في عام 2002م، مَنحت الجمعيّة الملكيّة للكيمياء (The Royal Society of Chemistry) الزمالة الفخريّة لشارلوك هولمز (Sherlock Holmes)، ليصبح بذلك أوّل شخصيّة خياليّة تنال هذا الشرف العظيم. عُلّقت الميدالية حول تمثاله القائم خارج محطّة شارع بيكر بلندن. وجاء هذا التكريم تقديرًا لحبِّه للكيمياء وغرسه للقيم الأخلاقيّة الرفيعة في الأجيال المتعاقبة من محبّيه، عن طريق تسخير مبادئ الكيمياء لمواجهة الشرّ وتعقّ ب المجرمين. واعتبرت مغامراته المقروءة والمسموعة والمرئية تخليدًا رائعًا لتاريخ كيمياء الطب الشرعي.(1)
تعريف كيمياء الطب الشرعي (Forensic Chemistry)
كيمياء الطبّ الشرعي هي إحدى علوم الطبّ الشرعي، وتعني بتطبيق أساسيّات الكيمياء وتقنياتها في التحقيقات الجنائيّة.(2) من وجهة النظر الكيميائيّة، يمكن تعريف كيمياء الطبّ الشرعي أو الكيمياء الشرعيّة على أنّها تطبيق للكيمياء التحليليّة في أمور تخصّ القانون والعدالة.(3)
نبذة تاريخية
خلال القرن التاسع عشر الميلادي، قدّم الكيميائي البلجيكي جان سيرفيس ستاس (Jean Servais Stas) أبحاثًا للكشف عن أنواع معيّنة من السموم النباتيّة في جسم الإنسان، وعلى رأسها النيكوتين (Nicotine)، الذي يُعتقد أنّه كان وراء عدد من جرائم القتل الغامضة.
طوّر الكيميائي الألماني فريدريش يوليوس أوتو (Friedrich Julius Otto) أبحاث ستاس، ولا يزال اختبار الكشف عن أشباه القلويّات (Alkaloids) –منها النيكوتين- في الجسم يُسمّى اختبار ستاس-أوتو (Stas-Otto Test) إلى الآن.(4)
بحلول منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، تطوّر علم كيمياء الطبّ الشرعي بشكل أسرع؛ حيث شهدت هذه الفترة تقدّمًا ملحوظًا في تحاليل الدم، وابتُكِر اختبار مارش (Marsh Test) للكشف عن الزرنيخ (Arsenic) عام 1932م، وإجراء دراسات على بصمات الطلقات النارية.(4)
الأدلّة البيولوجيّة (Biological Evidence)
هي العيّنات البيولوجية التي تؤخذ من مسرح الجريمة إلى المعمل الجنائي لفحصها سعيًا وراء فكِّ طلاسم الجريمة، ومن أمثلتها: الدم، والسائل المنوي، واللّعاب.(5)
(1) الدم (Blood)
يُعتبر الدّم أهمّ دليل جنائي في الكثير من الجرائم العنيفة مثل جرائم القتل والاغتصاب. وترجع أهمّيّته إلى احتوائه على خصائص معيّنة تختلف من شخص لآخر، يمكن أن تساعد هذه الفروق في تحديد ما إذا كان المشتبه به ارتكب الجريمة أم لا.(4)
أوّل خطوة في عمليّة الفحص هي التأكّد أنّ البقعة الموجودة في مسرح الجريمة هي بالفعل دماء وليست مادّة أخرى شبيهة به، مثل الطلاء الأحمر أو الكاتشب. توجد عدّة اختبارات للكشف عن الدم، أشهرها اختبار لومينول (Luminol Test) نظرًا لحساسيّته العاليّة؛ فهو يستطيع الكشف عن الدماء حتّى بعد تخفيفها إلى 10 مليون مرة، ممّا يجعله مناسبًا تمامًا للاستخدام في حالة قيام المجرم بإخفاء معالم جريمته عن طريق تنظيف مكان الجريمة، كما يعطي نتائج إيجابيّة حتّى بعد مرور بضع سنوات على بقع الدماء.
يُجرى الاختبار عن طريق رشّ محلول اللومينول على المناطق المشتبه تواجد الدم فيها، فإذا ظهر ضوء بنفسجي مائل للزرقة متوهّج، يعني ذلك وجود دماء على هذه المناطق. ويجب أن تكون الغرفة مظلمة ليسهل مشاهدة الضوء بوضوح.(4)(5)
يلي اختبار لومينول اختبار تأكيدي مثل اختبار تايشمان (Teichmann Test)، وفيه تتكوّن بلّورات بُنيّة اللّون في حالة وجود آثار للدّماء. بعد ذلك يجب التأكد من أنّها دماء بشريّة لا دماء أحد الحيوانات عن طريق اختبار المُرَسِّبَة (Precipitin Test). ثم تُفحص فصيلة الدم (Blood Type) والحمض النووي (DNA).(4)
(2) السائل المنوي (Semen)
يُشكّل السائل المنوي دليلًا قيمًا في حالات الاغتصاب، ويمكن استخدامه في كثير من الأحيان لإثبات أنّ الاغتصاب وقع بالفعل، وتحديد هويّة المغتصِب. حيث تُفحص العيّنة المشتبه فيها باستخدام الميكروسكوب للكشف عن الحيوانات المنويْة (Spermatozoa)، حيث ظهور الحيوانات المنويّة بها يؤكّد وجود السائل المنوي. بالرغم من الأهمية الكبيرة لاختبار الكشف عن الحيوانات المنوية إلا أنّه غير كافي؛ وذلك لسببين:
السبب الأول هو أن بعض الرجال يعانون من ندرة أو انعدام إنتاج الحيوانات المنويّة، والثاني هو أنّ الحيوانات المنويّة ضعيفة نسبيًا ويمكن أن تتعرض للتدمير بسهولة. لذلك يجب إجراء اختبارات إضافية للتأكّد من وجود السائل المنوي.(4)
أحد أشهر هذه الاختبارات هو اختبار الفوسفاتيز الحمضي (Acid Phosphatase Test)، وفيه تُضاف كواشف كيميائية معيّنة إلى العيّنة، وينتج تفاعل ملوّن في حالة وجود السائل المنوي. وتمتدّ فعاليّة هذا الاختبار لبضع سنوات بعد وقوع الجريمة، ما لم تُغسل البقعة الموجود عليها السائل المنوي. يلي ذلك اختبارات أخرى لتحديد هويّة الجاني، على رأسها اختبار الحمض النووي.(4)(5)
(3) اللّعاب (Saliva)
يمكن الحصول على عيّنات اللّعاب بسهولة من الأكواب، والسجائر، والمنتجات الغذائيّة، ومظاريف الخطابات، وغيرها من المصادر.
اللّعاب غير منتشر بكثرة كدليل جنائي مقارنةً بالدم والسائل المنوي، لكنّه يلعب دورًا رئيسيًا في القضايا التي تتضمّن اعتداءً جنسيًا أو وجود أطعمة عليها علامات قضم.
يُستخدم فحص إنزيم الأميليز (Amylase Test) للكشف عن وجود اللّعاب، ويساهم إجراء اختبار الحمض النووي على عينة اللّعاب في تحديد الأشخاص المشتبه بهم.(3)
بصمات الأصابع (Fingerprints)
البصمات هي السِّمة المميِّزة للجلد البشري، وتوجد على باطن الأصابع وباطن القدم. وتكاد تكون المكان الوحيد غير النّاعم على جلد الإنسان. ويعتقد علماء الأحياء أنّ البصمات نشأت على اليدين والقدمين لتمنحهما سطحًا خشنًا يساعدهما على الثبات والإمساك بالأشياء. تبدأ البصمات في التشكّل أثناء تواجد الجنين في رحم أمّه، وتكتمل تمامًا قبل ولادته.(4)
تتميز بصمات الأصابع بميزتين أساسيّتين؛
- الأولى: أنّ كلّ إنسان له بصمة فريدة، فلم يُعثر على اثنين من البشر لديهما أنماط بصمات متطابقة حتّى الآن.
- والثانية: أنّ أنماط بصمات الأصابع لا تتغيّر أبدًا خلال حياة الإنسان، وأيّ محاولات يُقصد بها تدمير أو تغيير نمط البصمات باءت بالفشل، حيث ظهرت البصمة القديمة من جديد بمجرّد نمو الجلد مرّة أخرى. وهذا يجعل منها دليلًا هامًا للغاية للتفرقة بين المشتبه بهم.(4)
توجد ثلاثة أنواع من البصمات في مسرح الجريمة:(4)
- البصمات المرئيّة (Visible Prints)، وتظهر عندما يُلطّخ الإنسان يديه بمادة ملوَّنة (مثل الدماء أو الحبر) ثم يلمس سطحًا أملسًا فيترك آثارًا عليه.
- البصمات البلاستيكيّة (Plastic Prints)، وتتكون عندما يلمس الإنسان مادة ليّنة، مثل الطين أو الشمع أو الصابون.
- البصمات الخفيّة (Latent Prints)، تُسمّى بذلك لأنها لا تُرى بالعين المجرّدة، وتتكون كنتيجة لإفرازات الغدد العرقيّة.
الغالبيّة العظمى من بصمات الأصابع التي يتعامل معها المحقّقون الجنائيّون هي من نوع البصمات الخفيّة، لذلك طُوِّرت العديد من التقنيّات للكشف عن هذه البصمات وجعلها مرئيّة.
إحدى هذه الطرق هي نثر مسحوق ملوَّن على البصمة، وبمجرَّد أن تصبح مرئيّة نقوم بتصويرها أو نقلها إلى شريط شفاف عن طريق وضعه برفق فوقها. يمكن أيضًا استخدام بعض الطرق الكيميائيّة أو الضوئيّة للكشف عن البصمات.(4)
السموم (Poisons)
رغم أنّ القتل بالسُّمِّ شائع جدًا في القصص البوليسيّة، إلا أنّه في الحياة الواقعيّة ليس كذلك. حيث أنّ أقلَّ من 0.5% فقط من جرائم القتل ناتجة عن تناول السّم.
تشمل السموم الشائع استخدامها هذه الأيام: الزرنيخ، والسيانيد (Cyanide)، والاستركنين (Strychnine)، بالإضافة إلى مجموعة مختلفة من المواد الكيميائية المصنوعة لأغراض أخرى (مثل الأسمدة).(6)
يوجد عدد ضخم من المواد السامّة، وهذا يُشكّل تحديًا كبيرًا لأخصائي السموم (Toxicologist) عند محاولته الكشف عنها. كما يجب عليه التميّيز بين التسمّم الحادّ (Acute Poisoning)، والتسمّم المزمن (Chronic Poisoning).
يحدث التسمّم الحادّ عند تناول جرعة عاليّة خلال فترة قصيرة من الزمن فتظهر الأعراض على الفور، كما هو الحال عند ابتلاع السيانيد أو استنشاقه. بينما يحدث التسمّم المزمن عند تناول جرعات منخفضة خلال فترة طويلة من الزمن، ومن أمثلته التسمّم بالزئبق أو الرصاص، حيث تتطوّر الأعراض بالتزامن مع ارتفاع تركيز المعدن وتراكمه ببطء في جسم الضحيّة حتّى وصوله إلى مستويات سامّة نتيجة التعرّض المستمرِّ له لفترة طويلة.(6)
يمتدُّ علم الكيمياء الشرعيّة أيضًا ليشمل الكشف عن المخدّرات، ومعرفة نوع السلاح المستخدم في الجريمة، وتحليل المنسوجات، وآثار المفرقعات والحرائق، والعديد من الموضوعات الهامّة الأخرى. وتتطوّر الأبحاث المتّصلة به يومًا بعد يوم لتحسين جودة عمليّة التحليل والتقصّي، والمساهمة في إنقاذ المزيد من الأبرياء والتخلّص من المزيد من المجرمين.
المصادر:
(1) RSC press release: Sherlock Holmes honorary fellowship [Internet]. [cited 2020 May 19]. Available from: https://www.rsc.org/AboutUs/News/PressReleases/2005/Sherlock-holmes-rsc-fellowship.asp
(2) Khan JI, Kennedy TJ, Christian DR, Jr. Basic Principles of Forensic Chemistry [Internet]. Humana Press; 2012 [cited 2020 May 15]. Available from: https://www.springer.com/gp/book/9781934115060
(3) Castillo-Peinado LS, Luque de Castro MD. An overview on forensic analysis devoted to analytical chemists. Talanta [Internet]. 2017 May 15 [cited 2020 May 15];167:181–92. Available from: http://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0039914017301959
(4) Forensic Chemistry [Internet]. [cited 2020 May 16]. Available from: https://www.goodreads.com/work/best_book/4993193-forensic-chemistry-the-new-chemistry
(5) Forensic Science – Crime Scene Processing [Internet]. [cited 2020 May 16]. Available from: https://dps.mn.gov/divisions/bca/bca-divisions/forensic-science/Pages/forensic-programs-crime-scene.aspx
(6) 9781305077119 | CengageEMEA [Internet]. [cited 2020 May 17]. Available from: https://www.cengagebrain.co.uk/shop/isbn/9781305077119