قراءة في أسلوب الرافعي

الأدب-العربي

قراءة في أسلوب الرافعي|قراءة في أسلوب الرافعي

    نشأ (مصطفى صادق الرافعي) نشأة علمية أدبية؛ إذ حفظ القرآن وهو دون العـاشرة، ثم أخذ عن أبيه علمًا كثيرًا في الفقه والحديث والأصول وغيرها من العلوم الدينية.

   ولم يكتف الرافعي بما حصل عن أبيه شفاهًا، بل عكف على مكتبته يعب من نهرها المتدفق ما وسعه ذلك، ثم أدمن النظر كذلك في مكتبة (الشيخ القصبي) ومكتبة (الجامع الأحمدي) في طنطا، وكانت له جولات مع كتب الحديث والأدب شعرًا ونثرًا، حتى لقد حفظ كتاب نهج البلاغة (للإمام علي بن أبي طالب) وهو دون العشرين، حفظه في القطار بين طنطا وطلخا ذاهبًا إلى وظيفته وآيبًا منها.
وكان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة. (1)

   وهكذا نرى أن الرافعي يتكئ في ثقافته على التراث العربي الإسلامي، وأنه إلى ذلك أحاط خبرًا بما لدى الآخرين، ولكنها الإحاطة التي لا تفضي إلى الذوبان والتبعية، وإنما هي الإحاطة التي تمنح العقل قوة وطاقة وعافية يعود بها إلى تراثه أوفر ما يكون نشاطًا، وأحدَّ ما يكون بصيرة. (2)

قراءة في أسلوب الرافعي

   ومن خلال هذه البنية الثقافية نستطيع أن نتلمس المؤثرات في أسلوبه ولغته،
فأول ذلك كتاب الله عز وجل وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. وأدل شيء على تأثير لغة الكتاب العزيز والحديث الشريف على لغته ما ذكره كاتب في مجلة أمريكية من أن الرافعي لو ترك ( الجملة القرآنية ) والحديث الشريف ونزع إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليه و لملأ الدهر. (3)

   وثاني هذه المؤثرات ما حفظه من تراث العرب، وبيان فصحائهم، وقد سبق أن ذكرنا حفظه لنهج البلاغة وفصول من كتاب المخصص لـ (ابن سيده)، وكثرة قراءته في كتب (الجاحظ) و(ابن المقفع) و(أبي الفرج)، وقد قال ابن خلدون (رحمه الله) : « وعلى قدر جودة المحفوظ، وطبقته في جنسه، وكثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ … ثم تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما… لأن الطبع إنما ينسج على منوالها » (4)

   وثمة مؤثر ثالث هو قراءته الواسعة في شتى فنون الثقافة الإسلامية، ونحن نعلم أن لغة كثير من المصنفين من فقهاء أو محدِّثين أو مؤرخين أو غيرهم لم تكن محل ثقة عند ناقدي الاستعمال اللغوي، وحسبك أن (الأصمعي) قد خطأ (سيبويه) و(أبا عبيدة) و(الأخفش). وقد ظهرت في كتابة الرافعي أساليب تأثر فيها بلغة هؤلاء المصنفين.

   أما رابع المؤثرات فهو ما ولع به الرافعي من النظر في الكتب المترجمة؛ فقد ( تسللت إليه بعض عبارات التراجمة ، واستعملها من غير أن يفطن إلى ما وراءها، على الرغم من شدة حساسيته ) ، وصارت جملته من أجل ذلك في نظر البعض (تشبه الجملة المترجمة أحيانا لفرط تحررها من الأنماط القديمة) (2)، وأحسب أنه تأثر كذلك بما كان يقرؤه من الفرنسية مباشرة.

 

مذهبه في الكتابة

   تحكم مذهب الرافعي في الكتابة أصول نظرية آمن بها واتخذها نبراسًا، ثم بنى عليها فنه وأدبه. ولعلي أشير هنا إلى نصوص من أقواله ترسم لنا ملامح هذه الأصول:

  • «إن كلمةً قرأتها لـ ( فكتورهوجو – Victor Hugo) كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي، قال لي الأستاذ ( فرح أنطون ) مرة: «إن لهوجو تعبيرًا جميلًا يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب وهو قوله يصف السماء ذات صباح»:            « وأصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل ». وأعجبتني بساطة التعبير وسهولة المعنى؛ فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء ». (1)
  • « لعل غموض بعض الفلاسفة وبعض الشعراء هو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة ». (5)
  • « إن مذاهب العرب واسعة، ولنا ما لهم من التصرف في الاستعمال إذا لم نخرج عن قاعدتهم، وقد يزيد الإنسان حرفًا لاستقامة الأسلوب، وإن خالف نقل اللغةِ، كما يزيد العرب ويحذفون من أمثال ذلك، وهو كثير في كلامهم، والقرآن أبلغ شاهد عليـه، فدعنا من هذا ومثله، وأعتقد أن مذاهب العرب ليست بالضيق الذي يتصورونه ». (6)
  • « لا قيمة لكاتب لا يضع في اللغة أوضاعًا جديدة ». (3)
  • « لا نقول: هذه العربية كاملة في مفرداتها، ولا إنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها ».
  • « إن القول بأن هذه فصيحة، وهذه مولَّدة قد مضى زمنه؛ فإنما الباعث عليه قرب عهد الرواة من فصحاء العرب في الصدر الأول، ثم تقليد علماء اللغة المتأخرين لأولئك الرواة تحقيقًا بشروط هذا العلم الذي يحملونه… إذا كنا في كل كلمة نقول: نص (الجوهري)، و(ابن مكرم) و(المجد)، وفلان وفلان، ونغفل عما وراء ذلك مما تنص عليه طبيعة اللغة من أوزانها وقواعدها، وطرق الوضع والاستعمال فيها؛ فما نحن بأهل هذه اللغة، ولا بالقائمين عليها، ولا هي لغة عصرنا ».
  • « إن الخاصية في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها، ولكـن في تركيب ألفاظـها ». (2)
  • « الكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها، ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع وتخرج عليها طابعه هو ». (5)
  • « ما أرى أحدًا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكمًا نافذًا بالأشغال الشاقة الأدبية كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية ». (6)
  • « يريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كَدَّ الصناعة؛ لتكون خاتمة عجائبنا في هذا الجيل صناعة بلا كدٍّ ». (3)
  • « ولقد ذكروا أن ( أناتول فرانس – Anatole France) كان من التوفر على التنقيح، والتلوم على السبـك، والحوك في كتابته وأسلوبه بحيث يكتب الجملة الواحدة مرة إلى مرتين إلى سبع مرات أو ثمان، ينقح في كل ذلك ويهذب ويتعمل، فهذا عندهم طلق مباح، ولكنّ بعضه عندنا وإن جاء بالمعجزات يكفي لأن يقلب المعجزة إلى حيلة وشعوذة ». (3)
  • « إن مدار العبارات كلها على التخيل وتصوير الحقائق بألوان خيالية لتكون أوقع في النفس، ومن هنا كان الذين لا معرفة لهم بفنون المجاز أو لا ميل لهم إلى الشعر لا يميلون إلى كتابتي، ولا يفهمون منها حق الفهم، مع أن المجاز هو حِلْية كل لغة وخاصة العربية، ولا أعد الكاتب كاتبًا حتى يبرع فيه، وهذا الذي جعلني أُكثر منه مع أنه متعب جدًا ».
  • « وما المجازات والاستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية ». (5)

إن هذه النصوص ترسم ملامح المذهب الكتابي الذي يرتضيه الرافعي، وهو مذهب يقوم على الأصول التالية:

1ـ  بساطة التعبير ووضوح المعنى.

2ـ  التوسعُ في مذاهب العربية، وعدم الاقتصار على تقليد أساليب الأوائل، والتجديدُ الدائمُ في ألفاظها وأساليبها، على أن يكون ذلك وفق طبيعة اللغة وأوزانها وقواعدها.

3ـ  العناية بالتراكيب أكثر من العناية بالألفاظ، ومراعاة تناسبها وموسيقاها.

4ـ  تميز الأديب في أسلوبه، وأن تكون عباراته عليها طابعه هو.

5ـ  الكدّ والاجتهاد في الكتابة، ومعاودة النظر والتنقيح، وإنكار مذهب السهولة والاسترسال فيها .

6ـ  الاحتفال بالمجاز والعناية به .

وكل هذه الملامح ظاهرة فيما كتب الرافعي إلا ما ذكره من بساطة التعبير ووضوح المعنى، فإن هذا لا يسلَّم له في كل ما جاء به، فقد كان الرافعي نتيجة لتتبعه دقائق المعاني وإغراقه في المجاز، وتوليده المعنى من المعنى، والفكرة من الفكرة، يغرق أحيانًا في الغموض حتى لا تكاد تدرك مراده ومبتغاه، وقد تنبه الأدباء لمثل هذا الغموض في أسلوبـه.

إعداد: نهى محمود عبد السميع
مراجعة وتحرير: آلاء مرزوق

المصادر:

1- محمد, سعيد العريان. حياة الرافعي. الطبعة الثالثة. مصر: المكتبة التجارية الكبرى, د.ت.
2- نعمان البدري, مصطفى. الرافعي الكاتب بين المحافظة والتجديد. الطبعة الأولى. بيروت: دار الجيل, د.ت.
3- مصطفى صادق الرافعي. تحت راية القرآن. الطبعة السابعة., د.ت.
4- ابن خلدون. مقدمة ابن خلدون. 5 1, د.ت.
5- مصطفى صادق الرافعي. من وحي القلم. 3 3, د.ت.
6- صادق الرافعي, مصطفى. رسائل الرافعي, د.ت.

شارك المقال:

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي