إنه العام 1793م، أربعة أعوام مرت على سقوط الباستيل وبداية الثورة الفرنسية، وفرنسا تعيش الآن في حالة من الفوضى، في الداخل تفشل الأحزاب السياسية المتصارعة في وضع آلية فعالة لحكم البلاد وإيقاف التردي المستمر للأوضاع الاقتصادية والأمنية، وفي الخارج أدى إعدام الملك «لويس الرابع عشر 1638- 1715م» إلى تحالف الملكيات الأوروبية لوأد الثورة في مهدها ومنعها من الانتشار خارج فرنسا. إنه الخامس من سبتمبر 1793، تقوم مجموعة من المتطرفيين الباريسيين بتقديم عريضة لتصوت عليها الجمعية الوطنية، وموضوع هذه العريضة هو تفويض يمنح «لجنة السلامة العامة» سلطة مطلقة لممارسة «الإرهاب» من أجل حماية مكتسبات الثورة، وبكفاءة مخيفة، استخدمت اللجنة هذا التفويض للقضاء على أي تهديدات حقيقية أو محتملة للثورة من وجهة نظرها. استمر عهد الإرهاب لمدة عام تقريبًا لينتهي في يوليو 1794م، وخلال هذه الفترة تم إعدام حوالي 17 ألف شخص رسميًا، بينما قضى ما يقرب من عشرة آلاف شخص في السجون دون محاكمة.
ُيوصف عهد الإرهاب غالبًا من قبل المؤرخين بأنها اللحظة التي التهمت فيها الثورة الفرنسية أبنائها، ورغم أن الصراع والتحارب والمؤامرات الداخلية والخارجية لم تتوقف بإعدام «روبسبير» وسقوط حكمه، ورغم أن هذه لن تكون المرة الأخيرة التي تتأرجح فيها فرنسا بين الديموقراطية والدكتاتورية، إلا أن إرث هذه الفترة التاريخية مازال محل جدل كبير، ويجعلنا نتساءل ما الذي يمكن أن يدفع حكومة ما إلى أن تعتقد أن حماية الوطن تكون بقمع أبنائه!
لكي نفهم كيف وصلت فرنسا إلى هذه المرحلة علينا في البداية أن نُلقى نظرة على الأوضاع السياسية في بداية عام 1793م. في تلك الفترة، سيطر فصيلان رئيسيان على المشهد السياسي في فرنسا الثورية، وهما «الجيروند-The Girondins»، نسبة إلى مقاطعة جيروند جنوب غربي فرنسا والتي انتمى إليها معظم قادته، و «المونتاجنارد –Montagnards The»، وهي كلمة فرنسية تعني حرفيًا الجبليين أو أصحاب المكان المرتفع، وسبب تلك التسمية يرجع إلى أن أعضاءه اعتادوا الجلوس دائمًا في الصفوف الخلفية المرتفعة في الجمعية الوطنية. استمد الجيروند، الذين كانوا الأكثر اعتدالًا بين الفصيليين، قوتهم وشعبيتهم من مدن الأقاليم والطبقات العليا، بينما تشكلت صفوف المونتاجارد في معظمها من الثوريين المتطرفين الذين انتمى معظمهم إما إلى الطبقة الوسطى الباريسية أو إلى فصيل عُرف باسم «اللامتسرولين–sansculottes)، وهي ميليشيا ثورية تمثل الطبقات الدنيا في باريس، وقاد ذلك التحالف الأعضاء المترفون في نادي اليعاقبة (تجدر الإشارة إلى أن نادي اليعاقبة، والذين تشكل قبل الثورة للمطالبة بالدستور، كان يضم في عضويته كلا من الجيروند والمونتاجارد، ولكن روبيسير وقادة المونتاجارد استطاعوا تهميش الجيروند وازاحتهم في نهاية المطاف) . في تلك الأثناء كانت الملكيات الأوروبية ترمق الثورة الفرنسية بعين من الكره والقلق، ولم تكن السياسات الراديكالية للثورة إلا لتأجج هذا الخوف.
كان واضحًا أن الصدام قد أصبح حتميًا بعدما أصدر ليوبولد الثاني ملك النمسا (1747- 1792م )وشقيق الملكة الفرنسية ماري انطوانيت بيانًا مشتركًا مع ملوك أوروبا –إعلان بيلينتز– الذي حذر من عواقب خطيرة إذا حاق أي أذى بلويس السادس عشر أو العائلة المالكة، وفي أبريل 1792م أعلنت فرنسا الحرب ضد النمسا. في البداية حققت جيوش الثورة الفرنسية عدة انتصارات هامة ضد الحلفاء كما حدث في معركة فالمي (Battle of Valmy) في سبتمبر 1792، غير أن مسار الحرب سرعان ما بدأ في التغير، وخصوصًا بعد انضمام بريطانيا وأسبانيا للحرب، وبدأت الجيوش الفرنسية تعاني من سلسلة من الهزائم في خريف 1793م، ولم يكن هذا في صالح الجيروند الذين أيدوا صراحة الحرب ضد النمسا وباقي ملكيات أوروبا منذ البداية، وازداد موقفهم صعوبة بعد إعدام لويس السادس عشر في 21 يناير 1791م، حيث كال إليهم خصومهم الاتهامات بتأييد الملكية، وكان فشل الجيروند في التعامل مع الأوضاع الاقتصادية بالغة السوء التي سببتها الحرب في العاصمة؛ المكون الأخير الذي مكّن اليعاقبة وحلفائهم، مدعومين بثورة الجماهير الساخطة، من الانقلاب على الجيروند وإزاحتهم من السلطة، هؤلاء الجيروند سيكونوء أول من يقابل «مدام مقصلة»؛ كما أسماها الفرنسيون، ولكنهم لن يكونوا الأخيرين.
رغم سيطرة اليعاقبة وحلفاهم المطلقة على السلطة التنفيذية الأعلى في فرنسا –لجنة السلامة العامة– إلا أنهم وفي ذات الوقت، كانوا يشعرون أنهم محاطين بالأعداء من خارج وداخل صفوفهم؛ وفي الحقيقة فإنهم لم يكونوا متوهمين، ففي الخارج، احتشدت الجيوش الأجنبية على حدود فرنسا، وفي الداخل، استعرت حرب أهلية في غرب البلاد ضد المتعاطفين مع الملكية، وفي الجنوب، نظّم بعض الجيروند الفارين من المقصلة في باريس مجموعة من التمردات المسلحة في مدن عدة، مثل: ليون، ومارسيليا، وتولون. ورغم كل ذلك، فقد كان الخطر الأعظم الذي يتهدد حكم اليعاقبة يأتي من بين صفوفه، حيث عصفت الخلافات حول كيفية التعامل مع المشاكل المختلفة التي تواجهها البلاد بوحدة اليعاقبة، وبرزت داخله ثلاثة أجنحة متصارعة تتبادل الاتهامات فيما بينها بخيانة الثورة ومعاونة الأعداء؛ ففي اليمين كان هناك «جورج دانتون-Georges Jacques Danton» المحامي والخطيب البارع وأحد المحركين البارزين في الإطاحة بالنظام الملكي والارستوقراطية، ورغم أنه أحد اللذين صوتوا على إعدام الملك لويس السادس عشر فقد اتهمه خصومه بأنه معتدل بشكل زائد عن اللزوم عندما رفض سياسة الإفراط في الإعدامات التي أنتهجتها لجنة السلامة العامة، وأما اليسار فقد كان تحت قيادة «جاك إيبير-Jacques-René Hébert» الصحفي المتطرف، الذين استطاع أن يستميل ولاء اللامتسرولين بخطابه الشعبوي المضاد لسلطة الكنيسة، ولغته القريبة من الطبقات الفقيرة عن طريق دعوته لسيطرة الدولة على الاقتصاد لخلق نظام أكثر عدلًا، وبين هذا وذاك وقف «ماكسميليان روبسبير-Maximilien François Marie Isidore de Robespierre».
وُلد «ماكسمليان روبسبير» في مدينة آراس في شمال فرنسا في 6 مايو 1758. توفيت والدة روبسبير في صغره، ولم يلبث أن ترك والده المنزل تمامًا، ليترك تربية روبيسبير وأخوته لجديه من والدته، في العام 1769م حصل روبسبير على منحة لدراسة الفلسفة والقانون في باريس، وهناك أصبح مؤمنًا بأفكار الفيلسوف الفرنسي الشهير «جان جاك روسو-Jean–Jacques Rousseau»، وبحلول العام 1788 أصبح روبيسبير معروفًا في الأوساط الباريسية كمحامي مؤيد للفقراء ومعارض للتقسيم الطبقي. وعندما دعا الملك لويس السادس عشر لانعقاد مجلس الطبقات (مجلس يضم ممثلين عن طبقات الشعب الفرنسي الثلاث: الأرستوقراطية، ورجال الدين، والعوام؛ ويفتقر لأي سلطة حقيقة) في 1789م من أجل تخفيف حدة للأزمة الاقتصادية والسياسية المتفاقمة في فرنسا عشية الثورة، انتُخب روبيسبير كممثل لمدينة آراس في المجلس، وهكذا بدأ مسيرته السياسية قبل أن يبلغ الثلاثين، وسرعان ما أصبح رئيسًا لنادي اليعاقبة في العام التالي، وهناك بدأت ميوله الواضحة المعادية للملكية والمؤيدة للديمقراطية في رفع أسهمه لدى عامة الباريسيين؛ فتم انتخابه مندوبًا عن باريس في المؤتمر الوطني بعد سقوط الملكية عام 1792، وهناك دافع روبيسبير عن فكرة إعدام الملك لويس السادس عشر وعائلته لحماية الثورة. وعندما تشكلت لجنة السلامة العامة في أبريل 1793م كان روبيسبير أحد أعضائها، وتدريجيًا بدأ في التخلص من خصومه في اللجنة، وهكذا استغل روبيسبير خروج الكثير من زملائه خارج باريس للقيام ببعض المهام للانفراد بالسيطرة على أعمال اللجنة التي أصبحت، بحكم الأمر الواقع، حكومة ثورية تملك اختصاصات تنفيذية واسعة. كان أكبر منافسي روبيسبير كما ذكرنا هما «جاك إيبير» و«جورج دانتون»، وكان روبيسير قد تخلص من كليهما في أقل من أسبوعين بالمقصلة، فالأول، إيبير، الذي وصل بخطابه الحاد إلى اتهام روبيسبير شخصيًا والطعن فيه، تم القبض عليه وعلى عدد من أعوانه وتنفيذ حكم الإعدام فيهم، والثاني، دانتون، فقد تم اتهامه بالتأمر لإعادة الملكية عندما رفض سياسة الإفراط في الإعدامات والعنف ضد المعارضيين التي اتبعها روبيسبير، ليتم إعدامه هو الآخر بالمقصلة ليلحق برفيقه بعد اثني عشر فقط، وهكذا خلت الساحة تمامًا لروبيسبير.
هل كان روبيسبير دكتاتور متعطش للدماء يسعى للاستئثار بحكم فرنسا منفردًا؟ ربما يبدو هذا الافتراض الأصوب للوهلة الأولى، ولكن لكل قصة يوجد جانبان، وفي مذكرات روبيسبير نجد هذا الجانب الآخر، ففرنسا كانت تواجه أوضاعًا شديدة الصعوبة تهدد ليس فقط بفشل الثورة وعودة النظام الملكي، بل وحتى احتلال البلاد واقتسام إقليمها بين القوى الأوروبية الطامعة، ففي هذه المذكرات نجد روبيسبير مقتنعًا تمام الاقتناع بأن ما تحتاجه فرنسا والثورة من أجل أن تنجوا من كل تلك المخاطر هو «إرادة واحدة منفردة-une volonté une» متمثلة في حكومة ثورية. وهكذا بدأ روبيسبير في تنفيذ أولى الخطوات في ما اعتقد أنه السبيل الوحيد لإنقاذ الثورة؛ فقاد حملة لـ«تطهير» اليعاقبة من أي عناصر معادية للثورة، وامتد الأمر ليشمل أي فرد يكتم مشاعر معادية للثورة. استخدم روبيسبير كذلك اليعاقبة في الأرياف والمدن والبلدان الأخرى لتكوين لجان ثورية مهمتها كشف وقمع أي نشاط معادي للثورة، تم اعتقال مئات الآلاف من المواطنين، وفي 10 يونيو 1794، الموافق لـ22 من بريريال من العام الثاني حسب تقويم الثورة الفرنسية، مررت الجمعية الوطنية قانونًا يوقف العمل بحق المواطنين في محاكمة علنية والحصول على محامي للدفاع عنهم، وتم إعطاء القُضاة خيارين فقط للحكم على المتهمين المعروضين عليهم، إما البراءة أو الإعدام؛ نتيجة لهذا فقد تم إعدام حوالي ألف وثلاثمائة شخص في شهر يونيو 1794 وحده.
كان حكم الرعب ليستمر، ولحكم روبيسبير منفردًا لا ينازعه أحد لولا عامل حاسم كان له الدور في سقوطه، كان هذا العامل هو الأحوال الاقتصادية المتردية في البلاد، حيث فشلت سياسات روبيسبير الاقتصادية فشلًا ذريعًا في إيقاف التدهور في الظروف المعيشية للمواطنين رغم الإجراءات العنيفة التي اتخذها روبيسبير ضد التجار والموردين لمنع رفع الأسعار، إنهارت قيمة العملة الثورية الجديدة «The Assignat»، ونتيجة للشح الحاد في المواد الغذائية في باريس تم تخصيص حصص ضئيلة من الطعام للسكان، وأثبت نظام التسعير الحكومي للسلع والمنتجات الاستهلاكية فشله الذريع. تصاعد الغضب الشعبي ضد روبيسبير، وبدأت شعبيته في الإنهيار، حتى من بقى من الفصائل السياسية المتعارضة اتفقوا على معارضته، وصمه اليمينيون بالديكتاتور الفاشل، وانتشر المتطرفون على المقاهي، يتهمونه بالتراخي والاعتدال المفرط! أمام كل هذا تدهورت صحة روبيسبير وبدأ في الانسحاب تدريجيًا من المشهد العام. النهاية لم يعد بإمكان روبيسبير قطع رءوس خصومه بنفس السرعة التي يتجمعون بها ضده؛ وجاءت النهاية بعدما ألقى خطابًا أمام الجمعية الوطنية في 26 يوليو 1794، في البداية لاقى خطابه التصفيق من الحاضرين، ثم الصمت، ثم الهمهمة، وأخيرًا انقلبت الأغلية البرلمانية ضده. في اليوم التالي حاول روبيسبير إلقاء خطاب آخر أمام الجمعية الوطنية ولكنه مُنع من الدخول من قبل خصومه، ثم قيد هو وأخوه وثلاثة من مساعديه إلى سجن لوكسمبورج، ولكن مأمور السجن رفض استقباله. لجأ روبيسبير ورفاقه إلى مبني مجلس البلدية، كانت المينة مازالت على ولائها لروبيسبير، وكان بإمكانه في هذه اللحظة أن يواصل القتال ولكنه رفض أن يكون قائدًا لتمرد، وهكذا، روديدًا روديًا بدأ مناصريه يتفرقون من حوله، وفي اليوم التالي أعلنت الجمعية الوطنية روبيسبير خارجًا على القانون، وهاجمت قوات المؤتمر مبنى مجلس البلدية واعتقلت روبيسبير ومن بقي معه من رفاقه. وفي مساء يوم الثامن والعشرين من يوليو 1794، الموافق للعاشر من ثيرميدور من التقويم الثوري، وأمام حشد صاخب في ساحة الثورة وسط باريس، في نفس المكان الذي شهد إعدام الآلاف من خصومه، قطعت المقصلة رأس روبيسبير بتهمه خيانة الثورة، وفي الأيام التالية تم إعدام مئة وثمانية من مؤيديه لينتهي بذلك عصر الإرهاب.
ترجمة: محمد عزام
مراجعة علمية: عمر بكر
مراجعة لغوية: إسراء عادل
المصدر: https://www.britannica.com/story/what-led-to-frances-reign-of-terror