خلاصة العديد من الأبحاث في كتاب (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)، والذي صدر عام 1877م. قسم الاقتصادي الشيوعي الشهير فريدريك أنجلس (Frederic Angels) مراحل تطور المُجتمعات الإنسانية إلى ثلاثة هي: الوحشية والبربرية والحضارة، و ذلك وفقًا لمؤشرين اقتصاديين هما أدوات وكيفية إنتاج الغذاء، وقرن التطورات التي لحقت بنظام الزواج بهذين المؤشرين والتطورات التي أصابتهما.
الإنسانية في المهد
قسم أنجلس كُلًا من تلك المراحل الثلاث إلى ثلاثة مستويات هي الدُنيا والوسطى والعُليا، وفقًا للمؤشرين السابقين، بحيث يبدأ المُجتمع بمرحلة الوحشية في المستوى الأدنى ويتطور حتى يصل إلى مرحلة الحضارة في المستوى الأعلى، وقال بأن الوحشية: هي المرحلة التي ساد فيها اعتماد الإنسان على الطبيعة في حصوله على غذاءه؛ حيثُ اعتمد على الجمع والالتقاط للثمار والجذور، أما البربرية: فهي المرحلة التي تعلم خلالها الإنسان تربية الحيوانات الأليفة وممارسة الزراعة، واكتساب المهارات لزيادة انتاج المنتجات الطبيعية من خلال النشاط البشري، وعرف الحضارة بأنها: هي المرحلة التي تعلم فيها الإنسان إجراء تطبيقات أكثر تقدمًا على منتجات الطبيعة، فنشأت الثورة الصناعية والفنية والثقافية[1]، وارتبط نظام الزواج طوال تلك المراحل بالتطور الاقتصادي الذي تتمثل في تطور وسائل الإنتاج.
السيادة الأنثوية
بدأت الحياة في المُجتمعات البدائية خلال مرحلة الوحشية والمستوى الأدنى من المرحلة البدائية بريادة المرأة في المُجتمع والأسرة، إذ كان المُجتمع في ذلك الوقت أنثويًا بامتياز، ويُرد ذلك لدى العديد من الاقتصاديين والأنثروبولوجين إلى طريقة تكوين الأسرة ذاتها –كونها النواة الاساسية للقبيلة- والتي اعتمدت على نظام شيوعي تطور مع الوقت، فبدأت أولًا- بزواج بين جميع أفراد القبيلة الذين ينتمون إلى جيل واحد، فيشكلون معًا جيلًا أولًا، وفي هذا الزواج يكون كل رجل من هذا الجيل زوج لكل النساء فيه، وكل سيدة زوجة لكل الرجال فيه، وبالتالي يكون كل الأطفال الناتجين عن هذا الزواج إخوة وفي ذات الوقت أزواج عند البلوغ ويشكلون جيلًا ثانيًا، كان هذا النظام يمنع الزواج بين الأجيال، بمعنى أنه يمنع الزواج بين الجيل الأول والثاني أي بين الأبناء والآباء، وسمي هذا النظام بالعائلة الأقارب (Consanguine Family)، وساد هذا النظام خلال المستويين الادنى والأوسط في مرحلة الوحشية[2]. ثم تطور هذا النظام خلال المرحلتين اللاحقتين إلى ما يُسمى بالـ (punaluan Famil) والذي منع الزواج بين الأبناء من ذات الأم بالإضافة إلى منعه بين الأجيال، لكنه أبقى على الزواج الشيوعي بين جميع الرجال والنساء في القبيلة الذين لا ينطبق عليهم أيًا من شرطي المنع السابقين.
الجمع والصيد
كان هذا الزواج الشيوعي في الأساس قد انتشر بسبب أساليب الحصول على الغذاء، حيث لم يكن الانسان في هذه المستويات الأربعة من التطور قادرًا على تخزين غذاءه، فكانت اساليب الحصول على الغذاء تقتصر على جمع الثمار والجذور من الأشجار، ثم تطورت إلى صيد الأسماك والحيوانات المائية وطهيها باستخدام النار، ثم بعد ذلك، اصطياد الحيوانات، وذلك بعد اختراع القوس والسهم. وفي ظل تلك النظم لم يكن يتبقى فائض للإنسان لكي يختزنه لاستعماله في المُستقبل، لأن اختزان أيًا من تلك المُنتجات كان يؤدي إلى فسادها وعدم القُدرة على استعمالها مما يوجب استهلاكها في الحال، ومن ناحية أخري تطلب حصول الإنسان على غذاءه تعاون عدد كبير من أبناء القبيلة إن لم يكُن جميعهم، فسواء الجمع أو اصطياد الأسماك أو الحيوانات يوجب اشتراك أعداد كبيرة، أولًا- لصعوبة أداء هذه المهام في ظل بيئة مُعادية للإنسان يمكن أن تتسبب في قتله بأبسط الطرق، ثانيًا- لتوفير كمية الغذاء المُناسبة[3].
ضمن هذا الزواج الشيوعي تفوق النساء في المنزل والمُجتمع، بسبب استحالة نسب الطفل لوالده بشكل يقيني، مما أدى إلى نسبة الأبناء إلى أمهاتهم النساء، وهو ما سبب في النهاية اكتساب الأمهات احترام أعلى من الاحترام الذي يحوزه الذكور[4].
البدائية واكتشاف الزراعة
مع انتهاء المُستوى الأدنى في مرحلة الهمجية وبدأ مستواها الأوسط تعلم الإنسان كيفية استئناس الحيوانات وترويضها واستعمالها لخدمته بأساليب مُختلفة; كالكلاب في الحراسة والخيول للركوب والماشية والأغنام وبعض أنواع الطيور للطعام، ثم تعلم الزراعة في البداية لتوفير الغذاء لحيواناته التي استئنسها وما لبس أن اكتشف أنها يُمكن أن توفر له طعامه. أثرت هذه التطورات على استقرار الإنسان: إذ أدى ترويض الحيوانات لتعلم الإنسان الرعي الذي يتطلب نوعًا من الاستقرار حول المراعي بنسبة أكبر من تلك التي يتطلبها الالتقاط أو الصيد بنوعيه البري والبحري، ثم أدى اكتشاف الزراعة إلى استقرار دائم بجوار الأرض الزراعية وحول مصادر المياه; من ثم استعمل الطوب اللبن والأحجار في تشييد منازل ليستقر بها سواء بجوار المراعي أو على ضفاف الأنهار. كذلك أدت نُظم الانتاج الجديدة لتوفير فائض من المنتجات الغذائية الحيوانية مثل اللحوم، الألبان والبيض، ومنتجات نباتية مثل القمح والفواكه كالبطيخ والقرع وغيرها، بالإضافة إلى مُنتجات غير غذائية حيوانية مثل الصوف والجلود، ونباتية مثل الكتان. خُزنت تلك الفوائض في أواني من الفخار كان الإنسان قد صنعها عند نهاية المستوى الأدنى من الهمجية[5]، هذه الفوائض من الغذاء والاستقرار أديا إلى زيادة أعداد السُكان بسب توافر الغذاء والكساء والبعد عن العوامل الطبيعية الفتاكة.
تغيُر المزاج المُجتمعي
أدى تطور الظروف الاقتصادية إلى تغيير مزاج الذكر والأنثى من فكرة الزواج الشيوعي وحاول كلًا منهم إزاء هذه الظروف الدخول في نوع جديد من الزواج الأحادي بين رجل واحد وامرأة واحدة، أو رجل واحد ونساء معدودات، فالنسبة للنساء أدت الزيادات الكبيرة في أعداد السكان إلى انتهاء العلاقات الجنسية التقليدية ذات الطابع البدائي التي كانت مُنتشرة في حياة الغابة، ما أدى إلى شعور المرأة بأنها أكثر قمعًا وإهانة بسبب تداولها بين عدد كبير من الرجال. فأصبحت أكثر تطوقًا لزواج مؤقت أو دائم مع رجل واحد فقط ، كطريقة للخلاص من كونها مشاعًا بين جميع ذكور المُجتمع، أما الرجال فقد كانوا أصحاب الماشية والأرض الزراعية التي جلبت تلك الثروة التى لم يسبق لها مثيل، واحتاجت إلى الاشراف من ناحية ورعاية شديدة من ناحية أخري لإعادة إنتاج نفسها بكميات متزايدة باطراد وتوفير غذاء وفير في شكل حليب ولحوم وبذور. مما أدي لانحسار جميع الوسائل السابقة لتوفير الأغذية، حتى أن الصيد الذي كان المصدر الرئيسي للغذاء سابقًا، تحول بفعل هذه العوامل إلى ترف[6]، هذه الثروة والمُمتلكات التي حاز عليها الرجل أدت إلى محاولته نقلها لأبنائه من بعده، مما جعله يصر على أن تكون الزوجة له وحده دون غيره من الرجال، ليتأكد على سبيل اليقين أن من يرث أمواله التي أصبحت الآن مملوكة له ملكية خاصة هم أبناء من صُلبه[7].
المُجتمع الذكوري
في النهاية بقدر ما ازدادت الثروة، تعزز موقف الرجل في العائلة وأصبح أكثر أهمية من المرأة، مما خلق دافعًا لاستغلال هذا الموقف المعزز من أجل الإطاحة بالسيطرة الأنثوية على المجتمع، حتى يتمكن الرجل من ترتيب الميراث لصالح أولاده، والذي كان مُستحيلًا طالما تم حساب النسب من ناحية الأم في ظل الزواج الشيوعي. لذلك، كان من الضروري الإطاحة بالسيطرة الأنثوية، وهو ما تم فعلًا، وكان الإطاحة بحق الام هو الهزيمة التاريخية العالمية للجنس الأنثوي، إذ أخذ الرجل القيادة في المُجتمع والمنزل أيضا؛ فتدهورت مكانة المرأة وقُلصت أحيانًا إلى العبودية؛ وأصبحت في مُعظم الأوقات عبدة لشهوة الرجل ومجرد أداه لإنتاج الأطفال، وقد سُمي النظام الجديد بالـ(patriarchal family) أي أسرة يتولى السلطة فيها الأب أو الجد.[8]
رغم أن هذا التصور التاريخي لتطور نظام الزواج قد وجهت إليه العديد من الانتقادات سواء من الناحية الاقتصادية أو الانثروبولوجية إلى أنه في النهاية ظلت الأسرة في الأساس أسرة أبوية يقودها الأب، وتتغير مكانة الأنثى فيها تبعًا للمجتمع ذاته وما لحقه من تطورات فأحيانًا كانت الزوجة مِلكية خاصة للزوج كما العبيد في النظام الروماني، وأحيانًا يُسمح للرجل بتعدد الزوجات كما في المُجتمعات الشرقية، وأحيانًا أخري يقتصر الزواج على أنثى واحدة فقط كما في المُجتمعات الغربية.
مصادر
[1] Engels F. The origin of the family, private property and the state. Penguin UK; 2010 Apr 2,P44
[2] Morgan LH. Ancient society; or, researches in the lines of human progress from savagery, through barbarism to civilization 1877,P 19.
[3] Diamond J. Guns, Germs, and Steel: The Fates of Human Societies. W. W. Norton & Company; 2017. Pp20:36.
[4]Engels F. The origin of the family, private property and the state, Op. Cit,P60.
[5] Montgomery DR. Dirt: The Erosion of Civilizations. University of California Press; 2012,Pp27:49.
[6] Engels F. The origin of the family, private property and the state, Op. Cit,P64.
[7] أمين ج. فلسفة علم الاقتصاد: بحث في تحيزات الاقتصاديين وفي الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد. دار الشروق،; 2008. 292، ص97.
[8]Engels F. The origin of the family, private property and the state, Op. Cit,P67.
إعداد: محمد شادي.
مراجعة وتحرير: عبدالله أمين
تحرير: زياد الشامي