إن قصة حياة (غيل دو ريز- Gilles de Rais) 1404 –1440))، ذلك النبيل من بريتون في فرنسا، هي بكلِّ تأكيد قصةٌ استثنائية، ولو اقتصر سجله على مشاركته في حرب المِئة عام، و قتاله جنبًا إلى جنب مع المُحارِبة الشهيرة (جان دارك – Joan of Arc) لكان هذا كافيًا ليضمن مكانةً خاصةً جدًا في التاريخ. غير أن تلك المَآثِر تطغى عليها الحقيقة المروعة لحياته السِرِّية، وقتله أكثر من مِئة طفلٍ بطريقةٍ بشعة، تلك الحملة التي جعلته، جدلًا، أوَّلَ قاتلٍ مُتسلسل في التاريخ المكتوب.
كانت نشأة غيل دو ريز المبكرة حافلةً بالمآسي. تُوفِّيَ كلا والديه حوالي عام 1415، والده «غي دي لافال» قُتِلَ في حادثِ صيدٍ مُروِّع شَهِدَهُ الابن. وتُوفِّيَت والدته «ماري دو كرون» بسببٍ مجهول. تولَّى تربيته بعد ذلك جَدُّه لوالدته «جان دو كرون». اتصف دي ريز في شبابه بالتهور والاندفاع. تلك الصفات أهَّلَته لكي يصبح مقاتلًا بارعًا وجريئًا في ساحة المعركة. عندما بدأ نجم جان دارك في البزوغ عام 1429 أُسنِدَت إليه مُهمِّة الإشراف عليها من قبل ولي عهد فرنسا والملك المستقبلي (شارل السابع – Charles VII). سويًّا، قاتل الاثنان في عددٍ من المعارك الهامة التي شهدتها حياة جان دارك القصيرة، ومن ضمنها مشاركته في رفع حصار أورليان. وفي عام 1429 عُيِّنَ دو ريز كـ«مارشال فرنسا» وهو أعلى منصب عسكري في فرنسا أنذاك.
بعد وفاة جان دارك عام 1431، بدأت مسيرة ريز في العسكرية بالخفوت، وأصبح يمضي أكثر وقته في مِلكِيته الخاصة التي كانت من الأكثر ثراءً في غرب فرنسا. كان دو ريز ينفق ثروته بتهور، مُبدِّدًا أكثرها على الديكورات والخَدَم، محيطًا نفسه بحاشيةٍ عسكريةٍ كبيرة، بالإضافة إلى الإنفاق على الموسيقى والأعمال الأدبية. كان قيامه ببيع أراضٍ تابعة للأسرة من أجل الإنفاق على نمط حياته المفرط في الإسراف، هو القشة التي قصمت ظهر البعير؛ حيث أثار ذلك عداوةً مريرةً مع أفرادٍ آخرين في أسرته، خاصَّةً جده جان دو كرون، الذي عَبَّرَ عن سخطه على تلك الأفعال بأن حرم دو ريز من أن يرث سيفه ودرعه وتركهما بعد موته في 1432 لأخ دي ريز الأصغر «رينيه».
في السنوات التالية بدأ اهتمام دو ريز بالدين. ففي 1433 موَّل إنشاء كنيسة –كتزكية لآخرته – أسماها «كنيسة الأبرياء المقدسة» كانت تعمل فيها جوقة من الأطفال اختارهم دي ريز بنفسه، وهو أمرٌ يثير الرعب كونه كان قاتلًا للأطفال! كذلك ازداد اهتمامه بالخوارق وبدأ البحث في أمور ما وراء الطبيعة؛ فقام، بشكلٍ مستمر، بتوظيف عددٍ من الخيمائيين –المشهوريين بقدرتهم على تحويل المعادن المختلفة إلى ذهب– والسحرة، كوسيلةٍ لإنقاذ ثروته المنهارة.
بدأت تكثر في تلك الأثناء الشائعات حول اختفاء أطفالٍ في المناطق المحيطة بقلعة دو ريز. وبدت كثيرٌ من حوادث الاختفاء هذه مرتبطة بنشاطات يقوم بها دو ريز وخدمه. وكان من الشائع في هذا الوقت أن يؤخذ الفتية اليافعين بواسطة النبلاء ويُفصلوا بشكلٍ دائمٍ عن ذويهم، لكي يعملوا كخدمٍ أو كمرافقين للفرسان، ولذلك ظلَّ كثيرٌ من أهل هؤلاء الأطفال غافلين عن حقيقة ما حَلَّ بأبنائهم.
في أماكن أخرى، كانت حقيقة ميول دو ريز الإجرامية سرًّا مفضوحًا؛ حيث اتضح فيما بعد، وأثناء محاكمته على جرائمه، وجود شهودٍ رأوا خَدَمَه يقومون بالتخلص من عشرات الجثث لأطفالٍ وذلك بالقرب من إحدى القلاع التابعة له قي 1437. ووقف الخوف ومكانتهم الاجتماعية المنخفضة حائًلا بين أهالي هؤلاء الضحايا وبين اتخاذ أيِّ فعلٍ ضد دو ريز. ومن العجيب أنه لم يُقبَض على دو ريز حتى سبتمبرمن عام 1440، وذلك عندما قام باختطاف كاهنٍ لخلافٍ قام بينهما، دون أن يرتبط ذلك بجرائمه المعتادة. حُوكِمَ دو ريز بعدها مِن قِبَلِ محكمتين، محكمة مدنية وأخرى تابعة للكنيسة، في وقتٍ واحد، وذلك في تُهَمٍ تتعلق بالهرطقة، واللواط، وقتلِ أكثرَ من مِئة طفل.
وتحت التهديد بالتعذيب، اعترف دو ريز بكافة جرائمه، واصفًا كيف قام بإقامة شعائر لتعذيب عشرات الأطفال الذين اختطفهم خدمه، لمده تفوق العشر سنوات. حكم على دو ريز بالإعدام شنقًا وحرقًا بشكلٍ متزامن، وتم تنفيذ الحكم في السادس والعشرين من شهر أكتوبر عام 1440. استقبل دو ريز تنفيذ حكم الإعدام بمظهر النادم وبرباطة جأش. والغريب أن هذا الموقف الأخير قد جلب لهذا القاتل التقدير بعد وفاته كرمزٍ للتوبةِ المسيحية الصادقة، بل وصام الناس ثلاثة أيام بعد موته. وكسخريةٍ مريرةٍ أخيرة، انتشر بعد ذلك تقليدٌ بين الآباء حول مدينة نانت، يقومون فيه بإحياء الذكري السنوية لإعدام دو ريز عن طريق جلد أطفالهم. وربما كان الغرض من ذلك هو أن يغرسوا في نفوسهم فداحة الجرائم التي ارتكبها ثم تاب عنها غيل دو ريز. ويُعتقَد أن هذه الممارسات استمرَّت لأكثرِ من قرنٍ بعد موته.
شَكَّكَ بعض المؤرخين المعاصرين فيما إذا كان دو ريز مذنبًا حقًا بتلك الجرائم التي أعدم من أجلها أم لا، مُنوِّهين إلى حقيقة أن اعترافاته قد انتزعت عن طريق التعذيب. ولكن يظل معظم المؤرخين الذين فحصوا الأدلة من محاكمة دو ريز مقتنعين بأنه بالفعل قد ارتكب تلك الجرائم.
المصدر :
https://www.britannica.com/spotlight/gilles-de-rais-historys-first-serial-killer