صراع الرأسمالية والديمقراطية
منذ ظهور الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية، نشأ توتر متأصل بين الرأسمالية والسياسة الديمقراطية، فالرأسمالية تقوم على تخصيص الموارد من خلال الأسواق، في حين أن الديمقراطية تخصص السلطة من خلال الأصوات. كان الاقتصاديون على وجه الخصوص هم الأبطأ في قبول وجود هذا التوتر، فكانوا يميلون إلى النظر إلى الأسواق على أنها مجال خارج المجال السياسي كما ينظرون للسياسة كشيء يعوق قدرة السوق على تحقيق نظام ضبط ذاتي. ومع ذلك فإن الطريقة التي تتماشي بها السياسة الديمقراطية والرأسمالية معًا تحدد شكل العالم اليوم، فالسياسة ليست عائق يعترض طريق الأسواق.
هذا الصراع بين الديمقراطية والرأسمالية شُكل من خلاله اقتصاد العالم، في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية عملت الديمقراطية على وضع القوانين وتقييد اقتصاد السوق بوضعها قوانين حماية العمالة والحد من القواعد المالية ودعم أنظمة الرفاهية. لكن في سبعينيات القرن الماضي ومع عولمة الرأسمالية وتحررها وتخلصها من القومية استطاعت العودة إلى اللعبة مرة أخرى. واليوم نرى نفوذ الرأسماليين على الحكومات الديمقراطية وقدرتهم على وضع القوانين والضغط على هذه الحكومات، ومع هيمنة الرأسمالية ظهرت سلبياتها على المواطنين فزادت فجوة عدم المساواة وتقلصت الأجورالحقيقية مما أدى إلى لجوء المواطنين إلى السلطات عندما شعروا بأنهم ضحايا للأسواق وهو ما نتج عنه صعود سياسيين أمثال دونالد ترامب وبيرني ساندرز.
الرأسمالية: تاريخ قصير
يروي المؤرخ الألماني يورجن كوكا قصة الرأسمالية في كتابه «الرأسمالية: تاريخ قصير» فهو يوضح تاريخ الرأسمالية بداية من نشأتها في طرق التجارة الطويلة في بلاد ما بين النهرين وصولًا إلى الأزمة المالية عام (2008). ويرى يورجن كوكا أن الرأسمالية هي مفهوم أساسي لفهم الحداثة والأهم من ذلك أنها مجموعة من المؤسسات التي تحمي حقوق الملكية ورأس المال ودعم استخدام الأسواق كما أنها مجموعة من المبادئ والأفكار. وتعريف يورجن كوكا للرأسمالية أتاح له رؤية نمو مراحلها الأولية بين تجار بلاد ما بين النهرين وعلى طول طريق الحرير بقارة آسيا، وبحلول القرن الحادي عشر ظهرت التجارة الرأسمالية البرجوازية فى شبه الجزيرة العربية والصين ثم في أوروبا لاحقًا.
بين القرن الثاني عشر والخامس عشر أنشأ التجار مؤسسات تعاونية أدت إلى تقسيم أكبر للمخاطر مما أدى إلي تراكم رأس المال. ويرى كوكا أن هذا أدى إلى تكوين مشاريع لها شخصية قانونية مستقلة بالإضافة إلى إنشاء أسواق رأس المال البدائية، وأخيرًا البنوك التي ارتبطت ثرواتها ارتباطًا قويًا بنهضة الدول الحديثة من خلال إدارة ديونها.
هذا التحالف بين الرأسمالية والدول الناشئة أدى إلى عصر الاستعمار حيث بدأت حملة التوسع الأوربي من خلال التجار ورواد الأعمال والغزاة وذلك بدعم كبير من الدول القوية، عن طريق التجارة الثلاثية حيث يحضر التجار الأوروبيون البضائع إلى إفريقيا مقابل العبيد، ثم يقايضون العبيد مقابل العمل في حقول السكر والقطن في العالم الجديد. ساعدت هذه العملية على ترسيخ الرأسمالية في أوروبا أكثر من الشرق الأوسط والصين، فحجم الاستثمارات الهائلة أدى إلى تكون ما يسمى الشركات المساهمة وبداية عصر «الرأسمالية المالية» وافتتاح أسواق تداول أوراق مالية في كل من أنتوير عام (1531) وأمستردام عام (1611).
ومع أن الأرباح التي حصل عليها الرأسماليون الأوروبيون جاءت من أنشطة ضد الليبرالية، فإن يورجن كوكا يشير إلى أن «الرأسمالية… تحتوى على القليل من مقاومة الممارسات اللاإنسانية». وعلى المدى البعيد وضعت الرأسمالية أسس الديمقراطية؛ بسبب الثروات التي تولدت من ورائها، والإمكانيات التي أتت بمؤسساتها الجديدة فعطلت النقابات وساعدت المدن الجديدة على التوسع وهو ما أدى إلى تطور التصنيع في القرن التاسع عشر وإلى الرأسمالية الإدارية في القرن العشرين.
المصدر:
https://www.foreignaffairs.com/reviews/review-essay/2016-06-13/capitalism-crisis
ترجمة: سامح شعبان منصور
مراجعة علميّة: شيرين صبيح
مراجعة لغوية: حمزة مطالقة