فرجينيا وولف.. الكتابة عبر أصوات خيالية

3320744
فرجينيا وولف.. الكتابة عبر أصوات خيالية|فرجينيا وولف.. الكتابة عبر أصوات خيالية|فرجينيا وولف.. الكتابة عبر أصوات خيالية|فرجينيا وولف.. الكتابة عبر أصوات خيالية

في مارس من العام 1941، وفي آخر خطابٍ لأختها فانيسا، كتبت فرجينيا وولف:

«أشعر أنني ذهبت بعيدًا هذه المرة، ولن أتمكن من العودة مجددًا. فيبدو أن الأمر تمامًا كما كان في المرة الأولى، أسمع أصواتًا باستمرار، وأنا أعلم أنني لن أتغلب على هذا الآن، لقد حاربت ضده، لكنني لم أعد أستطيع ذلك».

في اليوم التالي، اتجهت إلى نهر أوس خلف منزلها، تملأ جيوب معطفها بالحجارة، لتنتحر غرقًا في النهر.(1)

منذ قرون من الزمن، كان يُعتقد أن سماع المرء لأصوات خيالية داخل رأسه علامة على التواصل مع الله، وإن لم يكن ذلك، فهو الشيطان إذن. بينما ارتبطت هذه الظاهرة حديثًا بالجنون، إلا أن مفهوم الأصوات الخيالية يعتبر مفهوم أدبي للغاية أيضًا. إذ يمكن أن يكون الأدب الخيالي تجريبيًا في المجال العلمي والفني، أي أنه وسيلة لدراسة دور الصوت الخيالي في التفكير المعتاد للمرء، بجانب حالات الإبداع. ويمكن أن يختبر المؤلفين هذه الأصوات الداخلية على أنها (هلوسة لفظية سمعية).

وعلى ما  يبدو أن سماع الأصوات التي ليس لها مصدر هو سمة مشتركة في حياتنا جميعًا، بالإضافة لكونه جانبًا من جوانب التجربة الخاصة في اكتساب البصيرة، أو الحالات الإبداعية أو النفسية الخاصة. وربما يشمل ذلك فقدان شخص عزيز يريحه سماع صوته، أو متسلق جبال يسمع أصواتًا بجانبه تؤنس وحدته، أو طفلًا يتحدث إلى أصدقاء خياليين، أو رياضيًا يركّز اهتمامه على تحفيز نفسه. (2)

فرجينيا وولف.. الكتابة عبر أصوات خيالية
فرجينيا وولف

الكتابة عبر أصوات خيالية

بالنسبة للروائي (ديفيد ميتشل)، فإن كتابة الرواية «هي نوع من اضطراب الشخصية الذي يمكن التحكم به، ولتنجح في هذا يجب أن تركز على الأصوات داخل رأسك، وتجعلهم يتحدثون مع بعضهم البعض».

إن استدعاء أصوات بمثل هذه الكثافة، تعيش في رأسك لسنوات، من شأنه أن يسبب لنا اضطرابًا في شخصياتنا، على أقل تقدير. ولكن يختلف الأمر بالنسبة للروائيين، فهم يتحكمون في الاستيعاب أو الانفصال الإبداعي عن الواقع. فهم يُسخّرون قوة الأصوات الداخلية لخلق شخصياتٍ وهمية، تتشابك أفكارها ومشاعرها مع أفكار القراء الحقيقيين. يلعب الروائي على التمييز بين الواقع والخيال، بدون أن تتحول الأصوات الداخلية إلى هلوسة لا يمكن التحكم بها.

وكانت واحدة من أشهر الحالات الموثقة في سماع الأصوات الخيالية من الروائيين، هي الكاتبة الإنجليزية (فرجينيا وولف)، والذي يتضح ذلك خلال خطاباتها، ومذكراتها، وأحاديثها، وذكرياتها، ومقالاتها، ورواياتها. في روايتها (السيدة دالواي)، تخيلت فرجينيا وولف سماع الأصوات الذهاني، والتي ربطته نفسها بالتجارب والخبرات العنيفة وبالفقد، كالاعتداء الجنسي في الطفولة، والتنمر، والوفاة المبكرة لأحد الآباء أو الأشقاء. لكنها تصف تجربتها من خلال محارب قديم، (سيبتيموس سميث)، وتدور أحداث الرواية في العام 1922، وهو العام الذي نُشر فيه تقرير الحكومة البريطانية الرسمي الأول عن (صَدْمَةُ القَصْف – shell shock).

تتفاقم عدم قدرة (سيبتيموس) على توصيل ذكرياته، وشعوره بالرعب من قبل «منتهكي الروح»، وهو المصطلح الذي أطلقه على أطبائه، مع انشغالهم بالأكل والراحة، ورفضهم للاستماع لرسالته.

لا ينصت الأطباء لما تحاول الأصوات قوله، لذا ينتحر (سيبتيموس) في النهاية. وحدث انتحار (فرجينيا وولف) نفسه في عام 1941، عندما اقتنعت بأنها لم تعد قادرة على الكتابة وبالتالي توصيل رسالتها الخاصة، وتركت مذكرة انتحار إلى أختها موضحةً أن الأصوات قد عادت، ولكن لأنها لم تعد قابلة للتواصل، لم تعد تحت سيطرتها.

شبّهت (وولف) هشاشة الكتابة بالجنون، المشي في العراء، مكشوفًا بدون حماية، على حافة مضيئة فوق بحر من الظلمات والمجهول. لكنها شعرت أيضًا بروحانية هذه الأصوات داخل رأسها، مستحضرةً إمكانية وجود إطار تفسيري جديد، رسالة من شأنها أن تسمح باستعادة معنى الحياة.

كما تقدم الروايات نظرة متفحصة على هذه الأصوات، فبالمثل تفعل بعض نظريات الرواية المعنية بفهم الصوت الخيالي. بعد قراءة (دوستويفسكي)، طوّر الفيلسوف (ميخائيل باختين) مفهومه (التعبير المزدوج)، حيث يشرك المؤلف صوتًا آخرًا في الحوار، يحافظ على نواياه وموقعه في هذا العالم.

كما صورت (فرجينيا وولف) تدفق الحوار الداخلي للسيدة (رامزي) في روايتها (إلى الفنار) على سبيل المثال، فهي تنزعج على الفور من أي صوت غريب ينادي نحن بين أيدي الرب. حيث يذكرنا الخيال كيف تتشابك النفس البشرية مع العالم.

ومثل (باختين)، بدأ افتتان (وولف) باحتمالية أن تنير الروايات طبيعة الأصوات الداخلية بقراءتها ل(دوستويفسكي). فلقد أدركت أنه في الحياة، كما في الخيال، تؤثرالأصوات علينا بطرق متنوعة. فربما كانوا مثل المستأجرين أو الغرباء الذين قد يطيلوا الضيافة، وجلسوا ليتحدثوا معًا، أو كانوا ضيوفًا يرفضون المغادرة، ويهددون المضيف. فهم يذكروننا، كما فكرت (كلاريسا دالواي) في نفسها، بأن العيش -ولو للحظة- أمر خطير. (3)

فرجينيا وولف.. الكتابة عبر أصوات خيالية
إلى الفنار

الموت هو التحدي

جاءت شخصية (كلاريسا دالواي) من قدرة (فرجينيا وولف) على فهم ووصف المشهد بدقة، فكان المقصد من هذه الشخصية أن تُظهِر الكثير من وجهات النظر السطحية التي كانت تحملها( فرجينيا وولف) كامرأة شابة. لأنها ترعرت وكبرت كأحد الأثرياء المدلّلين، فلا داعي أن تقلق بشأن أشياء مزعجة مثل الاكتئاب الهوسي أو صَدْمَةُ القَصْف. ومع ذلك، لم تكن (كلاريسا) منيعة ضد الاختلال العقلي؛ فتتساءل طوال الرواية عما إذا كانت سعيدة حقًا بحياتها.

ومثل تمزق (سيبتيموس) بين الحرب والمجتمع المتحضر، تتمزق (كلاريسا) بين وجهتين حول كيفية تطور حياتها. فمن جهة، كان يمكن أن تتزوج (بيتر والش)؛ وربما كانت لتسعد جدًا به في حياتها. ولكن من جهة أخرى، هي متزوجة من (ريتشارد دالواي)، وهو لا يتحلى بالعمق أو بنفاذ البصيرة مثل (بيتر)، ولكنه يمثل شبكة الأمان التي تشعر (كلاريسا) أنها جذابة بما يكفي. وفي كلتا الحالتين، ترى أن نتائج حياتها في نهاية المطاف ستكون مثل المرأة العجوز التي تسكن في المنزل المقابل لها.

ومع أن (كلاريسا) تعاني من آلام بسيطة مثل الصداع والقلق، والتشكيك في الغرض الحقيقي من حياتها، إلا أن مرضها العقلي الحقيقي ليس جزءًا فطريًا من ذاتها. وبالنسبة لها، أصبح الموت تحديًا.

«كان الموت تحديًا، كان الموت محاولة للتواصل، والناس يشعرون باستحالة الوصول إلى المركز الذي يراوغهم على نحو صوفي، التقارب يتباعد، الوجه يذوي، المرء وحيدًا. ثمة عناق في الموت».

هنا أثر عليها موت الشاب، وقد توصلت للاستنتاج النهائي جراء انتحاره، فدائمًا ما تسائلت هل اتخذت القرار الصحيح عندما تزوجت، لتدرك في نهاية المطاف أن هذا الاختيار لا يهم. فهي وحدها في هذا العالم، وأدركت كم الغرور الذي خلقته طوال حياتها من خلال الحفلات والمظاهر. وبعد هذا الإدراك، أصبحت لا تخاف حرارة الشمس بعد الآن.

وفي النهاية، من خلال وصولها للتحدي في مواجهة الموت، تعرض (وولف) نظرتها الخاصة لمعنى الحياة، وكذلك الدور الذي يلعبه الموت. لتدرك في نهاية المطاف أنها وحدها في العالم، وقد حاولت طوال حياتها الصراع مع هذا المفهوم. وقبيل نهاية حياتها، تقبلته أخيرًا، عن طريق تدوينه في رواياتها.

فرجينيا وولف.. الكتابة عبر أصوات خيالية
السيدة دالواي

ففي رواية (السيدة دالواي)، وصفت (فرجينيا وولف) هوسها الاكتئابي، وفوضى زواجها في شخصيات الرواية. ومع كل هذا، وفي نهاية المطاف، كان هدف (وولف) هو إضفاء معنى على حياتها، وعلى الكفاح الذي تحملته طوال تلك المدة.

لتجد هذا المعنى وتلمح إليه في نهاية الرواية: الموت هو التحدي. أن تتقبل نفسك أخيرًا وسط كل شيء، أن تتقبل حياتك، والمسار الذي اتخذته فيها. أن تتقبل الموت بصدر رحب. (4)

 

 

المصادر:

1. Waugh P. Hilary Mantel and Virginia Woolf on the sounds in writers’ minds. The Guardian [Internet]. 2014 Aug 21 [cited 2019 Apr 8]; Available from: https://www.theguardian.com/books/2014/aug/21/hilary-mantel-virginia-woolf-inner-voices

2. Waugh P. It’s important to listen to imaginary voices – just ask Virginia Woolf [Internet]. The Conversation. [cited 2019 Apr 8]. Available from: http://theconversation.com/its-important-to-listen-to-imaginary-voices-just-ask-virginia-woolf-71522

3. Waugh P. The novelist as voice hearer. The Lancet [Internet]. 2015 Dec 5 [cited 2019 Apr 8];386(10010):e54–5. Available from: https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(15)01118-6/abstract

4. A Biographical Analysis of Virginia Woolf: The Impact of Mental Illness in Woolf’s Life, Marriage, and Literature [Internet]. Owlcation. [cited 2019 Apr 8]. Available from: https://owlcation.com/humanities/A-Biographical-Analysis-of-Virginia-Woolf-The-Influence-of-Mental-Illness-on-a-Stable-Marriage

إعداد: محمد يوسف
مراجعة علمية: سلمى عياد
تدقيق لغوي: رنا السعدني 
تحرير: نسمة محمود

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي