غسان كنفاني: الثائر، العاشق، الأديب

غسان-كنفاني-3

غسان كنفاني، الثائر غسان كنفاني|غسان كنفاني وزوجته آني كنفاني.|كتاب: «أرض البرتقال الحزين».

«نعم، كان ثمَّة رجلٌ اسمه غسَّان كنفاني، كان له وجه طفل، وجسد عجوز، عينان من عسلٍ، وغمازة جذلة لطفلٍ مُشاكس هارب من مدرسةِ الببغاوات، ولكنه حُرٌّ، يفعل ذلك باتقان، وحين أقرأ رسائله بعد عقدين من الزمن أستعيده حيًّا، ويطلع من حروفه كما يطلع الجنيّ من القُمقم، حارًا ومرحًا، في صوته الريح.. يقرعُ بابَ ذاكرتي، ويدخل بأصابعه المصفرة بالنيكوتين، وأوراقه، وإبرة أنسولينه، وصخبه المَرِح، ويجرّني من يدي لنتسكَّع معًا تحت المطر، ونجلس في المقاهي مع الأصدقاء، ونتبادل الموتَ والحياةَ بلا أقنعة.. ونتبادل الرسائل أيضًا.»

هكذا قالت غادة السِمَّان عن معشوقِها الثوريّ، والروائي الفلسطينيّ: «غسان كنفاني».

غسَّان كنفاني الثَّائر

عرفه العالم صلبًا جامدًا قويًّا، مُنتصرًا بقلمِه، مواجهًا لأعدائه ومُغتصبي وطنه، الذين اغتالوه خشيةً كلماتِه، عرفه العالم مناضلًا قوميًّا، لا يعرف للضعفِ طريقًا، لكن لم يعرفه العالم عاشقًا خاضعًا لإرادة الحب وسطوته، لم يعرفه العالم مُغرمًا ينسج قلمه كلمات تفوح حُبًّا برائحة تمتزج فيها رائحة زهر دمشق وبارود يافا.

وُلد في عام 1936 لأبٍ نشط في الحركة الوطنية التي عارضت الاحتلال البريطانيّ لفلسطين، وأصبح هو وأسرته لاجئين في سوريا بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، وانضموا إلى مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين أُجبِروا على مغادرة أوطانهم.
أثناء عمله في مُخيَّمات اللاجئين، بدأ كنفاني في كتابة رواياته، ثم اهتم في وقت لاحق بالفلسفة الماركسية والسياسة أثناء إقامته في بيروت. (2)

وصرَّح قائلًا:

«ينبثق موقفي السياسيّ من كوني روائيّ.. وبقدر ما أشعر بالقلق، فإن السياسة والرواية هي حالة واحدة لا يمكن الفصل بينها، ويمكنني القول بشكلٍ قاطع إنني أصبحت مُتعهدًا سياسيًّا لأنني روائيّ، وليس العكس.» (2)

عندما نما اهتمامه بالشيوعيّة، ابتعد عن القوميّة العربيّة، ونحو الكفاح الفلسطينيّ.

وقال:

«القضية الفلسطينية ليست قضية للفلسطينيين فقط، بل قضية لكل ثوريّ، أينما كان، كقضية للجماهير المستغلَّة والمُضطهدة في عصرنا.» (5)

كان كنفاني الروائيّ الذي نشر فكرة أدب المقاومة في سياق فلسطينيّ، كان أيضًا عضوًا قياديًا في: الجبهة الشعبية الماركسية اللينينية لتحرير فلسطين (Popular Front for the Liberation of Palestine” (PFLP”.

وقال نعيه في صحيفة «ديلي ستار» اللبنانية بعد وفاته بفترة وجيزة:

«لقد كان فدائيًا لم يطلق مطلقًا بندقية، وكان سلاحه القلم، وساحة قتاله هي الصحيفة.» (3)

لمشاهدة حوار مع غسان كنفاني بشأن القضية الفلسطينية من خلال الرابط التالي:
مقابلة مع غسان كنفاني: لا استسلام

غسَّان كنفاني العاشق

غسَّان كنفاني وغادة السمان

من عاصر زمن المراسلات الورقية يدرك تمامًا عن أي مُتعة نتحدث، ويعرف اللهفة التي كانت ترافق انتظار رسالةٍ ما، وقد يتذكَّر كيف كانت رسالة مُنتظرة وُضعت داخل صندوق البريد بعد طول انتظار كفيلة بإسعاد يومه وربما أكثر من ذلك..

فدعونا نتخيَّل كم تكون عذوبة الكلمات النابعة من وجدان شاعر، وكم هو رقيق بوحُ كاتبةٍ امتهنت التعبير..
ثم دعونا نتخيَّل مدى الجمال حين تتماهى تلك الكلمات في عاطفة صادقة نقية، فتصير مزيجًا عطريًا ينسكب على السطور حاملًا عبير ورودٍ غفت في طيَّات الرسائل، ورائحة أوراق صُفر تطيب كلما عتّقتها السنوات.

بدأت القصّة حين كان هناك روائيّ شاب فلسطينيّ يُدعى «غسَّان كنفاني»، تعرَّف إلى أديبة سوريّة تُدعى غادة السمَّان، هي مُجرد معرفة عابرة في جامعة دمشق، ويُقال أنهما التقيا بعد ذلك في القاهرة في إحدى الحفلات الساهرة، وفي تلك الليلة قال لها غسَّان: «مالكِ كطفلةٍ ريفيَّة تدخل المدينة أوَّل مرَّة؟»، وسُرعان ما سقط صريعًا هائمًا بها، هي تحديدًا دون النساء، و ضعيفًا أمامها هي فقط دون العالم، هي فقط هي غادة السمان.. كاتبة وأديبة سورية، سليلة العائلة البرجوازية، المرأة القوية، والكاتبة النسوية التي هام بها غسَّان وما استطاع امتلاكها، المعشوقة الأبدية و المُلهمة. (1)

ومن هذه الليلة والصلة توثقت بينهما في عدة دول عربية، وعاشا علاقة حب لم يسبق لها مثيل، حتى بلغ ذُروةَ الجوى -شِدَّةُ العشقِ وما يُورِثُهُ من حُزنٍ-، ليتبادلا بعدها رسائل كانت ثمرة هذه العلاقة، والتي نشرتها غادة على كتاب أصدرته عام 1992 في ذكرى المناضل غسَّان السنوية بعنوان «رسائل غسَّان كنفاني إلى غادة السمَّان».

وكعادة أغلب قصص الحُب التاريخية العظيمة، التي تحمل في جنباتها الألم وتنتهي بالفراق، هذا الحب المستحيل ربما وقفت أمامه العديد من القيود الاجتماعية والدينية، لكنها لم تقف في وجه مشاعر غسَّان وكلماته، هو في وادٍ وهي في آخر، وسماء الأدب والابداع كانت المُلتقى.

غادة السمان وغسان كنفاني.

غسَّان كنفاني وزوجته

تزوَّج غسَّان من فتاة دنماركية مُتخصصة في تدريس الأطفال، حيثُ اهتمت الفتاة إثر ذلك بالقضية ورغبت في الاطلاع عن كثب على المشكلة فشدت رحالها إلى البلاد العربية مرورًا بدمشق ثم إلى بيروت حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسَّان كنفاني كمرجع للقضية وقام غسَّان بشرح الموضوع للفتاة وزار وإياها المخيمات وكانت هي شديدة التأثر بحماس غسان للقضية وكذلك بالظلم الواقع على هذا الشعب، وبعد بضعة أيام عرض عليها الزواج، وقام بتعريفها على عائلته، كما قامت هي بالكتابة إلى أهلها، ثم تزوجا. (7)

على لسان زوجة غسَّان كنفاني «آني كنفاني – Anne Kanafani»

حين أُعلن عن إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، كان أكثرُ الناس في بلدي فرِحين؛ «فقد أُتيح أخيرًا لليهود المضطهَدين مكانٌ آمن.» ولم يعرف أكثرُ الناس آنذاك، أو أنّهم لم يفكّروا، أنّ ثمة شعبًا آخرَ يحيا هناك، في فلسطين. وحين قال لي طالبان في دوبرفنيك في يوغوسلافيا أثناء حضوري مؤتمرًا للطلّاب إنّهما فلسطينيّان، قلتُ: «أوه، جيّد أنّني أعرف شيئًا عن الرقص الشعبي الإسرائيلي!» عندها، نظرا إليّ وطلبا إليّ الجلوسَ وأخبراني عن المأساة الفلسطينيّة، فتملّكني الغضبُ الشديد، لأنّه كان قد مضى حوالي ثلاثين عامًا على نشأة تلك المأساة من غير أن أعرفَ عنها شيئًا! وتساءلتُ: «إذا كان هذا شأني، أنا القادمة من عائلة تقدميّة، فماذا يكون شأن الآخرين؟»

بعدها جئتُ من يوغوسلافيا إلى دمشق، وفي نيّتي أن أذهب بعد ذلك إلى بيروت ومصر. وكان لغسّان أصدقاء أعطوْني رسالةً لكي أحملها إليه في بيروت، فيُعينَني كذلك على الدخول إلى المخيّمات الفلسطينيّة. وحين أخبرتُ غسّان بمرادي غضب، وقال إنّني لا أوافق على أن تشاهدي مخيّمات اللاجئين قبل أن تعرفي أكثرَ عن المسألة كلها.

ثم دعاني إلى العشاء بعد أسبوعين على لقائنا، وكان ذلك في مقهى الغلاييني.. جلسَ وقال: «قبل أن نغادر هذا المقهى، عليكِ أن تجيبي عن سؤالي: هل تتزوجينني؟» ثم أردف قائلًا: «لكنني فقير، لا مال لديّ، لا هويّة، ثم إنني أعمل في السياسة، لا أمانَ لي، وأنا مصاب بالسكّري.»

كنتُ أستمع إلى كلّ تلك النقاط السود، ثم قلتُ له: «عليّ أن أفكّر في عرضك.» وكنّا نصعد الدرجَ المفضي إلى فناء المقهى، لكنّني قبل أن أصل إلى الدرجة العليا قلتُ: «نعم سأتزوّجك!» وأذكرُ أننا ذهبنا إلى مقهى الدولتشا فيتا، وشاهدنا بعض الأصدقاء القدامى وأخبرناهم بقرارنا، وتحمَّسوا جدًا للأمر. (8)

غسان كنفاني وزوجته آني كنفاني.
غسان كنفاني وزوجته آني كنفاني.

غسَّان كنفاني الأديب

أحسَّ المحيطون بغسَّان كنفاني بالطاقة الأدبية التي يتمتع بها، فعملوا على تشجيعه، ولا سيما أخته التي كان لها أثرٌ كبير فيه، فزادت طاقته الأدبية حتى انتقل إلى الدراسة الثانوية، فتفوق في مادتين: الأدب العربيّ والرسم.

يُعد كنفاني أحد روَّاد الجيل الثاني من كُتَّاب الرواية الفلسطينية، حيثُ سخَّر غسَّان أدبه لخدمة فلسطين، فضلًا عن التفاعل الاجتماعي بينه وبين الناس، فغلب على أعماله الأدبية واقعه الحياتيّ، فمن يقرأ أعمال غسَّان دون جهد يعلم أنه أحد أبناء الشعب البُسطاء، والذين منهم الكثير من الشُبَّان وحتى الأطفال يعملون بدافع صدق الفطرة دون أن يبلغوا سن الحكمة، وليس منهم من يحاول أن يفلسف الدور الذي يؤديه، أو الغاية التي يسعى إليها، فمنهم من يضحي بحياته دون أن تمر بخاطره: «لِمَ؟». (9)

مهدت تجارب كنفاني الشخصية المسرح لاهتمامه بالماركسية وسعيه من أجل تحرير فلسطين؛ حيثُ كان كنفاني الروائيّ الذي نشر فكرة أدب المقاومة في سياق فلسطينيّ، هو ذاك الذي كان عضوًا قياديًا في الجبهة الشعبية الماركسية اللينينية لتحرير فلسطين. (2)

كما ركَّزت مُعظم أعماله الخيالية على حياة الفلسطينيين، والتحديات التي يواجهونها في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
بعد أن عمل كمُحرر لعدد من وسائل الإعلام طوال حياته القصيرة، فاز كنفاني بجوائز مُتعددة لأعماله سواء خلال حياته أو بعد وفاته. (3)

كانت صحافته وكتاباته متجذّرة بعمق في الثقافة العربية الفلسطينية، وألهمت جيلًا كاملًا خلال فترة حياته وبعدها، وتُرجمَت أعماله إلى 16 لغة في عشرين دولة مُختلفة.

كتاب: «أرض البرتقال الحزين».
كتاب: «أرض البرتقال الحزين».

اغتيال غسان كنفاني

قبل 46 عامًا، أُغتيل الثوريّ والروائي الفلسطينيّ غسان كنفاني على يد الموساد الصهيوني -وكالة الاستخبارات الوطنية الإسرائيلية-، ففي 8 يوليو 1972، كان كنفاني يعيش في العاصمة اللبنانية بيروت عندما قُتل في انفجار سيارة مفخخة مع ابنة أخيه المراهقة.. وأعلن الموساد الإسرائيلي في وقت لاحق مسؤوليته عن الهجوم.

توفي البطل عن عُمر يناهز 36 عامًا متفجرًا، مُبعثرًا كبعثرات حروفه العاشقة، التي نشرتها غادة بعد استشهاده بـ 20 عاما؛ لتقول للعالم إن المناضل العنيد، يحمل بين ثناياه قلب شاعر.
كان مقتله من قِبل قوات الأمن الإسرائيلية ردًّا على مذبحة مطار اللُد -والذي هو الآن يُعرف بمطار بن غوريون الدولي- في 30 مايو / أيار 1972.
قُتل 26 شخصًا على أيدي أفراد من الجيش الأحمر الياباني كانوا قد جندتهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الهجوم،
في ذلك الوقت، كان كنفاني هو المتحدث الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما قام بتحرير مجلة المجموعة الأسبوعية.

حادث الاغتيال كما ترويها آني

«صباح الاغتيال، جلسنا جميعنا أطول من العادة، نشرب قهوتنا التركية على الشرفة، وكان لدى غسان كما هو دأبه الكثير من الأمور للتحدث عنها، وكنّا كما هو دأبنا دومًا حاضرين للاستماع، وكان يخبرنا ذلك الصباح عن رفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم بدأ يتحدث هو وأخته فايزة عن طفولتهما في فلسطين.

قبل أن يغادر متوجها إلى مكتبه، أصلح القطار الكهربائيّ لابننا فايز ولابنة أخت غسان وأخيها، كان الثلاثة يلعبون داخل المنزل ذلك الصباح، وكان على لميس -ابنة أخت غسان- أن ترافق خالها إلى وسط البلد للمرة الأولى منذ وصولها من الكويت بصحبة أمها وإخوتها لأسبوع خلا، فقد كانت تعد العدة لزيارة أقربائها في بيروت، لكنها لم تفلح في الوصول الى هناك أبدًا، فما هي إلا دقيقتان على تقبيل غسَّان ولميس إيانا قبل: «إلى اللقاء»، حتى دوى انفجار مُريع.

تطايرت نوافذ البيت جميعها، انحدرت بسرعة، لأجد أشلاء سيارتنا الصغيرة تحترق، وجدنا لميس على بعد بضعة أمتار، ولم نجد غسَّان، ناديته باسمه، ثم اكتشفت ساقه اليسرى، وقفت مشلولة، فيما راح فايز -ابنهما- يضرب برأسه الحائط، ورددت ابنتنا ليلى النداء تلو النداء: «بابا، بابا»، وبالرغم من ذلك فقد ساورني أملٌ ضئيل بأنه قد أُصيب إصابة خطرة ليس إلا، لكنهم عثروا عليه في الوادي، قريبًا من منزلنا، ونقلوه بعيدًا عنّا، وفقدت الأمل بأن أراه مرة أخرى.

قعد أسامة -ابن أخت غسَّان وشقيق لميس- قرب جسد أخته الميتة، وقال لها: «لا تجزعي يا لميس، ستكونين بخير، وستعلمينني الإنجليزية من جديد.»

وفي المساء قالت لي صغيرتنا ليلى: «ماما، سألت البابا أن يأخذني معه في السيارة لنشتري شيكولاتة، لكنه كان مشغولًا، فأعطاني لوحًا كان يحتفظ به في جيبه، ثم قبَّلني وطلب مني الرجوع إلى المنزل، جلست على درج بيتنا لآكل الشيكولاتة، وحصل دوي كبير، لكن يا ماما لم تكن تلك غلطة البابا، إن الإسرائيليين هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته.»

جريدة (الحياة) 8 يوليو 1976.
جريدة (الحياة) 8 يوليو 1976.

قِيل عن غسان كنفاني

يقول عدنان كنفاني -شقيق غسان- في تعليق له خاص بوكالة «سبوتنيك – Sputnik» على اغتيال أخيه:

«من غباء العدو أن يحسم كل مشاكله باستعمال أبشع طرق القتل والغرور، وقد مارس هذه الشهوة باغتيال الأديب غسان كنفاني، فإسرائيل لا تدرك أنها بقتل غسان جعلت منه رمزًا باقيًا في ضمير الأمة، وفلسطين، فهو حيٌّ نستلهم من عطائه الصمود ومواصلة النضال، حتى تحقيق أمنياتنا بالنصر والعودة وتحرير فلسطين من رجس الاحتلال.»

ويقول وديع أبو هاني -وهو مسؤول المكتب الإعلامي في سوريا وعضو الدائرة الإعلامية المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-: «أتمنَّى لو أني عايشت فترة كنفاني»، كما ذكر لوكالة «سبوتنيك – Sputnik»: «أني أرى فيه الإنسان»، ويقول: «إن مدرسة غسان النضالية ما زالت وستبقى منهجي الفكري ما حييت»، فغسان بالنسبة لوديع -وهو الإعلامي الفلسطيني- «الكلمة والقلم والرصاصة والبندقية»، ويصفه بأنه: «تكامل ضمن سيمفونية منسجمة الأوتار والنغم واللحن»، كما يوضح من خلال متابعة عمل غسَّان كنفاني وإرثه النضالي أنه: «وعى مبكرًا قيمة الإعلام، وفتح آفاقه إلى عالم بلا جدران لينقل معاناة وقضية شعبه أمميًا وإنسانيًا».

وتقول رنا يحيى الأديبة الفلسطينية عن غسَّان خلال حديثها مع «سبوتنيك – Sputnik»:

«إنه كاتب الحياة، كان يكتب لأنه يحيا، وكان يحيا لأنه يكتب، ويُحيي ذاكرة الماضي الفلسطيني لتكون مكانة المستقبل، لم يكن الموت هدفه لأنه لم يكن عاجزًا عن الحياة.. ولأنه لم يكن بعيدًا عن حركة الفعل الفلسطيني الثوري التي تبلور حياته في الصراع، وكان توحده في الصراع الداخلي وحبه لبلاده الذي يبلغ حد التصوّف، نوعًا من استرداد حياته في حياة شعبه وصياغتها في مسرى الحلم العظيم.. إنه الكنفاني».

ويقول الشاب أحمد، وهو شاب فلسطيني في العشرين من عمره ولد بعد نحو عقدين من اغتيال غسان كنفاني، لكن المثير للدهشة أنه من بين الشباب الفلسطينيين الذين يحفظون أغلب مؤلفات كنفاني وتاريخه وأقواله عن ظهر قلب:

«هذا الإنسان أقل ما يمكن وصفه بأنه حدود الوطن وسياجه الفكري المنيع، فهو الصوت المكتوب بحبر أحمر لا يزول مع الأيام مهما أمطروه بقذائف حقدهم، ومزاجية خوفهم منه».

سُكينة بزي، وهي شابة في بداية مشوارها الأدبي، وتأثرت كثيرا بأدب كنفاني، لوكالة «سبوتنيك – Sputnik» مقتبسة من كتاباته وصفًا له:

«غسَّان كنفاني (وُلد شهيدًا)، ومنذ خروجه من رحم أمه ثائرًا، وحتى لحظة اغتياله كان دومًا الشهيد الحي الذي تناثرت أشلاؤه وأشلاء (رجاله في الشمس) على (أرض البرتقال الحزين) خلال (عودته إلى حيفا) مفتقدًا (قميصه المسروق) ومتواسيًا بـ (أم سعد)»، وتنهي كلامها: «الموت خاف غسان فغدر به.. وسارع غسان للموت لأن روحه اشتاقت أن تهيم بنفوس من أحبهم». (4)

وأخيرًا، تقول محبوبته ومُلهمته غادة السمَّان:

«سأحاول أن أنبش وهج رسائله إليّ، لا بوصفها فضيحةً معلنةً، كما أرادها حملة السيوف، بل من باب أنّ هذه الرسائل نصوص عشق متوحّشة، فالمناضل الجيد عاشق جيد بالضرورة، كنفاني كما تكشف عنه سطوره في الرسائل يكتب نصًا متوهّجًا من دون أقنعة، ولعله في مثل هذه الاعترافات تكمن خصوصية كنفاني، فهي إضافة أصيلة إلى نصه الآخر، النص الثوريّ والمقاوم.. الرسائل نصوص نادرة كم نحتاج إليها في مكتبة فقيرة، بعيدًا عن نصاعة الزيف الأدبيّ الذي تغرق به رفوف المكتبة العربية والفلسطينية، بعدما ضاقت بالصراخ والديناميت الفاسد». (5)

غادة السمان..

مُقتبَس عن غسان كنفاني

يقول غسَّان في كتابه «أرض البرتقال الحزين»:

«اسمع يا فيلسوفي الصغير، الإنسان يعيش ستين سنة في الغالب، أليس كذلك؟ يقضي نصفها في النوم، بقى ثلاثون سنة، اطرح عشر سنوات ما بين مرض وسفر وأكل وفراغ، بقي عشرون؛ إن نصف هذه العشرين قد مضت مع طفولة حمقاء، ومدارس ابتدائية، لقد بقيت عشر سنوات، عشر سنوات فقط! أليست جديرة بأن يعيشها الإنسان بطمأنينة؟»

بهذه الفلسفة كان يقابل غسَّان أي تحدٍ يواجهه، كان يحل مشاكله بالتسامح، وحين يعجز التسامح يحلها بالنكتة، وحين تعجز النكتة.. يفلسفها.

«احذروا الموتَ الطبيعيّ، ولا تموتوا إلا بين زخَّات الرصاص.»

«سألت صفيَّة: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة، أجل.. ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلَّا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسيّ؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوَّة؟ البنوَّة؟ ما هو الوطن؟ بالنسبة لبدر اللُبدة، ما هو الوطن؟ أهو صورة آية مُعلَّقة على الجدار؟ إنني أسأل فقط، ما هو الوطن!» (6)

«الوطن يا صفيَّة هو أّلا يحدُث ذلك كُله.» -عائد إلى حيفا.

ويقول مُخاطبًا زهرته الدمشقيَّة:

«كيف لم تطبق كفاي عليكِ مثلما يطبق شراع في بحر التيه على حفنة ريح؟ كيف لم أذوبكِ في حبري؟ كيف لم أجعل من لهاثينا معًا زورقنا الواحد إلى نبض الحياة الحقيقي؟ كيف ذهبتِ دون أن أحس بكِ؟ كيف مرت عيناكِ في عمري دون أن تتركا على وجهي بصماتهما؟ كيف لم أتمسّك بكِ؟ كيف تركتك يا هوائي وخُبزي ونهاري الضحوك تمضين؟ عشت معكِ حقيقة عمري، ضعت فيكِ إلى حد لم أصدق أنكِ قد تمضين، كان ذلك مثل المستحيل ولكنكِ ذات صباح غبتِ كما لو أن شروقكِ في جبيني لم يكن.. ماذا أقول لكِ؟ إن النسيان هو أحسن دواء اخترعه البشر في رحلتهم المريرة، ومع ذلك فأنا لن أنساكِ، أنتِ تخفقين في رأسي مثل جناحيّ عصفور طليق أمام بصري، وينتشر ريشه الذي حط وطار مثل لمح البصر.
وها أنذا متروكٌ هنا كشيء على رصيف انتظار طويل، يخفق في بدني توق لأراكِ، وندم لأنني تركتكِ تذهبين، أشرع كفيّ اللتين لم تعرفا منذ تركتكِ، غير الظمأ أقول: تعالي!». (6)

ولعلَّ كان أفضل وأدق وصف وُصِفَ به غسَّان في نظري، هو وصف حبيبته غادة له في خاطرة غزليَّة هي الأقرب لقلبي على الإطلاق، تنمُ عن عشقٍ جارف لرجلٍ استثنائيّ، رجلٌ ثائرٌ، عاشقٌ، أديبٌ..

«خارقُ العذوبةِ والكبرياء، نقاء صحارٍ طهَّرتها الشمس طوال عصورٍ من اللهيب، الغريقُ الذي يخشى البلل، والنار المُتأججة التي تخشى الدفء، ليس كالأبيض ولا الأسود، كلحظة التقاء الأشياء التي تتعانق؛ لأنها لا تمتزج، بسيطٌ كالأسرارِ، واضحٌ كالغموضِ، سُريالته منطقيّة، لا يدعو للاطمئنان، ويستحيل امتلاكه كفراشةٍ مُثبَّتة تحت دبُّوس، مُذهلٌ، وآسر، كعبارةِ «صباح الخيرِ» لحظة الاحتضار..» (5)

ذلك لأنَّه؛ غسَّان كنفاني..

 

كتابة وإعداد: هبة خميس
مُراجعة: آلاء مرزوق

تحرير: زياد الشامي

المصادر:

[1]: من غسان كنفاني إلى غادة السمان: مأساتي ومأساتك / 2 [Internet]. [cited 2018 Jul 7]. Available from:

https://bit.ly/2KFdW2v

[2]: Ghassan Kanafani: Voice of Palestine (1936-1972) [Internet]. Palestine Chronicle. 2017 [cited 2018 Jul 3]. Available from: https://bit.ly/2KrItRn

[3]: Ghassan Kanafani, the Palestinian Revolutionary Killed by Israeli Intelligence [Internet]. [cited 2018 Jul 3]. Available from: https://bit.ly/2IPzXGd

[4]: Sputnik. بعد 43 عاما من اغتيال جسده… غسان كنفاني لا يزال “فكرة لم تمت” [Internet]. [cited 2018 Jul 3]. Available from: https://bit.ly/2MK1M55

[5]: غادة السمان [Internet]. [cited 2018 Jul 3]. Available from: https://bit.ly/2tR0MVY

[6]: غسان كنفاني (Author of رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان) [Internet]. [cited 2018 Jul 3]. Available from: https://bit.ly/2u5bEim

[7]: غسان كنفاني. In: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة [Internet]. 2018 [cited 2018 Jul 8]. Available from: https://bit.ly/2KJiFAs

[8]: حوار مع آني كنفاني في الآداب، العدد 7/8، 1992 (ملفّ) [Internet]. الآداب. 2017 [cited 2018 Jul 8]. Available from: https://bit.ly/2IZKDlI

[9]: نقد في أدب غسَّان كنفاني: https://bit.ly/2KZUGcr

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي