صباح يوم 8 يوليو 1853
سادت حالة من الفوضى في أرجاء قصر الشوغان (الحاكم العسكري لليابان)، لم يكن الحدث عاديًا، فلأول مرةٍ منذ ما يزيد عن القرنين من الزمان تتمكن سفنٌ أجنبيةٌ من دخول خليج إيدو المحرمِ دخوله على غير اليابانيين. تتجاهل السفن الغريبة كل النداءات والتحذيرات المطالبة إياها بالتوقف وعدم الاستمرار، وفي ثقةٍ فجّةٍ تُواصل شقّ طريقها تجاه العاصمة النائمة. مع الوقت ينتشر الخبر ويزداد الذعر في المدينة عندما تتضح الأمور أكثر، لم تكن هذه السفن مجرد بضع قواربٍ ضلت طريقها بالخطأ صوب المدينة، بل كانت أسطولًا حربيًا صغيرًا، عشر سفنٍ حربية مدجّجة بالسلاح تمضي في إصرار تجاه العاصمة. دارت التساؤلات داخل القصر عن هوية هؤلاء الغرباء وغرضهم. غير إن حيرتهم لم تستمر طويلًا، فسرعان ما يهرول أحد الجنود إليهم حاملًا رسالة من قائد الأسطول الصغير، كان القائد يُدعى ماثيو بيري وهو وسفنُه يتبعان البحرية الأمريكية، مطالبهم؟ على اليابان فتح موانئها وأسواقها للتجّار الأمريكيين فورًا وبلا شروط، والرفض خيار غير مطروح، وفي سبيل مساعدة اليابانيين على اتخاذ قرارهم بشكل أسرع أبلغهم بيري بإنه أمر سفنه بتوجيه مدافعها صوب المدينة. ينظر رجال القصر إلى بعضهم في حيرةٍ وقلق، المقاومة شبه مستحيلة فالسفن رغم قلتها مجهزة بأحدث الأسلحة النارية ولا أمل لحاميَةِ المدينة في مجابهتهم بما تملكه من سيوف وبعض البنادق العتيقة، وحتى لما أرادوا الموافقة على مطالب بيري، فالشوغان مريض، وبطبيعة الحال لم يكن في سلطتهم اتخاذ قرار مثل هذا. لساعات يتبادل الجميع الاقتراحات ثم الاتهامات دون التوصل لحل، وفي النهاية قرر أحد المستشارين أن يرتجل، سوف تقبل الحكومة الرسالة دون الموافقة على المطالب التي تحتويها بحجة الحاجة إلى مزيد من التشاور. على مضض يقبل بيري الرد الياباني وتتراجع سفنه عن شواطئ العاصمة مع وعد بالعودة في نفس الوقت من العام المقبل لكي يسمع قرار اليابانيين النهائي.
مقدمة
تأسر تجربة النهضة اليابانية خيال الكثيرين؛ قد يظن البعض في البداية إننا نتحدث هنا عن نهضة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية وكيف نفّضت البلاد عنها دمار الحرب العالمية الثانية لتتحول إلى قوةٍ صناعية وتكنولوجية كبرى، غير إن هناك قصةَ صعودٍ يابانية أخرى تسبق صعود اليابان الحديثة بنحو قرنٍ من الزمان، فاليابان تلك الجزيرة الجرداء معدومة الموارد انتقلت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من كونها مملكةً صغيرةً منعزلة وعالقة في العصور الوسطى تحكمها مجموعات عسكرية متنازعة إلى إمبراطوريةٍ صناعيةٍ حديثةٍ ذاتِ أطماعٍ استعمارية وجيش موحد تحت سيطرة الإمبراطور، وكل ذلك في أقل من عشرين عامًا فقط. سيطلق المؤرخون على هذه الفترة «إصلاحات مييجي»، على اسم الإمبراطور الذي بدأت في عهده تلك النهضة. فمن هو مييجي؟ وكيف تمكن هو وحكومته من تحقيق تلك النقلة؟ وهل سار كل شيء بسلاسة؟ وما علاقة كل هذا بالأسطول الأمريكي الذي اقتحم إيدو؟ هذا ما ستجيب عنه السطور القادمة.
خلفية تاريخية.. عهد أمراء الحرب
لقرونٍ عديدة تركزت السلطة في اليابان تحت حكم الإمبراطور وطبقة النبلاء الإقطاعيين التي تتبعه، تحت هؤلاء النبلاء كانت توجد طبقة الساموراي وهم محاربون أشداء مهنتهم الوحيدة هي الحرب، وكانوا يشكلون المكون الرئيسي في الجيوش اليابانية وقتها وغالبًا ما كانوا يقومون بتأجير خدماتهم إلى العائلات النبيلة المختلفة والمنتشرة في أنحاء البلاد. مع الوقت بدأ الساموراي يتجمعون تحت قيادة عددٍ محدود من زعماء العشائر، ومع حلول الألفية الأولى كانت قوة جماعات الساموراي المختلفةِ في تزايدٍ نتيجة زيادة الاعتماد عليهم من قِبل العائلات النبيلة في صراعاتها المختلفة من ناحية، والاعتماد عليهم بشكل أساسيّ في حروب اليابان الخارجية حينها.
في هذا الوقت استمرت سلطة الإمبراطور في التناقص وزادت محاولات العشائر والعائلات النبيلة المختلفة في الاستئثار بالسيطرة على القصر الإمبراطوري بأي وسيلةٍ ممكنة. أدى كل هذا إلى قيام حربٍ أهليةٍ بين عشائر الساموراي المختلفة ونتج عن هذه الحرب صعود ميناموتو يوريتومو (Minamoto Yoritomo) زعيم أحد عشائر الساموراي في عام 1185م ليصبح صاحب القوة العسكرية الأبرز في البلاد، عن طريق هذه القوة تمكن ميناموتو من إجبار الإمبراطور على الاعتراف به في منصب جديد وهو منصب الشوغان (Shogun) وتعنى حرفيًا القائد العسكري الأعلى لليابان، ورغم إن المنصب الجديد رسميًا كان فقط يعطِي لصاحبه سلطة قيادة جيوش اليابان، غير إنه على أرض الواقع وتحت إمرة ميناموتو أصبح الشوغان هو الحاكم الفعلي للبلاد حيث أصبح مسؤولًا عن تعيين حكام الأقاليم والقضاة والموافقة على كافة الاتفاقات والمعاهدات المبرمة مع البلاد الأخرى، بينما أصبح الإمبراطور مجرد منصبٍ رمزيّ تتلخّص مهمته في التصديق على قرارات الشوغان أيًا كان اسمه. (1)
أدى خلق منصب الشوغان إلى تغيير بنية الحكم والسلطة في اليابان بالكامل، فبدلًا من العائلاتِ النبيلةِ صاحبة المصالح التجارية الضخمة المرتبطة بالإمبراطور، احتل مكانهم قادةٌ وزعماءُ عشائرِ الساموراي أو كما كان يطلق عليهم الدايمو (Daimyo)، وهكذا أصبح هؤلاء الدايمو هما أصحاب الأراضي والنفوذ وسيطر كل دايمو على مقاطعةٍ خاصة به وكان له أن يحكمها بحريةٍ مطلقة طالما اعترف بسلطة الشوغان وأدى ما عليه من ضرائب له. ظلت اليابان تحت سيطرة ميناموتو وعشيرته لقرنين من الزمان وخلال تلك الفترة ازدادت سلطة الدايمو كما زادت الصراعات بينهم، وبدأت كل عشيرة في زيادة عدد جنودها من الساموراي في محاولة لفرض نفوذها على العشائر التي تحكم المقاطعات المجاورة.
في البداية لم يُعر الشوغان اهتمامًا لتلك الحروب المحدودة مادامت لم تؤثر على سلطته الشخصية غير إنه مع الوقت زادت قوة بعض الدايمو إلى الدرجة التي مكنتهم من تحدي سلطة الشوغان نفسه في مسعى لاستبداله، وبالفعل بحلول العام 1333 تدهورت سلطة عشيرةِ ميناموتو إلى الحد الذي مكّن أحد العشائر الأخرى من إزاحتهم واستبدالهم على مقعد الشوغان (2). تبِع ذلك فترةٌ وجيزةٌ من السِلم الحذِر قبل أن تدخل اليابان واحدةً من أكثر عصورها دمويّةً وهو عهد المقاطعات المتحاربة (Sengoku Jidai)، وخلال تلك الفترة التي استمرت ما يزيد عن المائة عام شنّ المئات من قادة العشائر حروب ضارية ضد بعضهم البعض في مسعًى للاستحواذ على منصب الشوغان بكل ما يجلبه من سلطة ونفوذ. كان وصول توكاجاوا إياياسو (Tokugawa Ieyasu) إلى منصب الشوغان عام 1603 إيذانًا بنهاية الفوضى التي حكمت اليابان طوال القرون الماضية، حيث تمكن توكاجاوا من إحكام السيطرة على البلاد بشكل مطلق من خلال تحجيم نفوذ الدايمو وإحكام السيطرة على الإمبراطور ورجال الدين، كما قام بتركيز جميع السلطات الإدارية والسياسية في يده. (3)
مع إنهاء حروب الدايمو بقي تهديد واحد يواجه البلاد، فبحلول منتصف القرن الخامس عشر بدأت تظهر على شواطئ القارة الآسيوية السفن الأوروبية، كان عهد النهضة في أوروبا قد بدأ ومعه بدأ عهد الاستعمار وانطلقت القوى الأوروبية المختلفة تشقّ طريقها عبر المحيطات تجاه المناطق التي كانت سابقًا معزولةً عن بقية العالم. جاءت هذه السفن وهي تحمل معها اكتشافاتٍ جديدة مثل الأسلحة النارية والطِباعة، كما حملت معها أيضًا ديانة الأوروبيين وثقافتَهم، اللتان بدأتا في الانتشار في اليابان خلال سنوات قليلة، كان منصب الشوغان في هذا الوقت قد انتقل إلى توكاجاوا إيميتسو حفيد توكاجاوا إياياسو الذي رأي في الوجود الأوروبي خطرًا داهمًا على سلطته، كما خشى كذلك أن تمحو المعتقدات والثقافة الأوروبية تاريخ اليابان وثقافته، فبدأ إيميتسو في التضييق على التجارة الأوروبية في اليابان، كما بدأت حملةُ اضطهاد واسعةُ النطاق لأي يابانيّ اعتنق المسيحية، ثم وفي عام 1639 أصدر إيميتسو مرسومًا يقرر فيه عدة أحكام جذرية، حيث تم منع اليابانيين من مغادرة البلاد لأي سبب وأن يتم إعدام أي شخص يحاول المغادرة، كما حُظرت المسيحية في جميع أرجاء اليابان مع وضع أي شخص يُشتبه في ممارسته للمسيحية تحت المراقبة تمهيدًا لإعدامه إذا ثبتت عليه التهمة، وأخيرًا مُنع جميع الأجانب من دخول اليابان ومُنعت التجارة مع جميع الأوروبيين في جميع الموانئ اليابانية باستثناء ميناء ناجازاكي في الجنوب على أن يُحرم على الأجانب مغادرة محيط الميناء. (4)
وهكذا عاشت اليابان في عزلةٍ شِبه تامّةٍ عن العالم الخارجي لمدة تزيد عن القرنين من الزمان، ورغم أن غرض إيميتسو في الحفاظ على هوية وثقافة الشعب الياباني قد تحقق إلا إن هذه العزلة قضت على اليابان بالتخلّف عن بقية العالم، وبينما كانت إمبراطورياتُ القارة الأوروبية تزداد قوةً وتقدمًا أصبحت اليابان بقعةً متخلفةً ومعزولةً تعيش في العصور الوسطى، وبالتالي ولسخرية القدر جعل ذلك اليابان مطمعًا وهدفًا مثاليًا للقوى الغربية الطامعة في أراضٍ خصبةٍ جديدة للتجارة والاستعمار. كان هذا هو السبب الذي تحركت من أجله السفن الأمريكية عام 1853 بأمر من الرئيس الأمريكي حينها ميلارد فيلمور بغرض إجبار اليابان على فتح موانئها وأراضيها عنوة للتجارة مع أمريكا، وعندما عاد بيري وأسطوله في العام التالي من أجل رد حكومة الشوغان لم يكن أمام اليابان الضعيفة سوى القبولِ بكل مطالب وشروط الأمريكيين، ستكون الولايات المتحدة الدولة الغربية الأولى التي ستفتح لها اليابان أبوابها منذ قرون ولكنها لن تكون الدولة الأخيرة، فقد جذبت تلك الحادثة انتباه بقية القوى الأوروبية الطامعة، وهكذا دخلت اليابان العصر الحديث عنوةً. (5)
مييجي وحكومته.. إصلاحات وحروب أهلية
فُتحت أبواب اليابان على مصراعيها للغرب، ما بدأ كمجرد معاهدات تجارية مع بعض الدول الأوروبية تحول إلى ثورة شاملة وبدأت تتدفق إلى البلاد سيول من الأفكار والتقنيات الغربية، ورويدًا رويدًا بدأت تتشكل جبهتان؛ الأولى كانت «التقليديين» وعلى رأسها كان يأتي الشوغان وأتباعه الذين كانوا يرون في المناخِ العامِ الجديد الذي بدأ في التشكّل خطرًا على سلطتهم ومركزهم في البلاد، التي تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على تقاليد قديمة تعود إلى ما قبل العصور الوسطى، لذلك بدأ هؤلاء بدعمٍ من الشوغان محاولةَ تحجيم تلك الموجة الجديدة بتصويرها على إنها مُقدّمة للاستعمار الأوروبي وإن الثقافة والهوية اليابانيتان ستكونان في خطرٍ مُحدِق إذا لم تعد اليابان إلى أساليبها السابقة.
على الجانب الآخر، كان جيل آخر يتكون بشكل رئيسي من التجار وصغارِ محاربي الساموراي يرى في الانفتاح على الغرب فرصةً ذهبيةً لدفع اليابان دفعًا نحو العصر الحديث، فمن وُجهة نظرهم، فإنه بإمكان اليابان أن تعتنق حداثة الغرب دون أن تفقد هويّتها الثقافية، ليس ذلك فحسب بل أن تستخدم تلك الهويةَ كدافعٍ من أجل التقدم، بل إنهم كانوا يرون إن هذا لم يكن خيارًا بل هو السبيل الوحيد لضمان استقلال اليابان ومنع وقوعها تحت سيطرة القوى الأوروبية بالكامل كما رأوه يحدث مع الصين المجاورة، كان السبيل من أجل تحقيق ذلك يمرّ -من وجهة نظر هؤلاء- من طريق إزاحة نظام الشوغان بالكامل وتشكيل دولةٍ قوميّةٍ حديثةٍ تحت سلطة الإمبراطور وحكومته.
تدريجيًا ازداد الصدع بين الجبهتين وكانت كل المؤشرات تدل على قيام حربٍ أهليةٍ وكل ما تبقى كان أن يُطلق أحدهم الطلقة الأولى، وهو ما حدث بالفعل في عام 1867، حيث قامت عشيرتان قويّتان من جنوب البلاد بتوحيد قواهما من أجل الإطاحة بالشوغان، وبالفعل بعد أن تمكنتا من الحصول على تأييد الإمبراطور تمكنت قواتهما المدربة والمجهزة بأسلحةٍ أوروبيةٍ من هزيمة جيش الشوغان. بهذه الهزيمة أعلن هذا التحالف نهاية نظام الشوغان الذي استمر ما يقرب من الألف عام وإعادة السلطة إلى كرسيّ الإمبراطور، ثم قاموا بنقل مقرّ الإمبراطور إلى العاصمة إيدو مقر حكم الشوغان السابق والمكان الذي بدأ منه كل هذا، وفي محاولةٍ لإبعاد أنفسهم عن النظام السابق قام التحالف بتغيير اسم المدينة إلى طوكيو. (6)
الحقيقة هي إن مصطلح «إصلاحات مييجي» يفتقر للدقة، فعلى الرغم من أن تحديث اليابان ونقلها للعصر الحديث قد تم بالفعل في عهده إلا إنه -في الواقع- عند توليه الحكم لم يكن الإمبراطور مييجي سوى شابًا صغيرًا لم يبلغ بعد الخامسةَ عشر، بينما كانت القوى الحقيقية وراء عملية التحديث تكمن في الأساس في مجلس وزراءه المكونُ بشكل رئيسيّ من نفس الساموراي الشباب الذين قادوا التمرد ضد نظام الشوغان، لذا فإنه من المهم التذكر إنه كلما قلنا كلمة «قرر الإمبراطور» فإنها في الواقع تعنى قرر وزراء الإمبراطور ومستشاريه.
وكان أول شيء «قرره الإمبراطور» هو التركيز على بناء جيشٍ حديث لليابان، فقد أدركت حكومة مييجي منذ البداية أن هذا هو الشئ الوحيد الذي سيحمى اليابان من مصير الصين، وهو الوقوع بشكل كامل في قبضة الغرب، كما إنه سيوفر الاستقرار الداخلي اللازم بإنهاء نظام الجيوش المحلية التابعة لكِبار النبلاء، الذي سبب قرون الحروب الأهلية المستمرة التي عايشتها اليابان. بدأت حكومة مييجي في إصلاحاتها من خلال نشر ما عُرف باسم «ميثاق العهد – Charter of Oath» عام 1868، حددت هذه الوثيقة الموجزة نوايا وسياساتِ الحكومة الجديدة وأرست الأساس لجميع الإصلاحات التي ستحدث في العقود القادمة.
كانت الخطوة التالية هي تقويض سلطة الساموراي من خلال إلغاء النظام الطبقي الذي كان يقوم عليه المجتمع الياباني منذ القِدم، الذي أحتل الساموراي فيه المرتبة الثالثة مباشرة بعد الإمبراطور والشوغان، كانت الامتيازات الممنوحة للساموراي تصل إلى حد السماح لهم بقتل أي شخص من رتبة أدنى على الفور إذا ما شعر الساموراي أن هذا الشخص يتحدث إليه أو يعامله دون القدر الكافي من الاحترام، فضلًا عن ذلك، كان للساموراي رواتب ثابتةٌ حتى في أوقات السلم مما شكل عِبئًا كبيرًا على خزانة اليابان واقتصادها الضعيف أصلًا. (7)
غير أن إغضاب الساموراي كان يشكل مخاطرةً كبيرة للحكومة الجديدة، فعلى عكس بعض الطبقات المحاربة في بلدان أخرى مثل الإنكشاريين في الدولة العثمانية مثلًا، لم يكن الساموراي فئةً محدودةَ الحجمِ، بل بلغ حجم طبقة الساموراي عند بدءِ إصلاحات مييجي حوالي 1.9 مليون شخصٍ بالإضافة إلى عائلاتهم، ومن ثم كان يجب على أي جهدِ يستهدفُ تفكيك هذه الطبقة أن يكون مخطَطًا له بعناية وتأنٍّ. لذا عندما شرعت حكومة مييجي في عمليةٍ بطيئةٍ ومدروسةٍ أخرى لإلغاء طبقة الساموراي حرصوا على إخفاء نواياهم الحقيقية. فأولاً؛ تم تخفيف رواتب الساموراي ثم استبدالها بسنداتٍ أو وظائفٍ حكومية أو حتى بمناصبٍ عسكريةٍ في الجيش الإمبراطوريّ الجديد، وأخيرًا تم منع الساموراي من التجوّل في المدن حاملين سيفًا أو سلاحًا لإظهار مكانتهم وكان ذلك فيما مضى أحد أكبر الفروق بينهم وبين باقي طبقات الشعب. (8)
على الناحية الأخرى فرضت الحكومة التجنيد الإجباري على مستوى البلاد في عام 1873، مما يفرض على كل ذكرٍ الخدمة لمدة أربع سنوات في القوات المسلحة عند بلوغه سن 21 عامًا وتليها ثلاث سنوات أخرى في الاحتياط. تم تسليح هذا الجيش الإمبراطوري الجديد بأحدث الأسلحة الأوروبية، وتم استجلاب خبراءٍ عسكريين من أوروبا والولايات المتحدة بغرض تدريب الجيش على أحدث التكتيكات العسكرية الغربية. غير إن كل هذا أثار سخط الكثير من الساموراي الذين أرادوا الاحتفاظ بامتيازاتهم القديمة؛ وهكذا بدأ عددٌ من الساموراي في إشعال سلسلة من أعمال الشغب في طوكيو وبعض المدن الكبرى.
وبالرغم من هذه الاضطرابات كان غالبًا ما يتم إخمادها بسرعة إلا إن تلك الفئةَ الساخطة استمرت في كسب المزيد من الدعم لقضيتهم مما شجعهم على الاستمرار في محاولة تقويض سلطة الحكومة الجديدة إلى الحد الذي قامت معه مجموعةٌ من الساموراي بمطاردة أحد الوزراء في حكومة مييجي وقتله في أحد شوارع طوكيو. كانت الأحداث تتسارع تجاه حربٍ أهليةٍ أخرى وهذه المرة أتت الشرارة من داخل حكومة مييجي ذاتها، ففي عام 1877 استقال سايغو تاكاموري أحد أهم وأكبر الوزراء في الحكومة من منصبه وعاد إلى مقاطعته في جنوب اليابان، كان سايغو في البداية، وهو ساموراي قديم، أحد كِبار مؤيدي الإصلاحات الجديدة غير إنه لم يكن راضيًا عن الطريقة التي عومل بها الساموراي. عاد سايغو إلى مقاطعته وهناك بدأ في إنشاء عدة مدارسٍ من أجل تدريب الساموراي على أساليب القتال الحديثة، أثار كل هذا قلق الحكومةِ في طوكيو التي أرادت التخلص من سايغو فأرسلت عددًا من الجواسيس بغرض اغتياله، غير إن هذه المؤامرة تم اكتشافها من قِبل سايغو الذي أعلن تمرّده على حكومة طوكيو وادّعى بإنها تحتجز الإمبراطور وتستخدم اسمه دون رغبته وإنه سيسير بجيشه إلى المدينة كي يواجه الإمبراطور شخصيًا بحقيقة ما يحدث.
في البداية كان جيش سايغو مكونًا من بضعة آلافٍ من الجنود ولكن مع الوقت وخلال مسيره شمالًا بدأ ينضم إليه المزيد والمزيد من الساموراي الساخطين ليتضاعف حجم قواته عدة مرات، كان هذا هو أكبر خطر يواجه حكومة مييجي منذ إنشاءها، كان الجيشُ الإمبراطوريّ الجديد مسلحًا ومدربًا جيدًا غير إنه افتقر الخبرة في القتال، تلك التي امتلكها جيش سايغو، ستكون المعركة بينهم الاختبار الحاسم الذي سيقرر وجه اليابان في العقود المقبلة، في أرض المعركة وقف الفلاحون الذين أصبحوا الآن جنودًا في الجيش الإمبراطوريّ أمام أسيادهم السابقين، هجم الساموراي بشجاعةٍ لتحصدهم بنادقُ ومدافعُ الجيش، وعندما انقشع الغبار رقدت جثة سايغو في الميدان الغارق في الدماء. (9)
بهزيمة «آخِر ساموراي» والتأكد من كفاءة الجيش الإمبراطوري الجديد انطلقت حكومة مييجي في بقية إصلاحاتها، فإلى جانب التغييرات الجذرية في البنية الاجتماعية لليابان وفي محاولةٍ لإنشاء دولةٍ مركزيةٍ قويةٍ ذاتِ هويةٍ واحدة قامت الحكومة بتوحيد اللغة اليابانية من خلال منع استخدام جميع اللهجات المحلية، وأصبحت هذه اللهجة الجديدة في النهاية هي القاعدة التي قامت عليها مجالات التعليم والإعلام والحكومة والأعمال.
أنشأت الحكومة اليابانية كذلك نظامًا وطنيًّا موحدًا للمدارس العامة. في هذه المدارس المجانية تعلّم الطلابُ القراءة والكتابة والرياضيات. كما ألزمت الحكومة كذلك الطلاب بحضور دوراتٍ في التدريب الأخلاقي، الذي هدَف بشكلٍ أساسيّ إلى تعزيز شعورهم بالواجب تجاه الإمبراطور والدولةِ اليابانية، وبحلول نهاية فترة مييجي أصبح الالتحاق بالمدارس العامة واسعَ الانتشار مما أدى إلى زيادة توافر العمالة الماهرةِ المُساهمةِ في النمو الصناعي للبلاد.
غير إن النتيجة الأهم التي ترتبت على إصلاحات مييجي قد تكون في التغيير الجذري الذي طرأ على رؤية اليابان لنفسها كأمّةٍ وعلى دورها في منطقتها والعالم؛ فإن اليابان قد أصبحت أول دولةٍ آسيويةٍ تنجح في تحديث نفسها على أساس النموذج الغربي دون أن تقع تحت نير الاستعمار الأجنبي، أدى هذا إلى التأثير بشكل كبير على على الهويةِ الوطنيةِ اليابانية فيما يتعلق بجيرانها الآسيويين وخصوصًا الصين، التي كانت -لآلافِ السنين- المركزَ الحضاريّ السياسيّ الرئيسيّ في آسيا، غير إن تدهورَ حالِ الأخيرةِ مع صعود اليابان أدى إلى رفع مكانة اليابان لتصبح هي القوّة الآسيوية الرئيسية. (10)
ولكن ترتب على تلك التغييرات نتيجة أخرى؛ فمع ازدياد قوتها ونمو شعور مواطنيها بالتفوق بدأت تظهر لدى اليابان نزَعاتٌ قومية واستعمارية تدعو إلى حق اليابان في السيطرة على كامل شرق آسيا باعتبارها الدولة الآسيوية الوحيدة المتحضرة بالمقاييس الغربية، أرادت اليابان اختبار قوتها الجديدةَ المكتسبةَ باحتلال كوريا وبالفعل نجحت في تحقيق ذلك بسهولة، غير إن ذلك لم يعجب بعض القوى الأوروبيةَ وبالتحديد روسيا، وفي عام 1904 اندلعت الحرب بين الدولتين، توقع جميع الخبراء والسياسيين أن تنتهي الحرب في غضون أسابيعٍ قليلةٍ بانتصارٍ روسيّ سهل يذكّر الدولة الآسيوية بالحدود المرسومة لها من قِبل الغرب، بالنسبة لليابان كان هذا هو الاختبارُ الأخير، كل ما عملت من أجله اليابان خلالَ عقود التحديث كان على المحك، استخدم اليابانيون كل ما تعلّموه من الغرب ضده، وانتصروا، بهذا الانتصار تأكد لجميع القوى الكبرى أن اليابان كانت هنا لتبقى. في عام 1912 توفى الإمبراطور مييجي بعد أن رأي بلاده تتحول في عشرين عامًا فقط من دولةٍ قرويةٍ أوسطية على حافة العالم تنتظر دورها في الاستعمار الأوروبي إلى قوةٍ صناعيةٍ وإمبرياليةٍ كبرى تُناطح بل وتغلب الدول الغربية التي حاولت فرض إرادتها عليها في الماضي.