يكاد يكون من المستحيل إنكار أهمية رواية «قصة الخادمة-The Handmaid’s Tale» الاجتماعية والسياسية. ففي رواية «مارجريت آتوود-Margaret Atwood» عام 1985م، أجمع النقاد والمشاهدون على حدٍ سواء بأن عالم «جيليد-Gilead» البائس -حيث تُجرد النساء من جميع الحقوق الإنسانية- لم يعد متأصِّلًا في الأدب القصصي فقط. وبينما أشاد كثيرون بمواضيع الكتاب النسويَّة، لم يلاحظ أحد أن نسخة موقع «هولو-Hulu» تسلط الضوء على تحذير آتوود الخاص الموجه إلى الكاتبات والمؤرخات والفنانات وصانعات الأفلام الوثائقية. ففي مجتمع ذي طبيعة سلطوية يتميز بـ التطرف والعنف، تُسلب حرية الكتابة والكلمة لإخماد صوت المرأة.
وتتعرض النساء في «قصة الخادمة-The Handmaid’s Tale» للاضطهاد بكل الطرق الممكنة، ولا سيما من خلال الاغتصاب والمصادرة الرسميَّة لحقوقهنَّ الإنجابية. كما أنهنَّ محظورات من القراءة والكتابة -وهي قيود لا تُجردهنَّ من إنسانيتهنَّ فقط، بل تُجردهنَّ أيضًا من أي فرصةٍ لتسجيل تاريخهنَّ الخاص. وقمع الإدراك والتمكُّن الأدبي والمعرفي هذا يتخلل الكتاب والمسلسل التلفزيوني المقتبس عنه؛ هذا الأخير الذي بدأ عرض موسمه الثاني للتو.
وقد لا تتذكر أن الراوية والشخصية الرئيسية «أوفريد-Offred»، وهو الدور الذي تؤديه الممثلة «إليزابيث موس-Elisabeth Moss»، والتي كانت سابقًا محرِّرة كتب مساعدةٍ، وأصبحت خادمة انفصلت قسرًا عن زوجها وابنتها لكي تصبح رَّحمًا ظِئْرًا لأحد الأزواج الأكثر نفوذًا في جيليد. فقد ساعدت «أوفريد» في نشر بعض الروايات والمؤهلات العلمية، بما في ذلك «تسعة مجلدات عن تاريخ البَزْدَرَة» -والذي تسخر زميلتها الخادمة «أوفجلين-Ofglen» منه تلقائيًا، وهو الدور الذي تؤديه الممثلة «ألكسيس بلدل-Alexis Bledel»، قبل أن تعلَّق عليه قائلة: «في الواقع، يبدو أن متعتي ستبدأ الآن»
وليس من قبيل المصادفة أن «أوفريد» امتهنت سالفًا مهنةً في القراءة والكتابة والتحرير، والآن ليس لديها أي سبيل حقيقي لكلمات من أي نوعٍ. ففي الحلقة الثانية، عندما يُطلب من «أوفريد» الذهاب إلى مكتب الحاكم الخاص، فإنها تحدق في أرفف الكتب الممتدة من السقف إلى الأرض في انبهار؛ ولاحقًا، أثناء لعبة «سكرابل-Scrabble» الممنوعة، تقوم «أوفريد» بفحص قطع الأحرف كما لو أنها قد تبكي. وفي الحلقة الرابعة، عندما تُعاقب وتُعزل في غرفة نومها لأسابيع، فإن عزاءها الوحيد هو عبارة لاتينية تجدها منقوشة على اللوح القاعدي لخزانتها.
وهناك مثال آخر للتحذير الذي تقدمه «قصة الخادمة-The Handmaid’s Tale» للكاتبات. ففي الحلقة السادسة، كان من المدهش معرفة أن «سيرينا جوي-Serena Joy» مؤلفة معروفة، وهى زوجة الحاكم وناشطة محافظة. وكان يُعتبر كتابها «مكانة المرأة» أيضًا نصًا حول «النسويَّة القومية»، بالإضافة إلى كونه مليئًا بالسياسات اليمينية -وهو الأمر الذي سرعان ما تشير إليه السفيرة «كاستيلو-Castillo» قائدة المكسيك.
وتقوم السفيرة «كاستيلو»، والتي لم تعتنق بلادها بَعْد حركة «جيليد»، بتحدي ساخر حول إذعان «سيرينا جوي» لهذا العالم الجديد بسؤالها مباشرةً: «أسبق لكِ آنذاك تخيل مجتمعًا مثل هذا؟» ولكن قبل أن تعطي «سيرينا» إجابتها الشكلية تُقاطعها السفيرة «كاستيلو» موضحةً: «مجتمعًا لم يعد بإمكان النساء فيه قراءة كتابك … أو أي شيءٍ آخر». وهنا، نرى أخيرًا بداية ارتباك هدوء «سيرينا جوي» الظاهري الزائف، فتعترف قائلةً: «لا، لم أفعل». وفي نفس الحلقة، نعلم عبر استرجاع المَشاهد لما قبل «جيليد» أن «سيرينا جوي» كانت سابقًا كاتبة ذات إنتاجٍ غزير -تكتب المقالات المستقلة وتعمل على كتابها الثاني. فياللسخرية بالطبع أن «سيرينا» كانت لها يدًا في تأسيس حكومة تحرمها الآن من حرية القيام بشيء كرست هى حياتها من أجل السعي وراءه.
وفي مجتمع القرن الحادي والعشرين، لا يزال التَثَقُّف شكلًا من أشكال التمكين، وسبيلًا إلى استقلال المرأة، على الرغم من العمل ضمن الهيمنة الذكورية؛ وفي «جيليد»، الكتابة من قبل المرأة هي شكل من أشكال التمرد والعصيان الصريح. لم يتم تجسيد هذا بشكل أقوى مما تم في الحلقة العاشرة خاتمة الموسم الأول عندما فتحت «أوفريد» أخيرًا الطَّرد من «ماي داي-Mayday» -الطرد ذا الورق البنِّيّ الذي تخاطر بحياتها حرفيًا لتستلمه- فقط لتطلع على بضعة أحرف.
وتقوم زميلات «أوفريد» الخادمات بكتابة الرسائل على المناديل، وقصاصات الورق، وحتى حواف الكرتون البالية، وكل ما يمكن الاحتفاظ به. وفي هذه الرسائل، تُسجل النساء أسمائهنَّ وهو أمر محظور، ويتشاركنَّ قصصهنَّ، ويدوننَّ متى تم أسرهنَّ وأين يتم احتجازهنَّ جغرافيًا، ويذكرن أحيانًا حياتهنَّ السابقة أو مهنهنَّ، وأسماء أطفالهنَّ الذين سُلبوا، والاغتصاب الشعائري الذي عانوا منه. ويختلف محتوى كل رسالةٍ، ولكن يبقى التوسُّل كما هو: ساعدونا، تذكرونا، شاركوا قصتنا. ومن هذه الرسائل: «أيًا كان من سيحصل على هذا، رجاءً لا تنساني…رجاءً لا تنسانا جميعًا.» وتقرأ «أوفريد» كل رسالةٍ في تأثرٍ بالغ، باكيةً تحرك يدها فوق الأحرف، شاعرة بالقهر لمدى جسامة وقسوة الموقف. وعلى الرغم من حدَّة المشهد، إلا أنه لا يُعد لحظة قاتمة حقيقية في حياة البطلة. فتبتسم «أوفريد» والدموع في عينيها إذ يغمرها الشعور بالتماسك والعزم. فبفضل الكتابة، لم تعد تشعر بالوحدة. ولأول مرةٍ منذ أمدٍ طويلٍ، لديها أملًا في المستقبل.
وهذه واحدة من أقوى المشاهد وأكثرها تصاعدًا في المسلسل حتى الآن، وذلك لأسبابٍ صريحةٍ وضمنيةٍ. وخلال أحداث المسلسل، نرى تبعات حجب الكتابة كما هو موضح مرارًا وتكرارًا في حالات النساء الأشد تأثرًا بذلك. وتُظهر قصصهنَّ كيف يؤدي هذا القمع إلى حرمانٍ إجباريّ من المعرفة، مما يحدُّ من استقلال المرأة في عالم تتجذّر فيه السلطوية. فببساطةٍ: إذا أُنكر حق النساء في تسجيل ومشاركة تاريخهنَّ، فسيصبحنَّ محدودات في قدرتهنَّ على التعلم من خبرات أسلافهنَّ. فكيف يمكنهنَّ التواصل والتعلم من بعضهنَّ البعض، والوصول إلى نفس المعرفة المتاحة لغيرهم؟ فبدون القدرة على الوصول إلى التاريخ المدوّن واستيعابه وصياغته، لا يمكن للنساء التطور والنمو بعد الآن.
وحين التفكر بـ أن «جيليد» كانت يمكن أن تكون صورة تعكس مجتمعنا الحالي، فإن الأمّيّة المفروضة على النساء في هذا العالم البائس تصبح أسوأ أسلحة النظام شرًا وفسادًا. وفي مجتمعنا الحالي، إن القدرة على القراءة والكتابة ضرورية إذا كان المرء يرغب في الرقي الاجتماعي والاقتصادي. فإن إنكار حق فئاتٍ معينةٍ من الناس في السعي إلى التَثَقُّف هو جريمة واعتداء نفسي صريح، وهى تلك التي بدأتها أمريكا خلال الحقبة الاستعمارية وحقب ما قبل الحرب، وما زالت تواصل ممارستها بطرقٍ عديدةٍ. ومن خلال هذا ، يمكننا البدء في فهم الآثار المترتبة على رفض التَثَقُّف لدى النساء؛ فعلى أي حالٍ، يُظهر تاريخنا كيف يُمكن للقيود المفروضة على المعرفة أن تتصاعد سريعًا إلى إساءةٍ كاملةً في اِستعمال السلطة، وفي النهاية، استعباد.
وهى رسالة قاتمة، ولكنها الرسالة التي تجسدها «قصة الخادمة-The Handmaid’s Tale» بوضوحٍ. ففي مجتمعنا، ولا سيما في هذا المناخ السياسي، تُعد الحرية المعرفية للمرأة سلاح لتحقيق العدالة الاجتماعية يجب علينا الدفاع عنه مهما كلف الثمن. فبدون الوصول إلى الحرية الكتابية والمعرفية، تُختزل قيمة المرأة في المجتمع في جسدها. وبدون القدرة على تدوين أفكارنا، ستُفقد على الفور أو تقمَع أو تضيع للأبد بين طيات النسيان.
ترجمة: آلاء هشام
مراجعة وتحرير: آلاء مرزوق
المصدر:
Hoge, Rachel. “The Handmaid’s Tale and the Silencing of a Woman’s Voice.” The Ploughshares Blog, blog.pshares.org/index.php/the-handmaids-tale-and-the-silencing-of-a-womans-voice/.
https://bit.ly/2y2pKG8