المترجم:
أُلقيت هذه المحاضرة في السادس عشر من يوليو في عام 2014، في مركز برلين للأبحاث المعرفية (Berlin Center for Knowledge Research)، من قبل الفيلسوف الفرنسي لوكا بالتغيني- Luca Paltrinieri.
المحاضرة:
موضوع محاضرتي يتحدث عن وظيفة الفلسفة والعلاقة بين الفلسفة والعلوم في فترة فيتجنشتاين الثانية، وكذلك في أعمال فوكو. إن غايتي العامة هي إظهار أن فكرة فيتجنشتاين عن اليقين مفيدة في فهم مفهوم المعرفة في عمل فوكو بالإضافة إلى العلاقة بين المعرفة العلمية والفلسفة، ولكن على الجانب الآخر، تساعدنا الطريقة الأركيولوجية في فوكو على فهم البعد التاريخي للمفاهيم العلمية، والتي يمكن أن تعتبر تكملة لفلسفة فيتجنشتاين. من أجل تحقيق هذا، سأتحدث أولًا عن المشاكل الناشئة عن الموازنة بين فيتجنشتاين وفوكو من وجهة نظر تاريخية. بعد ذلك، سأحلل بعض مفاهيم فيتجنشتاين لتحديد الخطوط العامة لوصف وظيفة الفلسفة بالنسبة له. ثالثًا، سوف أعود إلى فوكو وأركيولوجيا المعرفة، من خلال النظر بإمعان إلى معلمه كانجلم، من أجل توضيح أوجه التشابه والاختلاف بين الإثنين.
مشاكل المقارنة بين ميشيل فوكو وفتجنشتاين
المقارنة التي أجريت بين الفيلسوف الفرنسي وفتجنشتاين تبدو غير مألوفة. بدأ اسم فتجنشتاين في الظهور في فرنسا منذ عام 1950 فقط، وكان تيار واسع من التقليد الفلسفي الفرنسي يتخذ موقفًا عدائيًا اتجاهه. لنأخذ موقف جيل دولوز كمثال، كان يحرص دائمًا على إظهار استخفافه بفلسفة فتجنشتاين، فيعتبر الفرنسي أن لو طُبّقت فلسفة فتجنشتاين في فرنسا، فستكون عندها كارثة، ستؤدي إلى انحدار فلسفي، وقتل للفلسفة، كما يرى دولوز. ويضيف أنه يمكن أن نلخص قضية فتجنشتاين، والفتجنشتاينيين بصفة عامة، من خلال هذه العبارة: «بؤس مقيم في كبرياء»، كلمات دولوز هذه شكّلت رمزًا باقيًا للفهم الفقير لدى الفرنسيين لفتجنشتاين، وبالتأكيد خلقت فجوة يُستعصى ردمها بين سيد التفكير التحليلي والفلسفة الفرنسية. تجري الأمور على عكس عادتها هذه الأيام، فبالنظر إلى الحضور القوي لفتجنشتاين في فرنسا، يتم الاحتفاء به على أنه المفكر الذي يمكن أن يزيل (الضباب الفرنسي). أتذكر أنه عندما بدأت العمل على التنافذات بين فوكو وفيتجنشتاين، كنت عندها في فرنسا في أوائل عام 2000، كان ذلك الرجل الذي كان يعمل في الفلسفة السياسية الأمريكية مصدومًا للغاية بفكرة مقارنة الفيلسوفين، حتى أنه بحث عن شهادات من المشتغلين بفيتجنشتاين لتهدئة ذهنه حول حقيقة أن فيتجنشتاين وفوكو لم يكن بينهما شيئًا مشتركًا. ثم عاد لي -لا أدري إن كان ذلك تهديدًا أو تحذيرًا- ليخبرني أنه إذا تابعت العمل على هذا الأمر، فإنه سيرسل زملاءه الفتجنشتاينيين إلى ندوتي لدحض أفكاري.
على الرغم من كل هذا، فإن الموازنة بين فتجنشتاين وفوكو، على الأقل في فرنسا، لديها مستقبل واعد. لنتذكر معًا أن الفيلسوف المؤثر جوسلين بينويست ألقى بعض المحاضرات عن فتجنشتاين وفوكو، أضف إلى ذلك كتابًا أُلّف بطريقة مشتركة عن الفيلسوفين تم نشره في 2011، وعقد مؤتمر دولي في السوربون لنقاش هذه المسألة، وفي عام 2013، تم الدفاع عن أطروحة الدكتوراه ليورج فولبيرز حول فتجنشتاين وميشيل فوكو. تركّز هذه التفسيرات بشكل رئيسي على أعمال فوكو الأخيرة، وفكرة الفلسفة بوصفها تحويلاً للذات. يمكن قراءة فلسفة فيتجنشتاين على أنها عملٌ أخلاقي وروحي على النفس، وهو عمل من شأنه أن يقودنا إلى رؤية الأشياء والأشخاص بشكل مختلف، مثل فلسفة اليونان القديمة، التي كانت تعتبر الفلسفة ممارسة لبلوغ الحقيقة. هذه فكرة مثيرة يمكن أن نجدها بفعالية في (فوكو الأخير)، لكني أريد اليوم أن أركز بشكل خاص على الجوانب المعرفية لهذه المقارنة. يمثل الفيلسوف أيان هاكينغ مثالاً جيدًا ومهمًا على الربط والجمع بين الفكر التحليلي، ممثلاً بفتجنشتاين، ودونالد دافدسون وكواين، وعلى الجانب الآخر يتأثر هاكينغ بنظرية المعرفة التاريخية عند فوكو. هذا ربما يعني أنه إذا نظرنا للأمور من خارج أوروبا، يمكننا عندها إيجاد تشابهات؛ حيث عادة ما نتصور وجود معارضة. لذا، إذا كنت أشير إلى طريقة تفكير فوكو في الستينيات بدلاً من (فوكو الأخير)؛ فذلك من أجل رسم صورة عامة لمفهوم الفلسفة للفيلسوفين.
اسمحوا لي أن أقدم نفسي: أنا لست باحثًا في فيتجنشتاين، فأنا في المقام الأول باحث في فوكو، لذا فإن تأويلاتي لفيتجنشتاين بالطبع متأثرة بشدة بالفلسفة الفرنسية الحالية. كان عملي السابق يركز أكثر على العلاقة بين تاريخ العلوم والفلسفة السياسية، وإذا كان فوكو مرجعاً لي، فإن ذلك نتيجة للمنهج الأركو-جينولوجي الذي قدمه كطريقة للقيام بالفلسفة باستخدام منهج تاريخي. خلال عملي، قمت بعمل جزء من أطروحتي في الدكتوراه في جامعة بيزا في إيطاليا، حيث قابلت جورجيو جارجاني، الذي كان أحد كبار المشتغلين في فكر فتجنشتاين في إيطاليا. كان جورجيو جارجاني مؤلف كتاب (المعرفة بدون أسس)، حيث نظرنا هنا في تاريخ العلوم من خلال مفاهيم اليقين، ما قبل الإدراك ، و(أشكال الحياة) الموجودة في أعمال فيتجنشتاين. وفقًا للإيطالي، فإن الاستراتيجيات الأساسية للعلوم تعتمد على الإجراءات والعادات والأفعال اليومية التي لا تنتمي إلى العلاقة الإدراكية بين الموضوع والعالم الخارجي. هذه الفكرة ستقوده إلى فوكو، لأن بموجبها سيكون هناك نظام قبل معرفي ونظام قبل إدراكي أو نوع من الالتزام من الحس السليم، كما هو موضح في مفهوم (القواعد) عند فتجنشتاين. بالنسبة إلى فوكو، هناك شبكة من العلاقات بين الموضوعات والمؤسسات القانونية والدينية التي لها جذور عميقة في التاريخ، التي تحدد ممارسات الخطاب الصادق أو الكاذب. ترتبط فكرة (المعرفة) عند فوكو من ناحية بنيوية بنظام خطابي قبل معرفي، غير أنه نظام مرتب.
إذا نظرنا إلى هذه الفكرة، بلا شك، سنلحظ بأن فكرة فوكو عن الحقيقة بوصفها تاريخية، عملت على أن تنأى به عن التيار الرئيسي للفلسفة التحليلية، الذي يقر بدوره بأن هناك تاريخ من أنظمة الحقيقة ولكن الحقيقة في ذاتها ليست تاريخية. من الواضح بالنسبة لفوكو أن هناك تاريخًا راديكاليًا للحقيقة، ولكن هذا التاريخ لا يقود إلى نسبية تاريخية. سأزعم أن فكرة فتجنشتاين عن اليقين، وعن تحولاته، ستقودنا إلى فهم فكرة فوكو، وأعتقد أن هذا ما دفع جارجاني للعمل على فوكو وفتجنشتاين، وهذا ما دفعني للمضي قدمًا في العلاقة بين الرجلين.
بالطبع، هناك المزيد من الأسباب الواقعية من جانب فوكو التي تدعم العلاقة بين الفيلسوفين، فالفرنسي كان يستشهد بفتجنشتاين عدة مرات في أعماله، حتى ولو ضمنيًا، فضلًا عن ذكرة مباشرة في بعض الأحيان، ومثال ذلك هو مفاهيم لعبة اللغة التي يستخدمها فوكو في العلاقات في العمل السياسي. من الجدير بالذكر، أن في نهاية الستينات، كان ذكر فتجنشتاين من جانب فوكو غزيرًا. كان فوكو في عام 1968 في تونس أثناء عمله على كتاب (أركيولوجيا المعرفة)، وعندها قام بمقابلة صديقه القديم والمتخصص في الفكر الأمريكي جيرار ديلادالي، والذي قام بطرح أفكار جون ديوي وبيرس في فرنسا. قام فوكو بالنظر إلى كتاب صديقه (تاريخ الفلسفة الأمريكية)، المنشور في عام 1955. في وقت لاحق في تونس، كان ديلادالي مشتغلًا على وايتهد، وكان في مكتبته جميع الأعمال المنشورة لفتجنشتاين. يقول ديلادالي في رسالة إلى صديقه دانيال ديفرت، أن فوكو في تلك الفترة كان مهتمًا بشكل خاص بفتجنشتاين، وقام (فوكو) كذلك باستعارة كتاب فتجنشتاين (تحقيقات فلسفية) من مكتبته لدراسته.
هذه الشهادة من ديلادالي مهمة جدًا، لأنها أتت في الوقت الذي كان فوكو يعمل فيه على إعادة النظر في فلسفته. من الواضح أن انتماء فوكو للتيار البنيوي لا يناسبه، وإذا أخذنا بعين الاعتبار كتابه المنشور عام 1966 (الكلمات والأشياء)، فسنجد أن فوكو، بالنظر إلى منهج الكتاب، بعيد جدًا عن كونه بنيوي. في الحقيقة كان الأمر على العكس تمامًا، ففوكو أراد أن يقيم منهجه الأركيولوجي على المعارضة بين المنهج الظاهراتي والبنيوية. يعزى سبب وصف فوكو بالبنيوي، إلى جداله مع سارتر، هذا الأخير الذي وصفه (من باب العداء) بأنه بنيوي. فوكو كان يلعب دور المفكر البنيوي المتطرف في بنيويته، وكان ذلك بسبب أن عداءه مع سارتر كان جيدًا لصورته وساهم في نشر ونجاح كتبه. بالإضافة إلى هذا الجدال الظاهر بين فوكو وسارتر وما يثيره فوكو في الإعلام الفرنسي، كان الفرنسي يعيد النظر في أسلوبه الأركيولوجي القديم، لتقديم ملخص عن العمل المنجز، ولإلقاء نظرة على العمل الذي يتعين القيام به في المستقبل. تمخض عمله بنشر أعظم كتاب منهجي لميشيل فوكو وهو كتاب (أركيولوجيا المعرفة). في النسخة الأساسية المكتوبة بخط يد فوكو لهذا الكتاب، وهي محفوظة وموجودة في المكتبة الوطنية الفرنسية، تم تسطير بين دفتي هذه النسخة العديد من الأجزاء والتشديد عليها، يكتب فوكو إلى جانبها (كدليل على التأثر وقراءة فتجنشتاين) «للعمل مرة أخرى مع فتجنشتاين، يتوجب علي أن أعيد قراءة أوستن».
لقد قيل الكثير عن العلاقة بين أوستن وميشيل فوكو، وبالنظر إلى كتاب (أركيولوجيا المعرفة)، سنجد أن نظرية أوستن في أفعال الكلام كانت الملهمة لفوكو والأكثر أهمية في كتابه. كلا الفيلسوفين (فوكو وأوستن) مهتمان في الجانب العملي من الخطاب، ولا يبحثان عن جوهر ترنسدنتالي للغة أو ينظرون في نية المتكلم، بل يركزان على البنية القواعدية للغة بوصفها شرطًا للخطابات أو أفعال الكلام. لكن فوكو لا يتفق مع سياقية أوستن، وهي الفكرة التي تقول أن الجملة تُشحن بالمعنى من خلال السياق التي يتم قولها فيه. المنهج الأركيولوجي عند فوكو على الضد، ففوكو يهتم (بانضباط الأشياء بدون السياق)، بمعنى أن المسألة لا تتعلق بتفسير السياق الخارجي، وإنما بارتباط الجملة وعلاقتها وربطها بكافة الخطابات. يقدم فوكو بعدًا جديدًا في انتظام الخطاب، لم يكن في فكر أوستن، وهو البعد التاريخي. بالطبع، هناك بعد تاريخي في نظرية (أفعال الكلام) عند أوستن، وهو بطريقة معينة عبارة عن رواسب مستقرة تاريخيًا. الفكرة هي أن أوستن يتبع الأصل المتفق عليه بأن كل فعل كلام يتم تنفيذه هناك اتفاقات معينة نحتكم إليها من أجل حدوث هذا الفعل ويحقق الأثر، بينما الأمر مختلف على الجانب الآخر، فعند فوكو، ما يحكم الممارسات الاستطرادية ليست الأعراف والاتفاقات: القواعد راسخة في الممارسات، ومتجسدة ومكرسة في الخطاب. إمكانية الممارسات الخطابية لا تسبق انتظام الخطاب، وعند فتجنشتاين، القاعدة لا تخلق من إجماع الرأي، فالبشر «يتفقون في اللغة التي يستخدمونها»، وفي مكان آخر يقول: «هذا ليس اتفاقًا في الرأي، وإنّما هو شكل حياة». وكما سنرى في الأجزاء القادمة، هذا التفاهم لا يتم بشكل تقليدي، لأن اللغة عند فتجنشتاين لا تأتي بشكل منطقي أو سببي وإنّما من خلال طريقة عامة من التصرف. بالنظر إلى فوكو، سنجد أن سؤاله المركزي في الحقيقة هو: من أين تأتي انتظام الخطاب؟ وأجزم أن هذا نوع من السؤال مُستلهم لدى فوكو من فتجنشتاين (وألتوسير كذلك). يمكن للمرء القول أن فوكو قرأ أوستن بعيون فتجنشتاينية. لكن لماذا كان فتجنشتاين أكثر إلهامًا لميشيل فوكو من أوستن؟ للإجابة على هذا السؤال، يتعين على المرء أن يدرس بدقة مفهوم الفلسفة لدى كلا الفيلسوفين (فوكو وفتجنشتاين).
يُتبع في الجزء ثاني…
ترجمة: مروان محمود
مراجعة: مايكل ماهر
تدقيق لغوي: رنا السعدني
تصميم الصورة: نهى عبد السميع