قرد البابون وبلاد البونت

ccelebrities1372994-772x385

ما بين مصر وبلاد بونت

شهد البحر الأحمر أحداثًا مهمّةً خلال تاريخ البشريّة بما في ذلك الخطوات الأولى المتعلّقة بتلك الشّبكة التّجاريّة الكبرى في العالم القديم الّتي عُرفت بـ«طريق التّوابل»، والّتي كان من شأنها تشكيل الثّروات الجيوسياسيّة لتلك التّجارة لآلاف السّنين. وكانت بلاد البونت القديمة عقدةً محوريّةً في معرفة حدود هذه الطّرق ومعالمها الدّقيقة، نظرًا لعدم تحديد موقعها بشكلٍ أدقّ حتّى اليوم. فقد كانت تلك البلاد بمثابة مركزٍ تجاريٍّ مهمٍّ جدًّا للسّلع الفاخرة في ذلك الوقت[2].

ومنذ آلاف السنين، كانت بلاد بونت شريكًا تجاريًّا هامًّا ومميّزًا لمصر، حيث كانت مصدرًا لتجارة العاج والأخشاب والذّهب، حسب ما سجّلته لنا النّصوص المصريّة القديمة، إلّا أنّ تلك النّصوص لم تُشِرْ بشكلٍ دقيقٍ إلى موضعها الجغرافيّ[6]. وتوضّح النّصوص المصريّة القديمة أنّ بلاد البونت كانت تقع في مكانٍ ما جنوب شرق مصر، وهو مكانٌ يمكن الوصول إليه عن طريق البرّ أو البحر. ولكن لسوء الحظّ، هناك منطقةٌ كبيرةٌ جدًّا ينطبق عليها هذا الوصف الجغرافيّ بدءًا من شبه الجزيرة العربيّة، مرورًا بشمال شرق الصّومال وجنوب السّودان وشمال إثيوبيا وإرتريا. وحتّى يومنا هذا، لا أحد يعرف مكان بلاد البونت بالتّحديد[1].

قرد البابون في النقوش المصرية القديمة.
قرد البابون في النقوش المصرية القديمة.

كانت العلاقة التّجاريّة بين مصر والبونت رائدةً جدًّا، لدرجة أنّ بعض المؤرّخين اعتبرها بداية العولمة الاقتصاديّة. وعلى الرّغم من أنّنا نعلم من خلال علم الآثار أنّ التّجارة لمسافاتٍ طويلةٍ كانت تحدث منذ عشرات الآلاف من السّنين، وأنّ المسافة من مصر إلى إريتريا قد تبدو، في نظر الكثيرين، رحلةً متواضعةً، لكنّ بعض المؤرّخين تساءلوا عمّا إذا كانت السّفن المصريّة المطوّرة للإبحار في النّيل قد قطعت إلى هذا الحدّ في البحر الأحمر.

تمثال لقرد البابون.
تمثال لقرد البابون.

بداية التفكير في الدراسة

أدرك ناثانيال دوميني (Nathaniel Dominy)، عالم الأحياء الأوّليّة في كليّة دارتموث في نيو هامبشاير، احتمال وجود طريقةٍ لتضييق نطاق الكشف عن موقع بلاد البونت بمساعدة البحث في مومياوات قرد البابون، وقد شارك في هذه الدّراسة بجانب دوميني: سليمة إكرام، من قسم الاجتماع وعلم المصريّات بالجامعة الأميريكيّة بالقاهرة، وجيليان مورِتز (Gillian Moritz)، من مركز جيوكيمياء النّظائر في مختبر لورنس بيركلي الوطنيّ بالولايات المتّحدة، وباتريك ويتلي (Patrick Wheatley)، من قسم الجغرافيا في كليّة دارتمَوث، وجون كريستنسن (John Christensen)، من قسم اﻷرض وعلوم الكواكب في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتّحدة[2].

قرد البابون ورمزيته في مصر

لم تكن مصر هي الموطن الأصليّ لقرود البابون بل استوردها المصريّون القدماء وحنّطوها داخل براميل عاشت لمدّة قرونٍ. وانتشر كثيرٌ من مومياوات وتماثيل قرود البابون في المقابر وعلى المعابد. ووصف المصريّون القدماء استيراد هذه القرود من بلاد بونت، وهذا يعني أنّه إذا أمكن تحديد موطن قردة البابون، فسوف يساعد هذا دوميني وزملاءه في تحديد موضع بلاد البونت[1].

هذا وتعتبر النّقوش الموجودة على أهرامات ساحورع أوّل تصويرٍ لبعثةٍ استكشافيّةٍ إلى بلاد بونت، ويعود تاريخها إلى 2480 ق.م. وفيها تظهر صور قرد البابون كإحدى الواردات التّجاريّة من تلك البلاد[5]. وعلى هذا النّحو، فقد قطع المصريّون القدماء مسافاتٍ طويلةً للحصول على قرود البابون الحيّة. وفي الواقع كانت هذه التّجارة هي أوّل عمليّة استيرادٍ مسجّلةٍ للحيوانات الأجنبيّة في تاريخ البشريّة. وأظهرت لنا بعض الأعمال الفنّيّة المصريّة نقل هذه الحيوانات إلى مصر على متن قوارب غالبًا، وأحيانًا عن طريق البرّ[4]. ويعتقد القائمون على الدّراسة أنّ هذه القرود كانت تعيش بالقرب من النّاس أو حولهم، وربّما كانت حيواناتٍ أليفةً مَلَكيّةً أو كانت تُستخدم لقطف الفواكه، أو حتّى استُخدِمت كحيوانات شرطةٍ. فكما لاحظ الباحثون، أنّ عضّةً واحدةً من هذه القرود بإمكانها أن تقطع عضلة الفخذ حتّى العظم[4].

قرد البابون في مصر القديمة.
قرد البابون في مصر القديمة.

انتشرت قرود البابون خلال العصر البرونزيّ الوسيط في بلاد الشّام وعبر البحر الأبيض المتوسّط. ولكنّ لقرد البابون عند المصريّ القديم قيمةً أعلى وأرقى، ممّا جعل فناني مصر القديمة يستخدمون قرد البابون بشكلٍ أكثر هيبةٍ أو قدسيّةٍ. وربّما كانت لذلك دلالتان، أولاهما أنّ الفنّانين المصريّين القدماء كانوا مهتمّين بالواقعيّة على مستوى التّصوير، وثانيتهما أنّهم كانوا أنفسهم شهودًا على متابعة الحيوانات وتصويرها في أعمالهم[2].

كان البابون المقدّس فكرةً متكرّرةً في الفنّ والدّين عند المصريّ القديم، خلال تماثيل ما قبل الأسرات، ثمّ التّطوّر إلى التّقاليد الجنائزيّة في عصورٍ لاحقةٍ، بما في ذلك اللّوحات الجداريّة والنّقوش والتّمائم والتّماثيل. وظلّ قرد البابون رمزًا مقدّسًا تجاوز عمره حوالي 3 آلاف عامٍ. وفي معظم الحالات كان البابون تجسيدًا للمعبود «تحوت»، وهو إله القمر والحكمة عند المصريّ القديم. ويعتبر هذا التّمثيل الدّينيّ مثالًا نادرًا لاستخدام الحيوانات في التّأليه والتّعبّد. وتجسّد هذا الشّكل الدّينيّ بتصوير الإله تحوت في وضعيّة قرد البابون جالسًا ويداه على ركبتيه ويعلوه، غالبًا، قرصٌ قمريٌّ أو هلالٌ[2].

احتفظ المصريّون القدماء بنوعين من قرد البابون كحيواناتٍ مقدّسةٍ وهما: بابيو همادرياس (Papio Hamadryas)، وهو الأكثر تبجيلًا لديهم، وهو المرتبط بالإله تحوت، وبابيو أنوبيس (Papio Anubis)، وكان له أيضًا تقديرٌ عندهم بشكلٍ ليس بقليلٍ. ولكنّ الأمر لم ينته عند مجرّد التّبجيل، فقد تجاوزت عبادة الإله تحوت إلى أكثر من مجرّد ذلك التّصوير. فقد كان جحوير أوّل إلهٍ قردٍ، وأحد أقدم الآلهة المصريّة المعروفة في التاريخ القديم. وكان يُعتقد أنّ بابي هو ابن أوزوريس الّذي يتربّص بالموتى في العالم السّفليّ ويهدّد بأكل أرواحهم المذنبة، ومعه حابي الّذي استُخدم في الأواني الكانوبيّة ويحمل رئتي الشّخص الّذي تمّ تحنيطه. وقرد البابون هو الحيوان الوحيد في مصر، الّذي استورِد من مكانٍ آخر (حسب التّكهّنات الأثريّة) [5].

خريطة جزيئية

لتتبّع أصول قرد البابون، اعتنى دوميني وزملاؤه بدراسة مستويات الاختلافات الخاصّة بعنصري السّترونتيوم والأكسجين، الموجودين في أنسجة الحيوانات، الّتي تقودهم إلى معرفة الاختلافات الجُزيئيّة، المسمّاة بالنّظائر، الخاصّة بالتّربة والماء الّتي اعتاشت عليها هذه الحيوانات، وهي تختلف من مكانٍ إلى آخر. وتوغّل العلماء القائمين على العمل في دراسة أجساد قرد البابون لمعرفة نوع الطّعام الّذي أكله والماء الّذي شربه، لمحاولة الوصول إلى نتائج جيّدةٍ[1]. فعندما يتآكل السّترونتيوم، تُمتصّ تركيبته في التّربة والماء ويدخل في شبكة الغذاء. وعندما تشرب الحيوانات وتأكل النّباتات، تعكس أسنانها وأنسجتها المكان الّذي عاشت فيه[3].

حفريات قرد البابون.
حفريات قرد البابون.

 

توزيع جغرافي لأنواع مختلفة من القرود.
توزيع جغرافي لأنواع مختلفة من القرود.

يمكن أن يحتوي الطّعام الّذي نأكله والماء الّذي نشربه على نسبةٍ من النّظائر الخاصّة بالمنطقة الّتي يأتي منها، والّتي تصبح، حرفيًّا، مدمجة في عظامنا. ولكن اليوم، يطمس الطّعام الّذي يُشحن من جميع أنحاء العالم هذه الصّورة. أمّا في العصور القديمة فكان الأمر مختلفًا[6]. والسّترونتيوم هو عنصرٌ كيميائيٌّ يمكن أن يعمل كبصمةٍ جغرافيّةٍ، فعندما يدخل هذا العنصر في السّلسلة الغذائيّة يمكن أن يساعد في تعقّب تاريخ حياة الحيوانات الحاليّة والسابقة، وعلى وجه الخصوص يمكن أن تكشف جزيئات السّترونتيوم الموجودة في مينا الأسنان عن مكان ولادة الحيوان. وأيضًا، يمكن أن يعطينا نفس العنصر، إذا كان في العظام والشّعر، مدلولًا عن الأماكن الّتي عاش فيها الحيوان قبل الموت مباشرةً، بأشهرٍ قليلةٍ. وقد تحمل هذه التّحليلات معًا مفتاحًا للألغاز الأثريّة، مثل موقع بلاد بونت الّتي ظلّ القدماء المصريّون يحترمونها وتربطهم بها علاقاتٌ تجاريّةٌ على مستوياتٍ كبيرةٍ[2]. فبما أنّ مينا الأسنان تتشكّل خلال الثّلاث سنواتٍ الأولى من حياة قرد البابون، يفيد الكشف عن عناصر الاكسجين والسّترونتيوم الموجودة في مينا الأسنان في معرفة مكان ولادة قرد البابون. وأيضًا يحتفظ الشّعر بسجلّ الأشهر القليلة الأخيرة من حياة الحيوان[1].

قرد البابون تحت الأشعة.
قرد البابون تحت الأشعة.

في البداية، حلّل الباحثون مستويات السّترونتيوم والأكسجين في عدد 155 قردًا حديثًا في 77 موقعًا مختلفًا لتكوين خريطةٍ جزيئيّةٍ، لمعرفة ما تشير إليه هذه المستويات إلى مناطق معيّنةٍ. ثمّ حلّلوا مومياوات قردين من قرود البابون، تعودان لعصر الدّولة الحديثة (1520-1069ق.م) وموجودتين في المتحف البريطانيّ، وخمسة مومياواتٍ تعود إلى عصر البطالمة (305-330ق.م) والموجودة في متحف بيتري للآثار المصريّة في جامعة لندن[3]. ووجد العلماء أنّ قرود البابون التّابعة لعصر الدّولة الحديثة قد ولدت خارج مصر، وبشكلٍ أقرب، في المنطقة الّتي تُعرف اليوم بإرتريا وإثيوبيا والصّومال، وجميعها بلادٌ لا تشترك مع مصر بحدودٍ بريّةٍ. وهذا ما دعا دوميني للإشارة إلى دور البحّارة المصريّين وقدرتهم الكبيرة على عبور البحر الأحمر. ومن المحتمل جدًّا أنّ بلاد بونت كانت على سواحل إرتريا والصّومال[1]. هذا، ولم يتمكّن الفريق من مقارنة المومياوات مع قردة البابون في اليمن. ومع ذلك، استنتج البروفيسور دومينى أنّه استنادًا إلى الخرائط النّظيريّة للمنطقة، فإنّ قرد البابون من اليمن سيبدو مثل قرد البابون من الصّومال، نظريًّا. وبما أنّ الصّومال ليست بالتّأكيد منشأ البابون، فإنّ هذا يشير إلى أنّ اليمن ليست موطن الأصل أيضًا[7].

قرد البابون.
قرد البابون.

ومن ناحيةٍ أخرى، لا يبدو على مومياوات قرود البابون الّتي تعود إلى العصر البطلميّ أنّها كانت مستوردةً من خارج مصر. لذا، فمن المحتمل أنّها ولدت ونشأت في مصر خلال العصر البطلميّ، وهو ما يتناسب مع النّصوص التّاريخيّة الّتي تصف تربية قرود البابون في مدينة ممفيس المصريّة[1].

ورغم هذه النّتائج، إلّا أنّها تُعتبر أوّليّةً ومؤقّتةً حسبما أفاد دوميني في 15 ديسمبر الماضي. والأمر يحتاج إلى دراساتٍ أخرى لكشف المزيد عن لغز قرد البابون وبلاد بونت معًا، لرسم صورةٍ أكثر كمالًا عن تجارة الحيوانات في العالم القديم. ومع ذلك، فقد خَلُص الباحثون إلى أنّ قرد البابون المقدّس كان أحد العناصر التّجاريّة المحفّزة لتطوّر التّجارة بعيدة المدى في مصر القديمة[1].

في الختام

في النّهاية يجول في الخاطر سؤالٌ؛ ما الّذي دفع المصريّين إلى عبادة حيوانٍ لم ينشأ بالقرب من مياه النّيل الواهبة للحياة؟ وربّما يحاول ناثانيال دوميني الوصول إلى إجابةٍ على هذا التّساؤل. و تفترض بعض تكهّنات علماء المصريّات بأنّ قرد البابون كان ينطق بصوت شروق الشّمس عند الفجر، وقد كان لشروق الشّمس صدًى في بعض الممارسات الدّينية المصريّة القديمة. ومن المحتمل أنّ المصريّين القدماء شهدوا بأنّ السّلوك الطّبيعيّ لذلك الحيوان يستحقّ التّبجيل. وعندما ترى عن كَثْبٍ في حالة قرود البابون في مصر تجدها غالبًا ما تواجه الشّرق مع رفع الأذرع، وهو ما يُسمّى بوضعيّة «العشق»[5]. وبغضّ النّظر عن البحث عن إجابة هذا السّؤال، فقد كان المستوى التّقديسيّ كافيًا لتبرير استيراد وتربية وتحنيط هذا النّوع من القرود وتمثيله بشكلٍ كبيرٍ في حياة المصريّ القديم[4].

شارك المقال:
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
3 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Hosny adam
Hosny adam
2 سنوات

ولماذا لا يمكن إدخال قرد البابون بطرق شمال مصر،، لماذا وفقط البحر والبحار والبحار؟؟؟؟؟؟

Mostafa labib
Mostafa labib
2 سنوات

شكرا .. عرض جميل وسهل لموضوع علمي واسع ومعقد ..تقديري لكل من ساهم في هذه الدراسة .. ولعلها تكون خطوة مهمة لكشف سر تلك العلاقة بين المصريين وقرد البابون ومكان نشأته .

تواصل معنا

«الباحثون المصريون» هي مبادرة علمية تطوعية تم تدشينها في 4/8/2014، بهدف إثراء المحتوى العلمي العربي، وتسهيل نقل المواد والأخبار العلمية للمهتمين بها من المصريين والعرب،

تابعنا على منصات التواصل الإجتماعي