعادة. بالطبع أينما نذهب، نجد البكتيريا منتشرةً في كل مكان، وعلى الرغم من الجهود الجبّارة لتعقيم المركبات الفضائية، إلا أننا نجد فيها بعض البكتيريا العنيدة، التي قررت أن تأخذ جولةً مجانيّة للفضاء الخارجي.
فقط الكائنات الخارقة للعادة ستنجوا داخل مركبات الفضاء؛ بسبب الظروف الخاصة التي تُجرى فيها الأبحاث: إنها مُعقمّة بعناية، ودرجات الحرارة فيها متطرفة، والضغط شديد، ولا تنسَ انعدام الغذاء والتي قد تعيش عليه هذه الميكروبات.
البطلة الخارقة: بكتيريا مكورة فينيكس النظيفة (بالإنجليزيّة: Tersicoccus phoenicis)
في وكالة الفضاء الأوروبية “ESA”، فتَّشَ العلماء بعناية عن أي ميكروبات على متن الصاروخ “Ariane 5”. والذي كان موقع إطلاقه أمريكا الجنوبية، ولم تذهب جهودهم سدى: فقد توصلوا لاكتشاف ميكروبٍ ما لم يتم اكتشافه إلا في مكانٍ واحدٍ فقط.
بالصدفة البحتة، وعلى بُعد (4000) كم، في غرفة معقمة في ناسا -تحديدًا في مركز كينيدي، فلوريدا، أمريكا- وعندما كان العلماء يقومون بإعداد مركبة إنزال فينيكس المريخية (بالإنجليزيّة: phoenix mars lander) للإطلاق، اكتشفوا نفس الميكروب.
بعد هذين الاكتشافين، توصل العلماء إلى نوعٍ جديد من البكتيريا، كانت تلك أول مرة في التاريخ، يتم التبليغ عن كائن حي يعيش في غرفتين منفصليين، ومعزولتين، ولا يتواجد في أي مكانٍ آخر في العالم.
سُميّت “Terisicoccus phoenicis”: المقطع “Teri” يعني باللاتينية مُعقّم أو نظيف، والمقطع “coccus” يعني أنها كرويّة الشكل، أما المقطع “phoenicis” فما هو إلا تبجيلٌ للمركبة “Phoenix” التي اكتشفت فيها هذه البكتيريا. [1]
صُنّفت في جنسٍ “genus” خاصٍ، ولم يتم إدراجها حتى كنوع “species” لأنها تشترك مع نظائرها من البكتيريا بأقل من (95%) من التركيب الجيني.
وتتميز هذه البكتيريا أيضًا بتركيب جدارها الخلوي؛ حتى تتحمل الظروف القاسية من درجة الحرارة، والضغط، والإشعاع الموجودين على متن مركبات الفضاء.
يحرص العلماء على تعقيمها، حتى أن ملعقة شاي صغيرة من التربة العادية تحتوي على كمية بكتيريا أكثر من الموجودة في غرفة معقمة واحدة. [1]
هل يمكن أن تتقاعد؟
سوبر مان، وبات مان، وغيرهم من الأبطال الخارقين، يفضلون أن يعيشوا حياةً مزدوجة، فهم يعملونَ في وظائفَ عاديّة، حتى يستشعر أحدهم خطرًا ما، فيَهُبُّ لإنقاذ العالم.
لكن هل ينطبق الأمر على هذه البكتيريا؟ لقد أثبتت “T. phoenix” قدرةً هائلة على تحمل الظروف القاسية في مركبات الفضاء من ضغطٍ، وحرارة، وانعدام الغذاء، لكن ماذا لو حاولنا أن نُعيدها إلى ظروفٍ طبيعية؟
يشك البعض في قدرة “T. phoenix” على العيش خارج الغرف المعقمة، ومنهم القائمين على اكتشافها أصلًا مثل (Alberto Fairen) عالم البيولوجيا الفلكية من جامعة “Cornell”، ويعتقد أنها لا يمكن أن تعيش في ظروف عادية، لكنها ستُهيّمن لو عاشت في غرف معزولة.
هكذا ستكون حياتك، لو كنت بكتيريا داخل مركبة فضاء:
فقط أقوى الميكروبات يمكنها النجاة داخل مركبة فضاء: فالهواء مُعقّم بشدة، والأسطح ممسوحة بكحول و(بيروكسيد الهيدروجين)، ثم تُرفَع درجة الحرارة بما يكفي لقتل كل الكائنات الحية.
إذا كنت باحثًا أو رائد فضاء، فيجب أن ترتدي بذلة خاصة “bunny suit” بها قفازات، وأحذية، وقبعة، وقناع خاص حتى لا يتعرض أي جزء منك للهواء عدا عينيك.
لا يبدوا ذلك كافيًا، فبعد كل هذا يتم تعقيم الأرضيات من آثار الأحذية، ويوجد (دُش هواء) على الأبواب ليضُخَّ عنك التراب. يقول عنها (Parag Vaishmpyan) وهو من المسؤولين عن مركز كيندي في ناسا، حيث تم اكتشاف هذه البكتيريا:
«إنها أنظف مكان على سطح الأرض»
لماذا يقوم العلماء بكل هذا؟
لنحصل على محاكاة للظروف البيئية على بقية الكواكب الخارجية، لكن ليس هذا هو السبب الرئيسي.
هذا الإجراءات تخدم برنامج حماية الكواكب (بالإنجليزيّة: planetary protection): والذي يحمي بقية الكواكب من أن تتلوث بالميكروبات التي تعيش على سطح كوكبنا.
كائنات فضائية على المريخ
حقيقة أن “T. phoenix” يمكننها العيش في مركبات الفضاء، لا يعني بالضرورة أنها تستطيع العيش على المريخ.
لا أنصحك بالسفر للمريخ أبدًا: الضغط منخفض، ولا توجد مياه، وارتفاع لا يمكن أن نتحمله للأشعة فوق البنفسجية. هذه أسوأ ظروف يمكن للكائنات الحية أن تعيش فيها.
الخاتمة
ما زالت الأبحاث قائمة لنتأكد من قدرة “T. phoenix” على العيش في الفضاء الخارجي، لكن ما نعلمه يقينًا، أن الحياة على كوكب الأرض لن تتوقف عن إذهالنا يومًا. تأمَّل هذا الميكروب الذي استطاع أن يتخطى كل الحدود، معلنًا تحديه لجهود البشر في تعقيمهم المركبات الفضائية.
يعتقد بعض العلماء أن “T. phoenix” جاءت للأرض على متن شهب سماوية منذ ملايين أو بلايين السنين، حتى ولو، ففي عام (2018)، علّمتنا هذه البكتيريا أن أقوى سلاح يمكن أن يحيا به الفرد، هو العناد، والذي مكنها أن تبلُغَ عنانَ السماء.
ترجمة: أمنية يوسف
مراجعة علميّة: مرثد محمد
مراجعة لغوية: حمزة مطالقة
تحرير: نسمة محمود
