عن الزمن..هل الزمن مجرد وهم ؟

SD001-salvador-dali-bellegin-azmi-eriyen-saat-1000x1000
||صورة توضح إنحناء الزمكان.

“إن التفرقة بين الماضي والحاضر والمستقبل لهي وهم مقيم عنيد”

ألبرت أينشتاين.

” اليوم والأمس وغدًا ، من الآن وإلى الأبد ” كل هذه الألفاظ والعبارات نستخدمها باستمرار للتعبير عن الزمن أو لترتيب الأحداث فهذا حدث قبل هذا وهذا سيحدث بعد ذاك، لكن لنتوقف قليلًا ونتساءل لماذا وكيف حدث هذا قبل هذا؟ لماذا حدث الأمس قبل اليوم؟
إن سألك أحد مثل هذا السؤال ربما تتعجب من سؤاله ثم تقول له أن الساعة كانت متقدمة عن هذا الوقت، لكن لنفترض أنك لا تملك ساعات ولا أجهزة تحتوي على نظام لقياس الوقت ، في الواقع، لن يشكل ذلك فرقًا لأنك ستستدل على الزمن بأمور أخرى كشروق الشمس وغروبها، وهكذا بالفعل اعتاد الإنسان أن يفعل؛ يعرف اليوم بالشروق والغروب ويعرف الشهر بحالة القمر ويعرف الفصول بنجوم السماء ، فماذا لو توقف كل شيء عن الدوران –وذلك غير ممكن بالطبع- هل يبقى لدينا ما نستطيع أن نستدل على الزمن من خلاله؟ هل الزمن هو الحركة؟
ولم نذهب إلى هذا الافتراض البعيد؟ هناك ما هو أوقع من ذلك؛ إن الكفيف الذي لا يبصر شمسًا ولا قمرًا يشعر بالزمن كما نشعر به ويستطيع أن يفرق ما حدث بالأمس عما حدث اليوم ، الأمر إذاَ متعلق بنا نحن البشر أكثر من كونه خارجًا عنا ، نحن نمتلك هذا الشعور المؤكد بالزمن وتغيره، لكن اسمح لي أن أثير شكك حيال هذا الأمر.

إدراك الزمن

إدراكك لهذه اللحظة هو في الواقع التفاعل مع أحداث هذه اللحظة ، فالزمن ليس بالشيء المرئي أو المسموع؛ ليس له شيء مرتبط به خصوصًا ندركه به ليس مثل البصر الذي ندركه بالضوء، لكننا نشعر به على أي حال ، مع هذا، شعورك العميق بالزمن لا يعول عليه للأسف هناك لحظة تمر علينا جميعا حين ننتظر شيئا بشدة، وغالبًا ما يكون وشيك الحدوث ، مع ذلك، تبدو هذه اللحظات -من انتظارك للماء أن يغلي إلى انتظار نتيجة الاختبارات- وكأنها الدهر، بينما لا نشعر بالوقت هكذا أثناء التنزه مع الأصدقاء  ، أي أن شعورنا بمرور الوقت وإدراكنا للزمن مرتبط بمدى انتباهنا واستمتاعنا بما يحدث ، بالإضافة إلى ذلك، يختلف إدراك الزمن باختلاف سرعة الأيض للكائن الحي كلما كانت تفاعلات الأيض أسرع كلما كان مرور الزمن أبطأ ، فكيف يمكن أن يكون الزمن أمرًا مستقلًا عن إدراكه؟ وهذه إحدى مشاكل العلم في الحقيقة؛ أنه كثيرًا ما يتنافى مع الحدس والعادة ، فعندما تقوم بوصف الطبيعة لن يتبادر إلى ذهنك أن تكون عكس ما تراه وتشعر به ولهذا نأخذ الكثير من الوقت لإدراك أننا مخدوعون.

من المطلق إلى النسبي

حتى القرن التاسع عشر، كان الاعتقاد السائد عن الزمن عند العلماء أن الزمن مطلق أي أن الزمن موجود بمعزل عن الإنسان وخواصه، ينساب بشكل متواصل كما ينساب شلال ما ، وكانوا يعتقدون أن الزمن الذي يمر علينا هنا هو نفسه الذي يمر في أي مكان آخر في الكون ، فما الزمن إلا قالب موضوعي تحدث فيه الأحداث وهذا يتفق مع خبرتنا في الحياة. كما يقول نيوتن نفسه متأثرا بأفكار معلمه: ” الزمن مطلق وصحيح، ينساب باستمرار دون وجود أي علاقة له بأي شيء خارجي”.


استمرت فكرة الزمن المطلق حتى مطلع القرن العشرين حين حدد العالم ماكسويل سرعة الضوء واتضح أنها ثابتة لا تتغير. قد يمر خبر كهذا أمامنا دون أن يستدعي الاهتمام لكنه كان الشرارة التي أطلقت فكرة النسبية في عقله ، النسبية التي قلبت أفكارنا رأسًا على عقب حول المكان والزمن والجاذبية ، بدايةً، تحطمت فكرة الآنية: فإذا كانت سرعة الضوء ثابتة 300000 كم/ث) لا تزيد ولا تنقص فذلك يعني أن الضوء الصادر من جسم ما سيستغرق بعض الوقت كي يصل إلينا، الشمس مثلًا يأخذ شعاعها 8 دقائق كي يصل إلينا ،فكل شيء تنظر إليه لا تنظر إلى حاضره في الواقع بل إلى ماضيه. حسنًا، الآن لنتخيل أنك تريد التحدث مع صديقيك الفضائي الذي يسكن مجرة أندروميدا فلن تجد وسيلة غير الأشعة الكهرومغناطيسية التي ستأخذ 2.5 مليون سنة ضوئية ذهابًا ومثلها إيابًا ، للأسف لن تكون موجودًا كي تستقبل الرد ،  الآن لنفترض أن هناك أمر ما حدث في الفضاء كانفجار نجم مثلًا، هل ستتفقان أنت وصديقك الفضائي على زمن حدوثه؟ بالطبع لا، سيعلم بشأنه من هو أقرب منه.


إذاَ أصبح إدراكنا لزمن حدث ما مرتبطًا بالمكان الذي نوجد فيه، لكن الأمر أعمق من ذلك ، تظهر معادلات النسبية تنبؤًا صادما بالنسبة لإدراكنا للزمن وهو أن للحركة تأثير على الزمن ، تخيل معي أننا اثنين من رواد الفضاء وانطلقنا في رحلة مستقلين سفينة فضائية تتحرك بسرعة كبيرة جدا تقترب من سرعة الضوء، فكيف سنشعر بالزمن حينها؟ تقول النسبية أن الزمن سيتباطأ كلما زادت السرعة حتى إذا بلغنا سرعة الضوء توقف تمامًا ، بالرغم من استحالة الوصول لسرعة الضوء لكن الفكرة نفسها تثير الحيرة، افترض أن أحدنا قرر ألا يرحل في هذه السفينة وسيظل في محطة فضائية يشاهدها من بعيد، سيرى السفينة وهي تنطلق بسرعة مهولة، ستمر عليه ساعة واثنتين بينما الآخر الذي في السفينة المنطلقة بسرعة الضوء لن تمر عليه ثانية واحدة ، كيف يحدث هذا؟ كيف يكون الزمن أسرع عند واحد منه عند الآخر وكيف تمر عندي لحظة لم تمر عليك بعد؟ هذه هي نسبية الزمن المربكة للغاية.

النسبية العامة والزمن

مما هو جميل بأينشتاين أنه يستمر في البحث فيما توصل إليه فلم يرضى بما حققته النسبية الخاصة وما لبث أن ألحقها بالنسبية العامة ، وزادنا من الشعر بيتًا حين وحدت النسبية العامة بين الجاذبية والعجلة وبينت أن للزمن علاقة ليس فقط بالمكان أو السرعة بل بالجاذبية أيضًا ، كنا نعتقد أن هناك زمن وهناك مكان، وكل حدث إنما يحدث في مكان وزمن معينين ولا علاقة لزمن الحدث بمكانه أو العكس ، أتت النظرية لتغير هذا المفهوم تمامًا فلم يكن الزمن منفصلًا عن المكان قط، ولكن يشكلان سويًا شبكة رباعية الأبعاد (ثلاثة للمكان وواحد للزمن) اسمها الزمكان ، لن ندخل في تفاصيل النسبية العامة التي يطول شرحها فما علينا معرفته هنا أنها تعيد بناء مفهوم الجاذبية والمكان والزمن فجعلت الزمكان ديناميكيًا يتغير شكله بتغير المادة الموجودة فيه ، نعلم جميعًا المثال المشهور الذي يمثل الشمس بكرة ثقيلة على نسيج مطاطي فتثنيه لأسفل وتدور حولها كرات أصغر ، على بساطة هذا المثال وعدم مماثلته للحقيقة فإن ما نريده منه هو انحناء النسيج أو انحناء الزمكان ، فكر في الأمر، إن الزمكان ينحني، هذا يتطلب أن يتمدد الزمن و ويتباطأ ليس بفعل الحركة المنتظمة هذه المرة بل بفعل الجاذبية ، أي أن الزمن هنا على كوكب الأرض يختلف عن الزمن على كوكب المشترى الذي له جاذبية أكبر ، تخيل وقع هذه النتائج على المجتمع العلمي حينئذ، من يصدق أن الزمن نسبي من أول مرة؟ لكنها الحقيقة، ففي عام 1971م وضعوا أربع ساعات ذرية على متن طائرة حلقت حول العالم مرتين شرقًا وغربًا، ثم قارنوها بساعات أخرى بقيت على الأرض، ووجدوا اختلافًا في قراءة هذه للزمن عن تلك بنسبة تتفق تمامًا مع ما تنبأت به النسبية.

صورة توضح إنحناء الزمكان.

سهم الزمن

بعد هذا لا يستطيع أحد أن يعتقد بأن الزمن مطلق بل أصبحنا نؤمن بنسبيته، ليس على المستوى الإدراكي فحسب وإنما على المستوى الفيزيائي أيضًا ، فالزمن متغير يعتمد على متغيرات أخرى لكن إن كان المكان والزمن نسبيين يشكلان شبكة معًا فلماذا هناك هذا الاختلاف بينهما؟ ففي حين أنك تتحرك في المكان حيث تشاء بكل حرية، لا تستطيع أن تعود بالزمن للحظة واحدة فقط ، هذه الفكرة تسمى سهم الزمن وهو يسير في اتجاه واحد فقط دائمًا ويحلل ذلك العالم ستيفن هوكينج على ثلاثة مستويات: فيزيائيًا وسيكولوجيًا وكونيًا.

سهم الزمن والديناميكا الحرارية

تخيل أنه يمكننا التحرك في الزمن كما نتحرك في المكان، أن يكون أمامنا الماضي والحاضر والمستقبل ونحن ننتقل من هذا إلى ذاك بحرية ، سيكون لطيفًا، أليس كذلك؟ حسنًا، حيث أننا علمنا الآن أن إدراكنا للزمن ما هو في الواقع إلا إدراك للأحداث فإذا أردنا العودة بالزمن، فنحن نريد في الواقع العودة بالأحداث تمامًا مثلما يحدث في فيديو عندما نعود بشريط الزمن إلى الخلف ، تجتمع قطع الزجاج المتناثر لتعيد تشكيل الكأس المكسور وتسير السيارات للخلف وتغرب الشمس قبل شروقها ، المشكلة أن هذا لا يحدث، لماذا؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال في أحد قوانين الفيزياء الأساسية التي تتحكم في كل شيء تقريبًا وهو القانون الثاني للديناميكا الحرارية ، يقول القانون أن كل ما يحدث في الكون من تغيرات تسير في اتجاه واحد وهو اتجاه زيادة الإنتروبيا (Entropy) ، توصف الإنتروبيا على أنها مقياس لمدى العشوائية في النظام لكنها معنى أكبر يشمل قابلة التبدل في الاحتمالات المختلفة ، إن أردت معرفة المزيد عن الإنتروبيا شاهد هذا الفيديو.


الأشياء الساخنة تبرد، تنتشر قطرة الحبر في الماء كما يفعل رذاذ العطر في الهواء ولا سبيل إلى عودة حالهم ذي العشوائية (الإنتروبيا) الكبيرة إلى الحال الأول ذي الإنتروبيا القليلة؛ فاحتمال حدوث ذلك ضئيل جدًا ، يجب أن يخضع كل شيء إلى هذا القانون، وعلى عكس القوانين الأخرى التي يمكن أن تسير في الاتجاه وعكسه، يسير هذا القانون في اتجاه واحد فقط فنجد أنفسنا في تتابع زمني واحد لا مفر منه.    

السهم السيكولوجي

حسنًا، إن كان الأمر هكذا على مستوى الأشياء أنها محكومة بزيادة الإنتروبيا فماذا عنا نحن؟ نحن لا نستطيع كذلك أن نعود بلحظة إلى الخلف لكن نتذكرها دائمًا على أنها من الماضي،  يتحتم على عقلنا أن يرتب الأحداث في ماضٍ ومستقبل لأن هذه هي طريقته في اكتساب المعلومات ولولا هذا لما استطعنا فهم جملة ولا ربط سبب بنتيجة ، هنا يجادل هوكينج أن العقل البشري يشبه الذكاء الاصطناعي الذي نصنعه للآلات، وبما أننا نصنعها اعتمادًا على قوانين الفيزياء ومنها القانون الثاني للديناميكا الحرارية فهي إذًا تطبيق عليه وتعمل وفقًا له ، أي أن طريقة التفكير نفسها يجب أن تكون في اتجاه زيادة الإنتروبيا هي الأخرى ، فلا يتسنى للآلات أن تعود بتفكيرها في الزمن لأن هذا مخالف لقانون صنعت به ، ربما هذه هي الطريقة التي يعمل بها عقلنا الذي نشأ في كون يعمل بهذا القانون.

السهم الكوني

وعلى مستوىً أكبر منا ومن الأشياء نلاحظ أن الكون كله بما فيه من نجوم ومجرات يسير أيضًا في اتجاه واحد وهو التمدد والتوسع ، فوفقًا لما نعلمه، بدأ الكون بنقطة متناهية الصغر تسمى المفردة ثم أخذ في التوسع بعد ذلك فتتباعد المجرات عن بعضها لأن الزمكان نفسه هو الذي يتمدد ونحن لم نرً أن الكون ينكمش حتى الآن ، مع هذا لا يمكننا الحسم أن الكون سيظل في تمدد إلى الأبد؛ هناك بالفعل نظريات تتنبأ بذلك وأخرى تقول أنه سيعود إلى الانكماش حتى ينتهي بما يسمى الانسحاق الأكبر وهناك ما اقترحه هوكينج ، فقد افترض العالم هوكينج أن الكون أزلي بلا بداية أو نهاية ولكنه يمر بمراحل من التمدد كالتي نشهدها الآن تليها مراحل من الانكماش حتى يعود إلى نقطة متناهية الصغر أو المفردة كالتي بدأ منها الانفجار العظيم ثم يعود إلى التمدد مرة أخرى وهكذا ، يشبه الأمر أن تسير على سطح الكرة الأرضية حيث يتسع القطر على أقصاه عند المركز ويقل باستمرار كلما توجهت نحو أحد القطبين ثم تهبط ثانية ويتسع القطر مرة أخرى ، فالكون كما تقول هذه الفرضية لا حدود له لكنه منته (The no boundary condition)، و يتمدد وينكمش بلا نهاية ، كان يظن هوكينج أن فترة الانكماش ما هي إلا عكس لفترة التمدد وأن الزمن يعود إلى الخلف حينها لكنه علم بخطأ هذا الاستنتاج وتراجع عنه، لن يعود الزمن إلى الخلف على كل المستويات حتى وإن بدت الأحداث في ظاهرها معكوسة.

فهل نحن سجناء هذا التتابع من اللحظة إلى التالية؟ على الأغلب نعم ، ولم نجد بعد طريقة عملية للعودة إلى الماضي أو السفر إلى المستقبل وإن سمحت النظريات بذلك. لن تعود اللحظة التي بدأت فيها قراءة هذا المقال .

ربما لا نعود نؤمن بأن الزمن خط يسير وربما ننكر وجوده لكن حقيقة الموت أكبر من الشك في الزمن، الأمر الذي يستدعي القلق بشأن مرور الوقت حتى إن كان وهمًا ، ربما يكون الزمن لفظًا اخترعناه لنستطيع التعامل مع الأحداث ومن يدري أي مفاهيم أخرى نوقن بها وهي على غير ذلك في الحقيقة. فنحن لا نستطيع الخروج عن عقولنا لكننا نستطيع أن نعلم كم يمكن لها أن تخدعنا.

إعداد: يارا محمد.

مراجعة علمية ولغوية : محمد زاهر .

تحرير: هدير جابر.

المصادر:

The Arrow of Time – Exactly What Is Time? [Internet]. [cited 2019 Aug 31].1 Available from: http://www.exactlywhatistime.com/physics-of-time/the-arrow-of-time/

2. Hafele-Keating Experiment [Internet]. [cited 2019 Aug 31]. Available from: http://hyperphysics.phy-astr.gsu.edu/hbase/Relativ/airtim.html

3.Physics of Time – Exactly What Is Time? [Internet]. [cited 2019 Aug 31] Available from: http://www.exactlywhatistime.com/physics-of-time/

Time Perception – Exactly What Is Time? [Internet]. [cited 2019 Aug 31].4 Available from: http://www.exactlywhatistime.com/psychology-of-time/time-perception/

5. A Debate Over the Physics of Time [Internet]. [cited 2019 Okt 1]. Available from: https://www.quantamagazine.org/a-debate-over-the-physics-of-time-20160719/

6. What Is Time? A Simple Explanation
[Internet]. [cited 2019 Okt 1]. Available from:https://www.thoughtco.com/what-is-time-4156799

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي